سبعٌ بسبع
في أرض من أراضي فلسطين الحبيبة كان فلاح يعيش مما تغلُّه أرضه الصغيرة، يدر عليه ربه من خيراتها ما يكفيه مؤنة عام لأسرته الكبيرة ...
كان يعيل عشرة أشخاص : والديه وزوجه وأربعة من أولاده، واثنين من أولاد أخيه الذي استشهد في مصادمات مع العدو الصهيوني، وقبض على زوجته لأنها نفَّست عن كربها أمام من حسبتهم من بني جلدتها، فكان جزاؤها السجن ...
وكانت فلسطين في هذه الآونة قد صارت لقما سائغة، وأراضيها مِزَقا مبعثرة هنا وهناك ، فهذه من أراضي الـ ( 48 )، وتلك من أراضي الـ (67 )، وثالثة فيها حصار داخلي أو حصار خارجي، وهذه يسيطر عليها ( فتح ) وتلك يحكمها ( حماس ) ،وأخرى يفصل بين أرجائها مستوطنات يهودية ، وأراض وضع العدو يده عليها فضلا عن كتل وأحزاب أخرى، ومصادمات وخلافات وسفك دماء، وإبعاد بنفي من عدو داخلي أو خارجي ...
واقع يدمي القلب ويقرح الأجفان ويسهر الحيران ...
حمل الفلاح زيته إلى حيث يمكث والده المبعد ... ووصل إلى نقطة تفتيش إسرائيلية .
كان الجنود الصهاينة الذين يشرفون على هذه المهمة وجوههم عابسة باسرة، وسأله أحدهم بكل فظاظة وغلاظة :
-مامعك ؟
-زيت
-من أين جئت به ؟
-من أرضي
-وأين أرضك ؟
-في رام الله
-ولم جئت بالزيت إلى غزة؟ ألم تسمع بحصارها ؟
-لم آت به لبيعه هناك وإنما جئت به إلى والدي
-وهل يعيش أبوك في غزة
-نعم
-ولم ؟ أهو من حماس ؟
-لا ، هو رجل كبير العمر أبعد عن بيته بافتراء عليه
-افتراء !! ... ومن الذي افترى عليه
-لا أدري ولكنه أبي وعلي أن أعينه في مصابه .
- مصابه ؟ ها ... ها ... ها ...
-ومن تحبه أكثر أباك أم نبيك محمد ؟
-طبعا نبيي محمد صلى الله عليه وسلم
-إذاً سُبَّ نبيك لنسمح لك بمرور الزيت
-ماذا ؟ ماذا تقول ؟
-سُبَّ نبيك ، اشتمه ألا تسمع ؟ وإلا فلن نسمح لك بمرور الزيت
-أأنا أشتم نبيي ؟ لا ، هذا كفر ، لايمكن .
-الجندي بسخرية وقحة : حتى نسمح لزيتك بالمرور وترى أباك الحبيب .
-وما علاقة هذا بالزيت وبأبي ؟
-الجندي بفظاظة : نفذ ثم اعترض
-لا يمكن، هذا مستحيل ، مستحيل
-ولِمَ ؟
-موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم جميعا أنبياء الله ورسله ، ونحن لانفرق بين الأنبياء، هل تسب نبيك موسى ؟
-اخرس ياوقح ... ستحرم من رؤية والدك ، مفهوم ؟
-ولِمَ أحرم من رؤية والدي ؟ ألستم تقولون إنكم ... ( ديمقراطيون )
-لا ديمقراطية مع العرب
-لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .
-لاتحوقل ، نفذ ثم اعترض .
-لا ، لايمكن ، قلت لكم إن هذا كفر ، وهذا مستحيل ولو ذهب مالي كله ، بل لو أزهقت روحي أيضا . فداك نفسي وأبي وأمي يارسول الله
-لن تدخل غزة ومعك الزيت ، مفهوم ؟ ألم تسمع بالحصار ؟
-هو من أرضي ولم آت به من الأنفاق ، وهل أرميه ؟
-تدخله بالشرط الذي شرطناه عليك
-يهودي آخر : هل لك أخوة آخرون ؟
-لا
-يهودي آخر ساخرا:لا،لأنهم في الشتات أليس كذلك ؟
-الفلاح لنفسه : آه ، ليت عندي مسدسا لأطلقه على هؤلاء الأوغاد .
-يهودي ضجر : ما أغباك ياعربي ، هي كلمة وتكسب مالك ونفسك وتعين أباك ، أليس كذلك يا حمار؟
-يهودي آخر : كلهم حمير
-ثالث : أمهله قليلا ليفكر
-رابع : ماذا سيأكل أباك في الحصار إن لم توصل له الزيت ؟
-آخر: ولا طعام لكم إلا الزيت والزعتر ، أليس كذلك ؟
-الفلاح : الحمد لله على فضله وكرمه ، لانستحق أكثر من ذلك .
-تحمد الله !! ...
-نعم أحمده على كل حال، هو الذي خلقنا وأنعم علينا، وإن كنا نقاسي بفعالنا البعيدة عن ربنا .
-يهودي ساخرا : ادع ربك إذاً أن يحفظ لك زيتك
-أنا أدعوه وهو يحفظه أو لايحفظه لأمر يريده ، هو يفعل مايشاء ويبتلي عباده بما يشاء .
-ولكم الجنة إن صبرتم ؟ ها ... ها... ها...
-الفلاح : ولنا الجنة إن شاء الله
-جندي يهودي : لا فائدة من محاورته ، إنه ساذج
-آخر : لعله يوافق
-ثالث : أطلق عليه الرصاص،إنه يحمل فكر حماس .
-الفلاح : أشهد أن لاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله
-سنهدر زيتك قبل قتلك
-أعوذ بالله من الشر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، اللهم فرجَك وعفوَك فإني مقصر
-خذها رصاصات تسيل زيتك قبل دمك
وانسكب زيت الصفائح السبع كلها على الأرض . وقال الفلاح المسكين :
-إنه مؤنة عام كامل، مجرمون ، ماذا نفعل ياإلهي ؟
-مجرمون ؟ ... ماذا تقول ؟
-آخر : اسجنوه بل اقتلوه
-ثالث : حققوا معه ، إنه يهين رجال دولتنا العظيمة .
وقبض على الرجل وسط صياح المسافرين الذين كانوا يرافقونه ...
وسمع أهل القرية بما جرى .. وتناشد فاعلو الخير ...
وعاد الفلاح بعد شهر إلى منزله منهك القوى موزع اللب ، وفوجئ بسبع صفائح من الزيت تقبع قرب الباب
وقال أهله وهم يحتضنونه بفرح :
-سبع بسبع ، أليس كذلك ؟ إنه كرم المولى تعالى ، إن فاعلي الخير عوضوا السبع التي أريقت بسبع .
- إن الله يرزق من يشاء بغير حساب
-ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لايحتسب .
-من أكرم النبي صلى الله عليه وسلم أكرمه الله
وخر الرجل ساجدا لله الذي تقبل منه طاعته وحبه لنبيه فأفرج عنه وعوض رزقه .
وسوم: العدد 651