لاجئ إلى عش هادئ..!!

محمد محمود عبَّار

لا أستطيع غير أن أصدق القول.. لا أستطيع تحدي المخاطر.. لن أهرب من الأقدار فأين أهرب...؟!! لا مفر مطلقاً.. صرنا اليوم تحت الحصار.. قد زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر.

في زمن مضى وانقضى اضطررنا لمغادرة بلدنا.. مدينة ابن الوليد، خلَّفنا وراءنا بيوتاً سُوِّيت بالأرض وبجوارها بنايات مازالت قائمة.

لم ندرك يومها أنها عملية تفريغ.. عندما أحرقت مستندات التسجيل.. خالط قلوبنا إحساس غريب.. فيه ريبة، بعض الناس لم تساوره الشكوك.. البساطة تغالب الوساوس، مهما يكن وليس باليد حيلة.

هطل الجبليون يغمرون المدينة.. روافض كثر مستوردون صاروا يحملون بطاقات الوطن.. احتلوا الجداول.. مزقوا جمال الخميلة.

دورنا مسروقة.. أرضنا محروقة.. ماالذي بقي لنا.. غير ذكريات حزينة.. معاناتنا اليوم أليمة.

الليل وحده يحس بنا.. يشاركنا الأوجاع.. يناولنا من دجاه يراعاً وأوراقاً ومحبرة قديمة.. إذن نكتب قصتنا بأنامل خشنة وسواعد رقيقة.

أفئدة غلفت بأوراق شجر جافة.. مسكينة جرائد الصحف أينعت كجريد نخل من عام فائت.

سدت بها فتحات خيام بالية.. تخفق فيها أرواح رياح.. مرة عاتية وأخرى صامتة.

الليل والبيداء تعرّفا علينا.. كذلك القرطاس والقلم والجوع والحر والقيظ والحبس في المخيم، الرمال والعجاج يأكل شيئاً من هامات الرجال.. يذر في العيون غشاوات.. يملأ الرئتين بأنفاسه العطرة.. مثل رياحين الصباح الندي!! الحفيّ بالأوهام.. الأرزاء.. مآسي.. قصص بلا رواة.

*  *  *

   عند الخروج كان الناس يسيرون زرافات ووحدانا.. مهلوعون يركبهم فزع ورعب.. بعضهم كأنما فر من قسورة، خالي الوفاض لا يلوي على شيء.. ومنهم من هام على وجهه في البراري و القفار.. وآخرون حملوا شيئاً من متاعهم، نساء و أطفال و شيوخ و رجال.. تراهم في الطرقات من خلفهم كأنهم غربان سود أو أجزاع نخل خاوية في صحراء بادية، ليسوا بسكارى إنما الرعب الذي غلف القلوب شديد، فانعكس على الأجساد هزات راجفة، قلت لأهلي و من كان بقربي من الجيران و غيرهم:

- حثوا الخطى.. ولا تلتفتوا للوراء.

لا أحد يجيب.. لا يتكلم.. الصمت غلاف يغمر كل شيء إلا من دويٍّ خلفنا و كتل تتراشق كأنها حجارة من سجيل، من يستطيع أن يتلفت خلفه إلا من سقط قلبه ألف مرة على مدى الأيام، ومازالت تتنازعه الضربات بين الفينة و الأخرى.

عندما ابتعدنا عن أسوار المدينة صارت الطيور تحلق فوقنا بعضها يتهافت نحونا ظناً منها أن لدينا طعاماً أو فتاتاً نسد بها رمقها بعد رمقنا.. أو يقيم صلبنا بعد عناء يومين من المسير و المبيت بليل مدلهم.

أخيراً تراءى لي شيء عن بعد.. هناك بصيص أمل هتفت بصوت راجف متهدج:

- تلك هي الحدود.. كأني أراها.. لعلها تقترب.

 شخصت أبصار، وأطبقت أخرى على دموع صامتة، ثم ارتفع صوت من وسط الجموع.. فيه ابتلاع ريق:

- الحدود.. الحدود هناك.. نحن نقترب.

ثم قالت إحدى النساء:

- إن شاء الله اقترب الفرج...

اخترق مسامعي بكاء و نشيج.. ثم علا وارتفع.. فكاد أن يكون عويلاً.

سارعت بالقول  مثلما أسرعت إلى وسط الجمع:

- وحدوا الله يا أخواتي.. و يا إخوتي.. ربنا بالوجود لن ينسى أحداً من فضله.. الفرج قريب بإذن الله.

راح بعض الرجال يشد من عزائم الأخرين ممن هزلت نفوسهم في خضم المعمعة.

أردفت قائلاً:

- علينا جميعاً أن نشحذ عزائمنا.. نواصل المسير قدر المستطاع.. عسى نصل قبل هبوط الظلام.

