شاطر ومشطور
تخنقنى الأيام ببطئها،وكأن أخضاعها للعداد يشعرك بقسوة وطأتها،هاأنا حر؛انسلخت من وبر الوظيفة الشائكة،لا عمل تمارسه سوى غسل المواعين،وقدرتك على القراءة انطفأت شعلتها،طبق وراء طبق،الكتاب لم يفتح غلافه حتى الآن،لم يجرب أحد من الأولاد الحديث معك،الولد الكبيرلم يسألنى هذا الشهر مصروفا،لم يطلب دعما،لم يشرنى فى شيئ،وكأننى فقدت عناصر القوة،أحسست أن النهار سيطول ؛فقمت مفزوعا.
ألم القمامة فى شنطة بلاستيك،ألقيها فى أول كوم زبالة ،سواء كان فى عرض الطريق أو فى إحدى الجنبات،أصعد السيارة الكبوت،تتجاور الأوزان المنفلتة؛رجال،نساء،وأطفال،تتحرك السيارة ببطء،تترجرج الأبدان وكأنها تعانى من المغص الكلوى،السائق مرتاح فوق مقعده الأسفنجى،يعانى الركاب من أسياخ الحديد المسنونة والتى تدعى مقاعد،والشارع مغزول من المطبات والحفر،يشد السائق سيجارة (باك فير)مع زميله فى الكابينة،الشارع تكسوه (التكاتك)،أصبح مسرح أكروبات عبثية،ومقعدتى لا تدرى من أين تأتيها الضربات،بيدى رواية مترجمة،تجاورنى سيدة لحيمة،أتمنى أن تنغرس يداى فى عجين الزلابية،ربما تسكرنى الرغبة،أشعر بالخجل،ولم الخجل؟ لماذا لا أذوق القشدة؟ يفوح عطرها،تتسلل عبر مسامى،آه لو أرتمى فوق صدرها الرجراج،أستحلب أكسير الشهوة المتأججة؛شائب وعقله خائب،فرملة عنيفة يصاحبها زعيق وسباب وتلال من الزبالة،ها أنا أصل إلى الكوبرى الخشب،أصعد الكوبرى العلوى،أنتقل من عالم إلى آخر،أودع بشرا لا يملكون إلا العراك،أستقبل بشرا تدثرهم الرفاهية،من بولاق الدكرور إلى المهندسين رحلة سجلتها كتب التاريخ،أقصد النشرات السياحية،المئات من البشر يرافقونك رحلة الهروب العظيم،تحبسهم الجدران الصدئة فى المساء،ينفلتون من مرابطهم فى الصباح، تسوقنى أقدامى إلى العتبة،أنفلت من بين حشود المترو كالرهوان،أركب شارع الأزهر،أتسكع كالسائحين أمام الحوانيت،هاأنا الصعيدى يغزو القاهرة،أقود رتلا من الدبابات والمصفحات،سأمزق كتاب الأستار؛أنا المملوك الأوحد،لا..لا..أنا رأس الدولةالفاطمية،لا..لا..أنا صلاح الدين،لا..لا..أنا الزيبق،المقدم،العسس،أنفقت صرة من الدراهم والدنانير والجنيهات والدولارات على المتسولين،أتعود ثانية لأحلام اليقظة؟ ألم أنصحك بالأمتناع عن تعاطى (الصراصير)؟ ما لها البيرة؛حلوة وبنت ناس،ياعم (الدرامادول)لحس نافوخك! آه..آه يا بوى،أتجلمد أمام محل لبيع الفطير،المحل ضيق جدا،طاولتان للجلوس داخل المحل وأخريتان خارجه،أتناول فطيرة كبيرة بالسكر،منذ أربعين سنة كان أبى يمسكنى من يدى،ليجلسنى كما أنا الآن،يلتهم فطيرته وفطيرتى لم تنقص شيئا،يغرينى بزجاجة(سباتس) مكافأة لى حينما أأكل ربعها،يحايلنى ساعة ولا أتذكر الآن ماذا كانت النتيجة؟ يسحبنى إلى الازهر،يشير إلى الأروقة شارحا وكأنه مرشد سياحى:
-هذا رواق المغاربة ،ورواق الشوام والصعايدة والبحاروة،أماكن لسكنى الطلاب المغتربين.
