عواد

عصام الدين محمد أحمد

ينتصب المزاد، أمسك كيس القماش الفارغ إلا من بطاقات الرهن، يتبارى المعلم مصطفى مع البائعين، يأتى الفرج ما بين الشد والجذب، فيبارك المعلم البيع، يحدد لكل بائع ما يطلبه، وعم (عواد) ينطق الأثمان بسرعة تلازم المباركة، أنط كالقرد بين البائعين، أقبض النقدية؛ البائعون فيهم الغلس والبارد، أعصر فى زورى قفص ليمون حتى لا أتقيأ الأنفعال والعنف، من بائع لبائع وفلوس وراء فلوس، وينقضى المزاد، أفرغ من التحصيل مستهلكا الوقت الطويل فى المناهضة والملاحقة، أرتكن على لفة أقفاص جوار الميزان، أصنف أوراق النقد إلى فئات، ألف كل ألف جنيه بأستك، المبلغ النهائى لا يقل عن مائة باكو، أرفض مساعدة أبناء المعلم، ترد الفواتير تباعاَ، أصرف قيمتها، أسجل المنصرف فى الكشف، أبناء المعلم يهبشون مصروفهم الذى لا يقل عن مائة جنيه للفرد، على مشارف العصر يفرغ عم (عواد) من حساباته، يتمم على النقدية، ودائما ما يكون بها عجز:

-أى نعم لا أدفع قيمة العجز، ولكن الأمر يدعو للتفكير، فأنا لا أرد الكسور للبائع ، وبالتالى تتعين الزيادة فى النقدية.

-ربما يكون هناك خطأ فى الحساب .

-وربما يختبرنى عم (عواد)؛ فقيمة العجز لا تتعدى العشرين جنيها، صحيح المعلم(حمادة)ابن خال أبى وعم(عواد) يتحسب لهذا الأمر جيدا.

مع توالى الأيام أحضرت نوتة، أكتب الأرقام التى نطقها عم(عواد) ،أضيف إليها رهن العدايات، أكتشف أن النقدية بها زيادة تتجاوز المائتين جنيه ، لحظتها تقافزت فئران العالم فى عبى، تركبنى الوساوس :

-أرقام عم(عواد)على المزاد جميعها غلط ، يومياته خاطئة، نواياه سيئة.

لم أعر أرقامه ألتفاتاَ، أضرب جميع الأرقام على آلتى الحاسبة الصغيرة، أتأنى فى التحصيل، أدس فى جيبى خمسمائة جنيه، الميزانية مضبوطة، المعلم (حمادة) يحكى:

{ فضة امرأة جميلة وفتية، الوجه مدور ، العينان كعينى المها، التضاريس أنثوية لا تخطئها العيون رغماَ عن سمك البردة ، لا تظن بى الغواية، خالى بنى لها قصراَغرب البلد عند الجبابين، هذا الجمال لم ينجب إلا ولداَ وحيداَ ، ومع الغروب أنغرست مطواة (أدهم) فى سوته فمات، وأصبح يوماَ مشهوداَ، تجمعت القرية، والقتيل يغرق فى دمائه على شط الترعة، لا يملك الناس سوى البكاء والبلاهة، الليالى طويلة وفضة تجحظ عيناها، تتشنج قائلة:

-أكترى بهذا المال من يغسل العار، ولملك الموت أتباع يسرقون الأرواح بالذهب.

والخال إسماعيل يوارى خجله:

-زهقت منك، لا ينقصنى إلا نحيبك، عيناى لا تبصران إلاجثته الملطخة بالدم.

يثور أبوك محتداَ:

-حرام يا خال.

ينهنه :

-          ولكنه الدم.

يعقب أبوك:

-          لا تكرر يا خال ودع الأمر لله؛ والقانون سيقتص لك.

تستعجل فضة الخبر،زوجها يتقاعس).