حمل بعضنا بعضاً ممن قصرت به الطريق و بعدت عليه الشُّقة، الطاعنون في السن.. عجزت بهم السبيل فانطرح بعضهم أرضاً لشدة الإعياء.. هناك أرجل متعثرة بين الوعرة و الثرى.

الأفق متوشح بالحمرة الطافية.. الهضبة ركبتها مظلة قاتمة والشريط الحدودي غاب عن الأبصار قليلاً عند الغروب.. أما البلدات فقد تضاءلت حيث حجبها عنا ما يشبه الغمام.

وفجأة سمعت دوي انفجار.. فتساقطت الشظايا مثل حطام المرايا.. تفرق الجمع كلمح البصر.. دب الرعب والهلع وارتمى كل واحد منبطحاً على وجهه، وأنا أصرخ:

- إلى الأرض يا جماعة.. انتبهوا.. بدأ القصف علينا.

دقائق انقضت ساد بعدها سكون ما بعد العاصفة، قمنا نلملم جراحنا نضمدها بلفافات قماش وأوراق.. هبط الليل.. كان علينا حتمياً تجاوز الحد الفاصل بين البلدين.. ومعنا شهيدة غالية كي نواريها الثرى.. أودعناها الأرض الجديدة علينا، مترحمين عليها وعلى بلاد غادرناها مرغمين.. في حلوقنا غصة وفي قلوبنا حسرة.

*  *  *

وطأنا أرض الجوار.. تفرق الشمل هناك.. البعض ذهب إلى أقاربه، والبعض الآخر إلى معارفه ممن يعملون هناك.

وبقي من هام على وجهه يبحث عن ظلة أو مسكن يأويه، التجأت إلى معارف من حارتنا يقطنون في مسكن ضئيل.. عبارة عن غرفة وتوابع.. ومن ثم وجدوا لي عملاً بأجر متدنٍ في بقالة.. والدوام غير قصير.

أما أهلي برفقة والدي فقد عادوا يقطنون خيمة في مخيم نصب حديثاً.. والدي لا يملك إيجار بيت بعدما ذهب البيت وأحرق متجره الذي نهبت محتوياته.. حالنا المادي كان لا بأس به.. كنا نرغد في نعماء، فغدونا متوقفين عند الأبواب.. أبي الآن يبيع بعض المأكولات الجافة والمعلبة بين الخيام على بسطة خشبية، رثت حاله من تاجر محترم إلى تويجر مصغر.

أنا لا ألبث أتردد عليهم بين الفينة والفينة.. أقضي لهم بعض متطلباتهم.

مرت الأيام على هذه الحال.. يأكل بعضها بعضاً، نحن لا ندري شيئاً عن أرقام الغيب.. علم في السماء يتلقاه أهل الأرض.

   البؤس طيف طال غالبية نزلاء الخيام.. بل هو ضيف ثقيل نزل بساحة من لا يملكون قراه.

سقط الناس هنا في حَيْصَ بَيْص، كمن غرق في بركة ماء ضحلة بلا لجة.. ضاعت الأهداف مختلطة بباطن التيه.

منذ نشأتي وحسب تربيتي لم يكن للأحزاب موطىء قدم في داخليتي، لكن هنا أصبح كرهي لها عالياً.. لما رأيته من اعتداءات حزب الطائفة المقاومة الممانعة!! إنما لأبناء شعبي وأهل بلدي.

قلت لوالدي ذات يوم:

- الحياة هنا صعبة وغير لائقة.

- ماذا نعمل؟ هكذا كتب علينا.

- أنا رأيي أن تخرجوا من هذا المكان.

- إلى أين؟!!

- نذهب سوياً.. نجد بيتاً في المدينة أو القرية القريبة.

أطلق والدي زفرة حارة:

- أستئجار البيت يلزمه مال.. ومن أين لنا؟

- أنا أعمل الآن.. وضعي أحسن من الأول.. نستطيع دفع الإيجار.. وإن يكن البيت بسيطاً فهو أفضل من حياة المذلة في المخيم.

- كفى ياولدي.. اصمت.

- أبي؟؟ هنا توجد مخاطر.. كم مرة اعتدوا على اللاجئين بحجة أنه يوجد إرهابيون بين السكان.

- ما لنا وما لهم.. الله يجازيهم بما فعلوا.

- اللهم انتقم منهم.. المجرمون السفلة.. يعتدون على الناس الآمنين.. لا بل يقتلون الأطفال والنساء باسم الوطنية والدين.

قال والدي بصوت خافت:

- اخفض صوتك.. الحيطان لها آذان.

لا أظن أن جدران الخيمة تملك آذاناً..  إنما آذان الجواسيس قد تكون قريبة منا تتنصت، الويل لمن باع نفسه وضميره للشيطان.. بثمن بخس لا يساوي وزن ذبابة.