على فكرة قال هذا الكلام ولم أكن أع معناه لحظتها،كنت أخافه وأرهب جانبه،ولكننى لم أحبه،بصراحة لا أدرى إن كان هذا الشعور حقيقيا أم زائفا،هاأنا ألج المقام ،الهدوء والسكينة يتغمدان المكان،أدنومنه:
- حاق بى التعب والسأم.
- ......................
- لم أركن إلى الدعة والوهن.
- ....................
- قاومت،عافرت،ولكن الضربات متلاحقة ومؤلمة.
-..........................
- يا أمام يكفينى ما عانيته من تبكيت.
-..........................
- تمزق ثوبى ،وتكشفت عورتى.
-.....................
- الغوث؛فى سمائه صورتى باهتة.
-.........................
- لم أقرب النوافل.
-..............................
- فى قلبى يسكن غيره.
-..................
- لا تدعنى فى هذه الحال.
-.....................
- شاطر ومشطور وبينهما عفن.
-..................
- لا أستسيغ شرابه.
-.....................
- أتغادرنى وأنا فى كامل حيرتى.
أخذنى النعاس،الهواء البارد أرخى أعصابى،أنهض نشيطا،آثار مياه الأغتسال على وجهى،أصلى ركعتين،أخرج من المقام وكأننى تجرعت كأس الراحة،أتسكع فى الحوارى المتاخمة للمشهد الحسينى،أتنطع على المقاهى،تحملنى أقدامى إلى محطة مترو العتبة،دقائق يسيرة وتجدنى فى ميدان باب اللوق،جلستى التى نسيتها تعود إلى،يهل على (رومانى)بهيئته،لم يطرأ عليه تغيير يذكر،سوى بعض الشعيرات البيضاء فى شاربه الكث، يحتضنى بجدية،يلفظ عبارات ترحيب حارة ودافئة،يحضر لى أربع زجاجات بيرة دفعة واحدة،أعلق ساخرا: لا الزمان كما كان والصحة تأفل.
يسارع بالقول: يا بيه خفف قليلا من فصاحة اللغة.
أزاحمه بالرد: أأكسرها بالماء؟
يغيب ثوانى ويحضر لى علبة سجائر وكيسين مقرمشات بطاطس،أسترخى فى قعدتى،أردد:
- ضربوه على عينه ؛قال:خربانة..خربانة.
وجه أنثوى ألفته لخمسة عشر يوما بميدان التحرير تواجهنى القعدة دون استئذان ،تبادرنى:
- لن تمانع فى رفقتى الجلسة،فإى من رواد هذا المقهى سيرحب بوجودى معه،كل العيون ستكون مسلطة عليه.
- على الرحب والسعة.
- ما هى آخر أخبارك؟
- تسير الأمور بشكل متقطع ولكنها تسير.
- لم أرك منذ فترة.
- شاركت فى فاعليات كثيرة ،حتى تملكنى اليأس.
أفرغ من زجاجة(ستلا)الأولى،لم يترطب جوفى بعد،تتماهى المشاهد أمام ناظرى،البنت جميلة،شعر أسود مرسل على كتفيها،عيناها شاردة وناعسة،أنفها دقيق يشكل مع الفم أنسيابية رائعة،جسدها يميل للإمتلاء،سبق لي الحوار معها فى المقاهى المتاخمة لميدان التحرير،تباينت الإراء حول الفقر والجهل والمرض،تحدثنا عن الكرامة والعدالة الأجتماعية وضرورة مزج الحياة مع السياسة،كلام كثير تناقلته الألسن،كما أنها تتتبع أخبارى ،تختبر سبل التسلل إلى حياتى ،تسترد مبادرة الحوار: أرأيت ما نحن فيه؟
- البلادة.
- بل هم غير مؤهلين للحكم.
- كلا؛ نحن غير مؤهلين للديمقراطية.