يدس (عواد) ورقة فى يد المعلم هامساَ :

-هذه هى الأرباح .

يمزق الورقة، يستطرد:

{ أسدل الليل العماء، تدنو من سرير الجريد الذى يتقلقل فوقه زوجها، تكتف رجليه بحبل غليظ، تكمم بنته فمه بالزكيبة خشنة القماش، تحزان الزور بنصل حاد، تجرشان عظامه بالمدقة، أنات الغيظ تهز أوتار الرعب ،الوساوس تتراشق بالدماء، تغرفن الأشلاء فى المقاطف، تسحلانها وتفصلان اللحم عن العظام ، تستحلبن الكراهية.}

وفجأة ينقطع حبل التذكر بقدوم (نظمى)، لم يهنأ بالجلوس، عددت له خمسمائة جنيه من النقدية، حتى لا يتعلل بتعمد تأخيره؛ ويضن بفك خيوط أزمات المعلم الدائمة؛ العجيب أن المعلم لا يعنون علاقته مع  (نظمى  )بالربا؛ فالربا ـ كما يقول ـ يحرق تلال الذهب، ولكن(نظمى) ضيف دائم على مائدته، يخرج الألف بإيجار خمسين جنيه يوميا،ألف تجر ألف، يدفع أيجار البواكى بملل وضيق، أقبض مصروفى، وهو خمسة عشر جنيها، وقبل انصرافى ينتحى بى عواد جانباَ قائلاَ:

-          هات مائة جنيه.

-          لماذا؟

-          النقدية بها عجز مقداره مائتين جنيه، مائة لك والأخرى لى، ومن الغد جنب ذات المبلغ لى ولك.

أدس فى يده خمسين جنيها، أغادره متمهل الخطى، أشترى (قاروصة) سجائر ماركة (كنت)، تتوالى المزادات والصباحات، تراقبنى امرأة، تتسامر طويلا مع العجوز صاحب كشك السجائر، المرتكن على شمال المحل، تسلط إشعاعات عينيها لترتخى أعصابى، أخطأ فى الحساب والتحصيل، شباكها الأخطبوطية تحيط بأطرافى:

-          لا أدرى لماذا أنجذب إليها؟

-          وكأن الأنوثة الفائرة حينما تراودك لا تمهلها لحظة انتظار.

-          شهور قليلة وتتزوج فلم التسرع ؟

-          ما علاقة هذا بذاك؟

-          جسدها مرتع شهوة لا تحده تخوم.

أضع ألف جنيه فى جيب القفطان؛ وقبل الفضيحة أقبض (عواد) مائة جنيه، تشيعنى بعينيها كلما تحركت، وقبل غروبى إلى البيت، أركب شارع المحكمة الذى يصب فى رمسيس، أبحث عن المجلات الأدبية، فالشتاء الطويل أستهلكه فى الكتابة، خواطر؛ قصص؛ إرهاصات فكر؛ تأملات؛ فالورقة والقلم يلازماننى فى غدوى ورواحى، أقرأ الهامات والوجوه، ولكننى لا أجروءعلى الإقتراب من نفسى:

-          أيمكننى تبرير خياناتى ؟

-          سطوى على جيوب المعلم الذى آوانى تجاوز بسيط ، فما خفى أعظم.

-     رغبة الإنتقام تنقذف فى شتى الإتجاهات، ولا راد لأمرها؛ فالناس جميعهم أعدائى، اغتصبونى على قارعة الحاجات؛ غرفة النوم بعشرآلاف جنيه؛ حجرتى السفرة والصالون بعشر آلاف جنيه، التجنيد والأدوات الكهربائية بعشر آلاف جنيه؛ حلوة حكاية العشر آلاف! خلو رجل الشقة بثلاثين ألف ، كل هذا من أجل شهوةإ

-          أبذر الإتهامات فى أوراقى؛ لا يسلم منها الوليد فى مهده.

