خدلك البنت شي دورة

من الحياة اليومية لمواطن سوري

 هذه قصة جديدة من سلسلة (الحياة اليومية لمواطن سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، وهي قصة حدثت أمامي وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان. وكما ذكرت في قصص سابقة، فقد درست في كلية الهندسة الميكانيكية والكهربائية (همك) مابين عامي 1975 و1980 حيث جرت أحداث هذه القصة حين كنت في السنة الرابعة.

 كانت لبداية كل عام دراسي طعم خاص بسبب الوافدين الجدد من طلاب السنة الأولى بما يحدثونه من حركة ونشاط لايلبثان أن يهدئا بعد مرور شهر أو شهرين. ولم تكن بداية تلك السنة مختلفة عن سابقاتها، إلا بتلك القصة التي عايشتها ولاأزال أذكرها وكأنها حدثت يوم أمس. كنت في يوم من بداية تلك السنة أقف أمام إحدى لوحات الاعلانات حيث اعتاد الطلاب تعليق قصاصات من الورق لبيع كتبهم التي نجحوا في امتحاناتها، وإذا بي ألتفت لأرى بجانبي فتاة يبدو أنها تبحث أيضاً عن كتاب أو نوطة بحاجتها. كانت الفتاة ببشرة بيضاء ناصعة كالثلج وشعر أسود كقطع الليل الفاحم، تميل إلى القصر ولكنها على قدر من الجمال والأناقة لايمكن لأحد أن لايلاحظهما من النظرة الأولى. عرفت فوراً أنها من طلاب السنة الأولى لأنه لايمكن لهكذا فتاة إلا أن تلفت نظر كل من حولها ومن اليوم الأول، وهذا كان ماحصل معي يومها. لم تمض ثوان على ملاحظتي لها بجانبي حتى حركت الفتاة وجهها من باب الفضول باتجاهي لتجدني متلبساً (بالجرم المشهود) باستراق النظر إليها، فالتقت عيناي بعينيها ووجدت نفسي وبصورة لاشعورية ألقي السلام عليها، فردت بدورها وبحرارة جعلتني أظن لوهلة أنها كانت بانتظار سلامي وأنها من كانت تسترق النظر إلي وليس العكس.

 مر الوقت سريعاً علينا أمام لوحة الاعلانات، فبعد السلام سألتها عن ماذا تبحث وسألتني أنا في أي سنة، وسؤال جر سؤال وسيرة جرت سيرة لنجد أننا أمضينا أكثر من الساعة دون أن نشعر. وكعادة السوريين، يبدأون بالتعرف على بعضهم بسؤال من أين أنت، قالت الفتاة أنها من مدينة قريبة من دمشق، ولكن أهلها يسكنون هنا بحكم وظيفة والدها. شعرت منذ اللحظة الأولى بنقائها وطيبتها وروحها المرحة، وأيضاً بالأحلام التي كانت تختزنها حول مستقبلها بعد التخرج ونيل شهادة الهندسة والتي ستمكنها من الحصول على وظيفة محترمة أو فتح مكتب دراسات واستشارات، وكيف أن كل ذلك ذلك سيجعلها فخورة بنفسها ويجعل أهلها أيضاً فخورين بها.

 مضى مايقرب من الشهر على ذلك اللقاء، وكنت ألتقي بها بشكل شبه يومي بحكم كوننا في نفس الكلية، فنتبادل قصص المحاضرات والأساتذة وأيضاً النكات التي هي جزء هام من الحياة اليومية لكل مجتمع عموماً والسوري خصوصاً. كنا نلتقي أحياناً (على الماشي) في طريق كل واحد إلى قاعته، وأحياناً نحتل أحد المقاعد في حديقة الكلية في حال لدينا متسع من الوقت. ماحصل بعد ذلك أني بدأت أشعر أن الفتاة بدأت تلمح إلى رغبتها أن تكون علاقتنا رسمية، وذلك بسبب مجتمعنا (الطويل اللسان) الذي لايرحم من جهة، وكوني سأتخرج في العام القادم ويصبح مستقبلي (برأيها) مؤمناً من جهة ثانية. لم أحاول تجاهل تلميحات الفتاة، ففكرة الاغتراب والسفر كانت في ذهني منذ أن كنت في المدرسة الثانوية، وأي ارتباط بغض النظر مع من، كان سيضع هذا المشروع في خبر كان. ومن جهتي، فلم أجد حرجاً من مصارحة الفتاة بحلمي هذ، خاصة وأن معرفتنا مازالت في بدايتها ولم تتجاوز حدود الكلية.