- ألم تسمع أحاديث الشيوخ والساسة؟
- عموما أبواق الأعلام صنعت منهم أضحوكة،والجهل هو المنتصر الوحيد فى هذه المعركة،التى لن تنتهى بعد،لماذا تهتمين بهذا الواقع وأنت مرتاحة ماليا وتعيشين حياتك بالطول والعرض؟
- ممكن تقول فراغ أو مسايرة الموضة أو مجرد ثرثرة.
أشعل سيجارة ثالثة أو رابعة،عقلى ينقح بما يقلقلنى،أطلب من (رومانى)زجاجة فودكا ؛لا بد من القضاء على عفاريت نافوخى،فالعسكر فى كل مكان وزمان،الثورة لم تخلف فينا سوى الشك والريبة،ومبيعات السلاح سجلت أعلى معدلاتها؛فالوضع سئ،آه..تذكرت اسمها،أخيرا تذكرته،لها أسلوب ساحر فى سرد الحكايات،أية حكايات،تؤلف وتتفكه ؛بصراحة رائدة لمسرح العبث،طلبت لها زجاجتين it تفاح،تجرعت البيرة وكأنها مشرفة على التحلل،هاجمتها متسائلا:
- تودين امتلاك كل شئ؛الحياة الرغدة،إيهام الفقراء بإنك زعيمة،التأستذ على أصحاب اللحى،انطلقتى من قمقم الأفكار النظرية،كانت النفوس تغلى،فأنفجرت الحاجات المكبوتة،زجاجات البيرة والخمور وأصابع الحشيش لم يطل أمد تخديرها،لم يرض غرورك أن تكونى كهؤلاء،مجرد رقم يدور فى فلك الرقم الكبير.
أوجعتها كلماتى،وضح تأثرها –جليا- فى همساتها المترددة،وشرودها المفاجئ،ربما تكون البيرة قد أدت فعلها،ولكن بوادر الترنح لم تظهر بعد،بالفعل هى تعانى من أزمة ثقافية؛أحادية المنبع،لا تستسيغ وجود شركاء،ثيوقراطية التوجه دون إعلان،لا تختلف عن متعصب يحمل السلاح،واستمرار وجود هذه النماذج سيمهد الأرض لعدم اقتلاع نبت العسكر الشوكى،فالتخطيط الاستراتيجى لورثة السلطة يركز على استثمار الجهل ونشر التعصب،ولن يجد العامة بديلا عنهم.
أنفعلت أخيرا: كلام فارغ.
- لا تجيدين إلا المراوغة.
- توزع الاتهامات دون أدلة.
- أنت الآن فى زمن غياب الدليل هو الدليل.
- أعترف أنك أخوانى.
- طب حد غيرك يقول هذا الكلام.
- ممكن يكون الانتماء بالفكرة.
-هأ..هأ على رأى المثل قصر ذيل يا أزعر،ياراندا كفاية تغابى؛أفشال التجربة الديمقراطية تعنى ببساطة استمرارهم فى الحكم لعشرات السنين ،على فكرة لم تخبرينى بأى معلومة عن وضعك الأجتماعى.
- أنا بنت بسيطة،أعجبنى فكرك أيام التحرير،ورغبت فى الاقتراب أكثر،وصدقت أننى صادفت وجودك بهذا المقهى.
غادرت المقهى على وعد اللقاء والصداقة،تبادلنا أرقام الهواتف،مرت الساعات،أتشبث بالطاولة أكثر،تاه العقل،سافر،عاد ثانية،تداخلت الشواهد والمشاهد،أنقذنى (رومانى) بسطل من القهوة السادة،منذ أربع سنوات كاملة لم أشرب،ولذلك كان أثر الكحول قويا،تتناوبانى الإغفاءة والأفاقة،أهدتنى مخطوطا على أمل القراءة،أنشغلت عنها بمطالعة كل الوجوه،العيون شاخصة،الوجوه مرتخية،عشرات الحكايات تكتنزها الرؤوس،آمال مجهضة،مستقبل هلامى،عواطف مبتسرة،مئات اللغات تتبادلها العيون،تظن أن الجميع تائهون،من طاولة لأخرى وتشعر أن الأبدان مهزولة،والأفكار سابحة فى الفراغ،وكأنها تبحث عن التعارف والتآلف!
تمت بحمد الله
وسوم: العدد 672