مزاد وابتزاز

عصام الدين محمد أحمد

يشعوذني الغضب، آمره بترك العمل، ولكنه لا يمتثل، أخشى أن تضيع هيبتي، أركل الشيشة ، تتطاير الجمرات ، تتشظى ، أتخطى العمال دافعاً هذا ودافساً ذاك ؛ينط ، يلتمس الهرب، لا أمكنه من النجاة، فاللحظة لحظة عقاب ووجود، هكذا أسررت لذهني المتقد .

أهجم عليه، أضرب، أتوعد ، يقفز ، أشده بعنفوان ، ألتم العمال، حالوا دون خدشه، يفلت من يدي، استبد بي الغيظ .

- لابد من تأديبه حتى يرتدع من تسول له نفسه الشرود

هكذا أقر عقلي المُـنفلت .

( الجدي ) يعطيني حبتين ( أبو صليبة ) ،أابتلع الحبتين وأتبعهما بكوب عناب سكره زيادة ، بدايات المشهد تراودني :

] يا عبد الحفيظ أعدل التشوينة

جاس جميع الاتجاهات ماعدا جهتي، يشاغلني أحد العاملين :

- يا ريس استرح ولا تشغل بالك بالعمل .

صحت في الجالس أسفل العارضة، الذي يلقف البطيخ بيده :

- انتبه .

 ( الفياي ) الذي يجلس القرفصاء مواجهاً الولد الذي يتلقى سيل البطيخ المُندفع من سطح سيارة النقل – يخطئ كثيراً في الفرز، استبدله بآخر، ( الميلم ) يأتي بحجر معسل جديد ، استهلكه في نفسين ، مازال عبد الحفيظ لا يضبط الرص .[

- أين المحمول ؟ ؟

وقع من جيب جلبابي، تكسرت شاشته، ثمنه ألفان من الجنيهات، بلغ مني الحنق شأواً عظيماً، أبحث عن هذا المستهزيء، لا ألمحه، ابتلعته الأرض، ربما ! خطفته السماء، جائز ! .

- فيمن أفش غليلي الآن ؟ ؟

- على الأقل أصفعه، أهبده فوق الرمال !

اشتعلت النار في سيجارة البانجو، نفس ، ونفس، الأدخنة غربلت نافوخي، ( نخششت ) في أم رأسي، اتبع السيجارة. بشم خطين بيور، فتت البيور خلايا المخ المسطول، رمال وبطيخ ورجال، تشوينة وراء تشوينة، لا نملك إلا التراجع للخلف، نزحف كانسين القاع من نتف الأوراق والخراء الجاف، عشرة بطيخات على خط مستقيم، تليها تسع على خط مُعشق في الأول، حتى في رص البطيخ للجنس وجود، ذكر وأنثى، عاشق ومعشوق، والرمال فراش وثير، وفوق السطرين تسع بطيخات أكبر حجماً، ويلي السطرين ثالث، فقط ثماني بطيخات. عالم كله بطيخ !! هكذا كان يسخر دكتور الفلسفة مُتهماً أرسطو بالغباء وديكارت بالشذوذ وسارتر بالفضيلة .

فوق الثاني والثالث ثماني ثمار وكذلك مثلها فوق السطرين العلويين، وهكذا دواليك إلى أن تستأسد بطيخة ضخمة وتتوج الرأس كملك مدينة الجماجم .

مائتان وعشرون بطيخة تنسجهم اليد بخيوط الغرام والهيام والالتصاق .

- آه .. آه ... ما بال البيور لا يخطف ؟

جرب خطاً ثانياً وثالثاً ... وفوق المرآة الصغيرة أنثر البيور، وبعملة ورقية جديدة أصنع خرطوماً، استنشق بعُمق.. بعُمق استنشق :

[  أتدري يا معتوه أن زمن الحوارات انتهى. سافر فوق مرآة قالوا أنها مصقولة، لا تعكس الوجوه ، ولم تعهد الأقنعة .

فيها وجه وعينان مبحلقتان تسترجعان شرر عبد الحفيظ، جلبابه المكرمش المنسول، وتناجيه مع كل من هب ودب، فهو الأحق بالرئاسة، بالسرقات، بالرزق الوفير، هكذا ينشر أحقاده فوق حبل 

غسيل قديم .

في المرآة فم مُطبق ولسان مُنعقد وقلب مكلوب، مائة لسان ولسان يرمقني بقوالب الاتهامات، بالسرقة، بخيانة الأمانة .

- ألا يحق لي القهقهة والسُخرية، ففي سراديبهم مائة خائن وخائن .

غادرت المرآة، غادرتني، تكسرت وفي نثارها الخديعة [

مدحت أفندي يستعجلني ، يلح علي بالعودة إلى البيت .