فى خضم الغربلة أشترى المجلات التى أريدها، وفى عودتى ألمحها، تفترش كراتين العنب، وكأن القدر يترصدنى، خلفها مقهى، أنا جالس عليه الآن، تجاورنى القعود؛ جسدها ينبض بالحياة، تفترشه مساحات العبث، تجاملنى :

-          الشارع (منور) يا عمدة.

أقلب المجلات قائلا:

-الشارع يسعد بأهله، يشع من عيونهم وميض الغواية.

-الله جميل يا باشا.

أسرح مع الرجل الجالس قبالتى، أحضر له النادل شايا وشيشة، استل من حقيبته سكيناَ ملفوفاَ فى كيس ،قطع ليمونة نصفين،عصر النصف فى كوب الشاى، وضع حجر المعسل الذى تعتليه الجمرات فوق الطاولة، ألبسه (الشربوش)، خلع اللاى وركنه جانباَ، لف قدميه حول البالونة الزجاجية، وبيديه شد قلب الشيشة النحاسى،عصر النصف الثانى فى مياه القلة الزجاجية، رد الأشياء إلى أصولها، لم تمض لحظة وجاوره رجل آخر الصحبة، جلب له الصبى كوب قهوة صغير، شرب نصف كوب الماء ودلقها ثانية فى القهوة، أحل عينى من الإنشغال بهما، ألتمسها؛ لا أجدها، وكأنها فص ملح ذاب فى نهر النيل، تأكلنى الحوادث على طاولة الأيام،(عواد) يحاول إبتزازى؛ ولكن دون فاعلية، فأنا اللص ونار الآخرة تحرقنى وحدى،والمعلم (حمادة) يقص:

{ كان أبوك نقياَ، لم تعكر الحياة صفائه، رفض لنا أن ننزلق فى بحور الثأر، صد دوننا صخور اللوم المنهمرة من مغارات الناس الكهفية، لا تستغرب أسلوبى فقد كنا زملاء كتاب (القرشى)، ولكن الأيام مزقت وشائج الدرس، فانخرط أبوك فى دروب الأزهر، التقمنى السوق، قرش من هنا ومساعدة من هناك، وسرعان ما ذاع صيتى، وأصبحت متعهد العنب على مستوى البلد، ما يؤكل كيلو عنب إلا ولى فيه نصيب مفروض، مائة ألف عداية ويزيد أبيعها يومياَ، وفى يوم زيارتى للبلد استقبلنى المحافظ ومدير الأمن بالمحطة، فُرش الطريق إلى قاعة أمى بالرجال وزعازيع النخيل، دفعت آلاف الجنيهات، وقتها كان الجنيه ذائع الصيت ،يكتنفه التبجيل، ويؤطره التقديس .}

الأصوات ترتفع نبراتها ، الحركة المأزومة تقترب أكثر وأكثر ، الشتائم تتراشق ، أبناء المعلم يقاتل بعضهم البعض ،(نجاح) يكيل الضرب ل(محسن)،(مصطفى)بعصاه الغليظة ينفض (فتحى)،أخيراَ خرج المعلم من غرفة المكتب ،(عواد) فى عقبه، امتلكنى السقوط ،شٌجت رأسى، يقبض المعلم على خيرازنته، يصرخ بصوت مبحوح:

-          معانا كام .

يحل الصمت المفاجئ ،تشرئب أعناق المُحجزين، انطفأت الحروف فى الحلاقيم، جهورية المعلم تخترق الآذان:

-البيع بالمجان .

يتفرق الجمع، يرسم الغبار سحابات الأدخنة ، يتصدر المعلم غرفة المكتب ، يقرفص فوق العتبة، يدفن رأسه بين كفيه، يتبعنى عواد، يسألنى عن كيس النقدية المصنوع من القماش، أتشاغل عنه بنثر حزم السلامات على كل من يقابلنى، أمسيت كالبهلوان فى سيرك المزادات.

وسوم: 642