الجندي المجهول
وقف أحد أمراء الأندلس في مكان مرتفع ونظر إلى جيشه الكبير وقد ملأ السهل والجبل ؟!!! فالتفت إلى قائد الجيش وقال له كيف ترى هذا الجيش ؟ قال : ـ أرى جيشاً واسعاً كبيراً .
فقال له :
ـ هل فيه ألف مقاتل من الشجعان ؟
فسكت القائد ، فقال الأمير :
ـ لماذا سكتَّ ، أليس فيه ألف شجاع ؟
قال : لا .
فتعجب الأمير وبدا عليه الغضب وقال :
ـ هل فيه خمسُ مائةٍ من الأبطال المعدودين ؟
قال القائد : لا .
فازداد غضب الأمير ، وقال :
ـ أليس فيه مائة رجل من الأبطال ؟
قال قائد الجيش :
ـ لا أظن ذلك .
فقال الأمير :
ـ خمسون بطلاً ؟
فسكت القائد ، ونظر إلى الأرض وقال بصوت منخفض :
ـ أخشى ألا يكون !!
فأغلظ له الأمير بالقول وخلعه من منصبه ، وجعله جندياً كأحد الجنود ؟! واتجه بالجيش لمقابلة الروم ، وحين التقى الجيشان ، خرج فارسٌ من فرسان العدو يُهدد ويُنادي :
ـ أين الأبطال ؟ هل من مبارز ؟
فخرج له رجل من المسلمين ، فتضاربا ساعة ولكن ولكن الرومي عاجلهُ بضربةٍ ، فسقط عن فرسه . فازداد عُجباً وغروراً ، وصاح أصحابه به فرحين ، واضطرب المسلمون وحزنوا .. وعاد الرومي يلوّح بسيفه ويشمخ بأنفه ، ويُجري فرسه في الساحة التي تفصل ما بين الجيشين وهو يردد بغرور :
ـ هل من مبارز ؟ اثنين لواحد ..
فخرج من صفوف المسلمين رجل ، ولكن الرومي كان أعجل منه فطعنه ، ثم هاج كالثور يضرب برجليه على بطن فرسه ، والروم يهتفون له ، فأحسّ العرب بالانكسار ، وعبست الوجوه ، واضطربت النفوس !! فقال أحد المقربين من الأمير :
ـ ليس لهذا الرومي إلا قائد الجيش المعزول ؟!
فأرسل إليه الأمير وقال :
ـ ألا ترى ماذا فعل هذا العلجُ الكريه ؟
قال : وماذا تريد أن أفعل ؟
قال الأمير :
ـ أريد أن تكفينا شرّه ، لتعود الثقة إلى نفوس جنودنا ، فإننا لو دخلنا المعركة بهذه النفوس نخشى أن نُهزم !
فهزّ القائد رأسه وقال :
ـ إنتظروني قليلاً ، فلم ترَوا إلا ما يسرّكم ـ إن شاء الله ـ
ثم دخل في صفوف الجنود يبحث عن عدد من الرجال كانوا معه في معارك سابقة ، فوجد واحداً منهم ، معه فرس ضعيفة لا تعجب من يراها ، وبيده قربة ماء ، وليس معه عتاد يدل على أنه من الفرسان ، فاقترب منه القائد ، وقال :
ـ ألست ترى ما فعل هذا الرومي ؟
قال : رأيتُ ، فما الذي تريد ؟
قال : أريد أن تكفينا شرّه ، ليرى الروم أن في جيشنا من هو أجشع وأقوى ؟
قال الجندي : وما النصر إلا من عند الله ، فوالله ما خرجت من بيتي وأنا أفكر بالعودة إليه ، وليس لي مال أخشى عليه ولا ولد يبكي عليَّ ومالي إلا أمّ عجوز تعيش في دويرة على ضفة النهر ، فإن متُّ فأحسنوا إليها ، وإن عدّت كفيتكم ذلك .
ثم شرب من القربة وتركها في الأرض ، وانطلق إلى الرومي غير مكترث به ولا خائف منه !
فلما رآه الروم ضحكوا وأيقنوا أن فارسهم سيقتل هذا العربي .. ووقف المسلمون يدعون الله أن ينصره على هذا الرومي المغرور المتعجرف ، ومضى بعض الوقت ، وارتفع الغبار ، ولم يعد أحد يرى شيئاً ، وما هي إلا ساعة حتى خرج الجندي المجهول وهو يجري ؟! ولم يستطع أحد معرفة السبب ؟ وخشي بعضهم أن يكون قد انهزم .. وحين اقترب رأوا رأس الرومي بيده ينطلق به باتجاه الأمير ، حتى وضعه أمامه ، ففرح الأمير فرحاً عظيماً فقبّل رأسه ، وضمّه إلى صدره وقال :
ـ بارك الله فيك ! والحمد لله الذي جعل في جيشنا أمثالك ، فكم نحن بحاجة إليهم ، ولو كانوا قلّة ؟!
فقال القائد وهو يمسك بيد الجندي :
ـ أيها الأمير عن هؤلاء الرجال أخبرتك ، فإنّهم إذا فُقدوا من الجيوش لم ينفعها كثرة العدد ؟! فإن الجيوش برجالها لا بأعدادها !
قال الأمير :
ـ صدقت أيها الأمير ..
ثم أكرمه ورفع درجته وردّه إلى قيادة الجيش مرة أخرى .
وسوم: 639