-    ما الذي يدفعني للهرب ؟ !

-    لماذا لا نمشي في الهواء الطلق ؟ !

-    نستنشق الانتعاش ونلقي بالأسمال على قارعة الطريق،

-  وفوق ضفاف النيل قعدنا، المياه متلألئة بالنيون المُنبعث من 

دكاكين السياحة العائمة، اعتراني الشرود- أشرقت الشمس 

وبأقدام تعبه رجعنا إلى الشادر .

-  العُمدة يرفل في صُحبة الجدي وسيد حمودة وأنور الجندي، مزاح ومُزاحمة، وقـُبيل المزاد اقتحم المحل أمين شُرطة وبيده ورقة استدعاء، المُهم أعطيته عشرة جنيهات، وطلبت منه النسيان، لكنه أومألي بأن المدعو / عبد الحفيظ هو الشاكي .

-    عاطف يقرع طبوله وسيد ينفخ زميره، لحظات من الدق والصفير وانتصب سيرك المزاد، والمعلم يستهل ترنيمته :

-    المُسلم يقرأ الفاتحة، والمسيحي يمجد سيده، ولكل واحد نبي يصلي عليه .

-    ( كام معانا )؟

أنور الجندي يلف حول البطيخ، ويخبط عليه ليعرف من الرنين درجة السوي .

وسيد حموده يدعي التلهي والانشغال بحجر المعسل المٌتقد .

ووليم يساوم بائعيه على الشراء .

-    أخيراً نقط أنور الجندي :

-    جنيه ونص.

-    والعُمدة يعلق :

-    ( أنخلي ياللي عوزة تخبزي ) .

-    انفكت عـُقدة لسان سيد حمودة :

-    جـُنيهان .. ثلاثة ... أربعة ونصف .

-    سجلت في ( الطيارة ) السعر قبل أن يُبارك المعلم، كر ،و فر على مدى ساعة كاملة وانفض المزاد .

-  هرولت إلى المكتب المليئة شقوقه بالبق، أعد الكشوف، سيد حمودة في أثري، لسانه يُكرر خفض ربع جنيه في كل بيعة .

-    يهديك ... يرضيك .

-  لا فائدة من الرجاء، يُصر على التنزيل، المعلم يهرب – دوماً – من المواجهة وفي نهاية المناوشات أرضخ لأوامره، انتهيت من الفواتير، حملت أثقالي وتمهلت الخطى إلى السيدة نفيسة، توضأت، المياه مسحت الهموم، أتوجه إلى القبلة، فؤادي ينمل، لم ترتبك جوارحي، هدأت، الله ... الله ، الثلج يطفئ ناري، أترنم في حبور، هطل المساء، وفي باحة المسجد وجدت عبد الحفيظ رابضاً رأسه بشاش منقوع في الميكروكروم واليود. اصطبغت رأسه بألوان الطيف، وفوق صدره أكثر من مئة مسبحة، لن أدعه يفلت من يدي، المُسامح كريم يا معلم، لن أفرط في حقي، أمسكت به من فتحة الثوب، وصوته يلهج :

-    والنبي يا ريس سأتنازل عن المحضر .

-    فتشت جيوبه، رُزمة من العشرات والجُنيهات: مائتان وخمسون جُنيهاً وبضعة شلنات، أودعتهم جيبي قائلاً :

-    أدعيت أنني سرقت منك أربعمائة جنيه، والآن يبقى لي عندك مائة وخمسون جنيهاً .

-    أصوات تتماس :

-    مدد يا حياري القلوب .

نزعت الشاش بسُرعة وقوة، أتراه يرتزق بالمسابح وطاسة البخور ! في جبهته شق غائر، وتعميق الحفرة قد يغري الناس بالتعاطـُف !

-    صوته المتلجلج يستعطفني !

-  اعترف لك : السبت الماضي تعاركت مع الشيخ 

( زعبولة ) فوق الجبل، أتباعه بطحوني، وفي المُستشفى خاطوا الجرح بثلاث غرز .

-    أكملت القص :

-    بالأمس نزعت الخيوط ، فررت إلى النُقطة .

-    وهنا تدخـُل العجوز متورم الوجه وكث الشعور ناصحاً :

-    زد له الأجر وميزه عن الآخرين .

-    بقايا الطعام عالقة فوق كرشه البالوني، أضحك بهستيرية مُعقباً :

-    أميز من ؟ ؟

-  لم أمنع قبضتي من الضرب، حاول أمين الشُرطة انتزاعي من فوقه، لم يتمكن، لم أنس دس العُملة الورقة في يده .

تمت بحمد الله

وسوم: العدد 673