ويحك يا بدوية!
علي قطعة من حصير المسجد في إحدى قرى الوجه البحري ، جلست أنا والحاج مرعي عبد العزيز خارج المسجد ، لدراسة أحوال القرية والفقراء فيها والمرضي ، وكيف نساعدهم ؟ وفي أثناء الحديث أطلت علينا امرأة من القرية ، مثل الشمس في ضحاها ،خفضت رأسي ،و صرفت بصري بعيدا عنها ، حاولت العبث بخطوط الحصير حتى لا يقع بصري عليها مرة أخرى ، اقتربت من الحاج مرعي وسلمت يدا بيد ، وقال لها : مرحبا يا بدويَّة وسألها عن أحوالها ، وقال لها بتلقائية
: سلمي علي مولانا واسأليه الدعاء ، فسلمت ، ودعوت الله تعالي لها بالستر واليسر وحفظ زوجها ، وأولادها .
قال الحاج مرعي : يا مولانا هذه أجمل امرأة رأيتها في حياتي ، وفي حياتها قصة ، وهي في شبابها ، رغب في الزواج منها كل من رآها من الشباب ، من عائلات كبيرة ومتوسطة ، وبسيطة ، وعرض عليها أن يكون مهرها ، هو وزنها من الذهب الخالص ، ولكنها أحبت فتى فقيرا ، يعمل عند الناس بالأجر في حقولهم ، و أصرت عليه ، وتعبنا أنا والعمدة حتى خلصناها من المعجبين بها ، وزوجناها لحبيبها مبروك القسطي ، واقترحتُ عليه أن يأخذ ثلاثة أفدنة من أرضي ويزرعهم بدلا من شغل اليومية ، وبالفعل أخذ الأرض ، وكنت أساعده في شراء السماد وخلافه ، وكانت بدوية تحلب الجاموسة ، وتكنس الذريبة ، وتغسل أواني الطبخ علي الترعة ، ثم تعود للبيت فتعجن وتخبز ، وتجلس أمام الفرن وحدها ، ثم تذهب لزوجها بالتشريبة (طعام يقدم للعامل قبل الغداء ليساعده علي العمل وهو مثل [ البريك ] في أوروبا )، ثم تشد حزامها ، وتعمل مع زوجها ،في الحقل حتى قبيل غروب الشمس ، ثم تعود إلي بيتها لتجهيز الطعام ، وقد حباها الله تعالي بجمال في الخَلق والخُلق ، والعمل ، أه يا مولانا لو أكلت من عمل يدها مرة واحدة ، لن تنساها طول عمرك .
وقد رزقها الله تعالي بخمسة أولاد من مبروك ، وكلهم في التعليم.
قلت : حسبك يا حاج مرعي ، ولا داعي لإجهاد هؤلاء البائسين بطعامنا ، وشرابنا ، وأنا أتمنى عليك أنك إذا شعرت أن هؤلاء الناس في حاجة للمساعدة أن تخبرني لعلي أستطيع مساعداتهم في يوم من الأيام .
مضى علي هذا اللقاء عشرة أعوام لم أقابل فيها الحاج مرعي عبد العزيز ، وذات ليلة وأنا عائد من تفقد العمل في بناء المعاهد الأزهرية الدينية، وكنت أسكن في استراحة كلية أصول الدين بطنطا هاتفنى الحاج مرعى ، ورحبت به كثيرا لأنني أحبه وبعد التحية والسلام قال:
ـ هل تذكر بدوية التي سلمت عليها عند المسجد في قريتنا ؟
قلت : نعم أذكرها جيدا هل هي وزوجها وأولادها بخير ؟
قال : لا .
لقد أصيبت بمرض خبيث في قدمها وساقها اليمنى، وفعلنا المستحيل فلم نجد علاجا شافيا، وأخيرا قرر الأطباء قطع الساق من أوله لأخره .
قلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، أرجوك أن تطلب من أولادها ومنها الصبر واحتساب هذا المرض ومعاناته عند الله تعالى .