 لاحظت بعد أيام من ذلك أن أحد (الرفاق) الحزبيين بدأ يظهر بجانب الفتاة، إما يتمشيان في أروقة أو حدائق الكلية، أو يقفان في احدى الزوايا يتحدثان لفترات طويلة. كما قلت في مقالات سابقة، فقد كنت أكره كل من هو حزبي عموماً وبعثي خصوصاً، بسبب ماوصلت إليه البلد وما آل إليه الشعب على أيديهم. كان هذا الشاب من ريف اللاذقية ومن (الرفاق) القياديين في الفرقة الحزبية، ولكن أيضاً من المعروف عنهم (الزعرنة والبلطجة)، ناهيك عن حمله لمسدس على جنبه كباقي أمثاله (المناضلين). وكانت وقفاتي مع الفتاة قد بدأت تقصر وتصبح أقل عدداً، وفهمت من ذلك أنها إنما ترغب بعلاقة رسمية ولها مستقبل، وهي رغبة لاغبار عليها ولاعيب فيها ومن حق أي فتاة أن تتمسك بها. فوجئت بعد ذلك أن أتت الفتاة إلي يوماً وسألتني إن كان لدي متسع من الوقت لتستشيرني بموضوع يهمها، فأجبتها إلى ذلك وطلبت منها أن تسأل ماتريد. كانت لدي فكرة مسبقة حول ماتريد طرحه، وفعلاً فلم تخيب ظني، وسألتني رأي بالشاب (الرفيق) الذي ترافقه مؤخراً، كوني (محارب قديم) في الكلية وأعرف أخبار طلابها أكثر منها. ولما سألتها عن سبب سؤالها، قالت بأن الشاب إياه (وعدها) بالزواج إن هي التزمت معه دون غيره. من جهتي، فاكتفيت بسؤالها عما إذا كانت تريد فعلاً الارتباط بطالب له مسدس على جنبه، وكيف ستكون نفسية شخص كهذا؟ نظرت في عيني الفتاة ووجدت فيهما الشك وعدم الاقتناع بما قلته لها، كما ولاحظت أنها فعلاً مغرمة بذلك الشاب وأنها قد اتخذت قرارها وانتهت، ومااستشارتها لي إلا لتعلمني أن من فاز بها هو من وعدها بالزواج وليس من يرغب بالسفر.

 قبل أن ألقي عليها السلام مودعاً عرفت أن هذه ربما ستكون المرة الأخيرة التي سأتحدث فيها معها، كما وشعرت أن سوءاً سيحصل لها قريباً. وفعلاً لم يكد يمض الشهر على تلك الحادثة حتى تأكد حدثي، حيث كنت أجلس في مقصف الكلية أشرب الشاي مع أحد الأساتذة الذين تربطني معهم صداقة شخصية وعائلية حين دخل (الرفيق أبو فرد) إياه صاحب وعد الزواج. كان صديقي من الأساتذة ذوي الشعبية الكبيرة بين الطلاب، وكان محبوباً للغاية بسبب شخصيته الدمشقية المرحة ومعاملته للطلاب بلا كلفة وكأخ كبير أكثر من كونه استاذهم. توجه (الرفيق) مباشرة إلى طاولتنا حين رأى الأستاذ عليها وعانقه وقبله، كالعادة في بلادنا، وجلس معنا دون دعوة وأصر إلا أن يعزمنا على كأس شاي على حسابه. وطبعاً سلم علي (بالمعية) كوني أجلس على نفس الطاولة، فالرفاق كانوا لاشك يعرفون أني (لاأهواهم)، وبالتالي كانوا هم أيضاً يتجنبوني قدر الامكان. ماحصل بعد ذلك جعلني أشعر بأن خنجراً قد طعنني في صدري، فقد بادر (الرفيق) بسؤال الأستاذ إن كان الأخير يرغب بمعرفة آخر أخباره (الغرامية)؟ وهنا وكعادة الأستاذ سأله: ومن هي التي ستغرم بحمار مثلك؟ فضحك (الرفيق) معتبراً ماقاله الأستاذ هو نكتة، في حين نظر الأستاذ إلى وغمزني بطرف عينه. قص علينا كيف تعرف على الفتاة إياها وكيف وعدها بالزواج واستدرجها إلى شقته المستأجرة وفعل بها مافعل. قد تبدو القصة حتى ذلك الحد قصة مكررة وتحصل في أي مجتمع، حيث يغرر الشاب بالفتاة بوعدها بالزواج لينال منه مايريد، ثم يرميها، ولكن ماجعل القصة هنا مختلفة هو ماقال (الرفيق) أنه قام به بعد ذلك، حيث (مررها) لأصدقائة بالدور واحداً بعد واحد ليستمتعوا بها. هنا تكهرب الجو على الطاولة وسأله الأستاذ وبصورة جدية هذه المرة كيف وافقت الفتاة على ذلك؟ فقال (الرفيق) أنه أجبرها تحت تهديد الفضيحة تارة، كونه صورها سراً في وضعيات فاضحة، وتحت تهديد المسدس تارة ثانية، المسدس الذي تم توزيعه على أمثاله للدفاع عن الحزب ولمحاربة مادعوه (الارهاب). ثم ماكان من ذلك السافل بعد هذا إلا أن التفت إلي وقال بلهجة ملؤها الحقد والشر والسخرية: وأنت رفيق، خبرني إذا حابب (تاخدلك البنت شي دورة)، بجبلك ياها تركع عند رجليك!

 لم تمض أيام حتى انقطعت الفتاة عن الحضور إلى الكلية نهائياً بعد أن نشر (الرفيق) قصتها بين الجميع وباتت سيرتها على كل لسان. وهو لم يقم بتلطيخ سمعتها فحسب ولكنه قضى أيضاً على تلك الأحلام الكبيرة التي كانت الفتاة تحملها قبل أشهر معدودة، والتي كانت تريد أن تحققها لتبني عليها مستقبلها وتجعل أهلها يفخرون بها. هذه هي سورية الأمس القريب للذي لايعرفها، ولاشك أن أصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا) ماكانوا سيقولوها لو أن تلك الفتاة كانت ابنتهم. 

وسوم: العدد 673