قال : هم صابرون مؤمنون ، وهذا هو رأس مال الفقير !!، ولكن المشكلة الآن ليست في الصبر ، المشكلة في [ روشتة العملية ] قال الأطباء إنها ستكلف 600 جنيه ( ستمائة جنيه) ، ولا أستطيع التصرف في هذا المبلغ ، لأنهم في حاجة إلي مبالغ كثيرة ، قبل وبعد العملية ، وقد كلمتك كي تتصرف في هذا المبلغ ، والعملية غدا في مستشفى الأورام بطنطا.. وخذ بدوية معك على الهاتف..
جاءني صوتها خافتا مريضا : يا مولانا ساعدني حتى أقطع رجلي وأستريح .
عاودت مهاتفته : لا تحمل هما ً سوف أقابلك عند باب المستشفى في التاسعة صباحا وقبل موعد محاضرتي .
أصبت بحالة لا توصف من الحزن فتدبير مبلغ كهذا عام1985م ليس بالأمر السهل ، فقد كان راتبي وقتها مائة وأربعون جنيها ولي أسرة في حاجة إلي أكثر من هذا المبلغ.
وتعجبت، كيف يكون حلم الإنسان الفقير قطع ساقه ؟ ، وبدوية بالذات بجمالها الذي أطاح بكثير من العقول ، بل كان من عناصر هذا الجمال شدة جمال قدميها ، هكذا قال لي الحاج مرعي .
حاولت أن أطرد الحزن والغم من رأسي لعلي أنام ، ولكن لا فائدة ، فصورتها وهي تسلم عليَّ عند المسجد ، وصورتها وهي خارجة من غرفة العمليات بلا ساق ، هاتان الصورتان تعتركان في عقلي وفي قلبي .. كلمت أحد رجال الأعمال الصالحين ، وشرحت له الظروف فقال لي :
ـ أرسل موظفا من مكتبك أو مر علينا في الصباح، وسيكون المبلغ جاهزا بإذن الله تعالي .
استراحت نفسي قليلا و لكن النوم خاصمني ، فأضأت الغرفة وتناولت الجرائد ، والمجلات ، خاصة مجلات الفن والتسلية ، وإذا بي أفاجأ في إحدي المجلات الفنية خبر بعنوان [ طرائف أصحاب المال العرب ] جذبني العنوان وقرأت ما يلي :
1- أقام رجل ثري سعودي [ من لصوص بترول المسلمين ] من دول الخليج ، قام بعمل حفل في قصر بإحدى جزر هاواي ، لكي يزف قطته ذات العيون الزرقاء ، علي قط جاره صاحب العيون الخضراء ، ودعا إلي الحفل العظيم معظم فناني هوليود وأوروبا ، وكثيرا من الأغنياء العرب ، وكان المدعوون يصلون إلي هناك ، في هاواي بطائرات خاصة علي حساب الثري السعودي ، وتم عمل مائدة طولها نصف كيلو متر ، عليها أشهى وأغلى الأطعمة من فرنسا ، جاءت إليهم في هاواي بالطائرات ، وتم إقامة حفل زواج القط علي القطة ، وأدخلوهما إلي غرفة نوم أعدت لذلك كلفت عشرات الآلاف من الدولارات، وتصدرت الزفة الفنانة الإيطالية العالمية صوفيا لورين ، وشهدت الليلة رقص وخمر واختلاط مقيت ، وتكلف الحفل حسب تقرير المجلة أربع وسبعون مليون دولار ، وبدوية لا تجد ستمائة جنيه لقطع ساقها ؟!!
رجل أعمال مصري كان يعمل بوابا ، وبدأ السمسرة في العقارات ، والاتجار في المخدرات، وأصبح من أغنياء الإسكندرية في مصر ، أقام هو الآخر حفل زفاف لابنه ، وأحضر جمعا من الراقصات ودعا كل الأغنياء ، وتفجَّر بداخله حقد قديم من أيام عمله كبواب ، وأراد أن يذل الأغنياء فألقي أثناء الحفل علي الأرض خمسة وعشرون ألف جنيه ذهب ، وجلس بجوار زوجته مستمتعا وهو يرى كبار الأغنياء وكبار الموظفين ، يلقون بأنفسهم علي الأرض لجمع جنيهات الذهب ، وقد كلف هذا الحفل بحسب المجلة ثلاثون ألف دولار ، وبدوية لا تجد ستمائة جنيه لقطع ساقها.
وسوم: 641