- ما قلت يا أبي؟!.. أخي مازال فتى يافعاً صغيراً.. وأخواتي البنات وأمي وأنت.. إني أخاف عليكم.

- دعك من هذا.. أجور البيوت صارت غالية اليوم.. ومساعدات المفوضية لا تفي بالمصاريف..

تابع قوله في تحسر:

- كنا بالماضي نعطف على من يلجأ إلى بلادنا.. أما اليوم فقد صرنا بحاجة لمن يعطف علينا.. أواه.. قد دارت الأيام فصرنا على الهامش.. الله يجازي من كان السبب.

- أبي.. هون عليك.. تفرج إن شاء الله.. المهم الآن أن نخرج إلى سكن آمن.

عرفت والدي منذ نعومة أظافري.. طلق اللسان، حلو الكلام، لا يفتر عن الحديث.. أما الآن فقد صار يؤثر الصمت على الكلام وقد عجفت قامته، هز رأسه بالنفي وقد غارت عيناه في مآقيها.. ثم انحدرت منهما دمعتان على وجنتيه.. سارعت أجفف الدموع وأمرغ وجهي في كفيه.. راجياً منه التحلي بالصبر والرجاء برب العباد.. ثم رحت ألقي رأسي في صدر أمي التي شاركته ذرف الدموع.. ترددت نظراتي أيضاً إلى الزغب الضعاف في ركن الخيمة حيث ركبتهم حالة ذهول وجمود.

*  *  *

لم يكن بوسعي سوى الانصياع لرغبة والدي.. على حد قوله: كنا على وشك أن نفرح بك.. لكنها فرحة لم تتم.. ذهبت آمالنا مع ثروتنا حتى البيت الذي نسكنه والبيت الذي أعددته لك فوق رؤوسنا ليكون بيت الزوجية السعيد...

لسان حاله يوحي إلي أن أجمع بعض المال لَعلِّي.. أكمل المشوار الذي لم يكتمل على يديه.. بسبب ما حل ببلادنا وأهلها من ضيم وخراب.

لا يفوتني هنا ذكر أمر هام.. كي لا أنسى أو أكون متناسياً أن حالنا على علاّته ألطف بكثير من حال غيرنا من جيراننا أو أهل بلدنا.. عائلات فقدت أبناءً في ريعان شبابهم وأطفالاً زهرة الحياة الدنيا، أناس فقدوا أطرافهم وآخرون فُقئت عيونهم.. وعلل ما لها علاج ولا لها من دواء.

إذا رأيت مصائب الآخرين هانت عليك مصيبتك.

إذن عسانا أن نكون من الصابرين في السراء والضراء وحين البأس.. هذا ما كنت أردده في نفسي.. وأجهر به أمام أهلي.. فتغمرهم كلماتي بما يشبه ماء الثلج والبرد في يوم صيف قائظ.

مرت الأيام على هذا المنوال.. أفراد عائلتنا أصابهم الهزال وركبتهم الأمراض.

ليست إرادة ولا هي عادة.. بل هكذا خرج قرار رب الأسرة جزافاً.. دونما دراية.. أو حسابات دقيقة للظرف الراهن.

*  *  *

أقبلت العاصفة على غير موعد.. جاءت الرياح العاتية أثارت عجاجاً وبقايا أوراق أشجار يابسة.. انقلب الجو داكناً قاتماً، تطايرت ألواح الصفيح هنا وهناك، اقتلعت خياماً في عرسال لبنان.. ومن ثم جاءتني الإخبارية بالحضور عاجلاً.. أهلك صاروا في العراء.. البيت المنصوب صار فراغاً..أثراً بعد عين..

عبثاً حاولنا الإصلاح.. الإعمار.. دق الأوتاد.. العاصفة أقوى منا.. ما أضعفنا حيال قدر الله.. تلك ليلة ليلاء.. لا تزول عن الذاكرة.

في الصباح عاد المسكن واقفاً بأرجل عرجاء.. لم يكن الذين تحطمت فوق رؤوسهم أعواد وعصي قادرين على الخروج.. لا جسمياً ولا نفسياً.

حبات البرد بدأت تتساقط.. زخات ثلج تطرق مسامعنا، بمرور الوقت تراكمت وعلا فوقها القطن الأبيض الكثيف، المخيم غارق في ماء وطين.

العيدان البشرية ترتجف وترتعد.. فوانيس التدفئة كذلك راجفة.. تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة، البرد والزمهرير متواكبان.. وقد قُص مسمار الفولاذ، فما بال أجسام ناحلة ضعيفة.. في طقس ناءت عن حمله وحوش الغاب.

تلك مأساة البؤساء.. المشردين بين خيام وخواء.

تساقطت وريقات صفراء.. منها أبي بين أيدينا وفي أحضاننا.. غادرنا وغادر هذه الحياة المليئة بالاشواك.. وبجوارنا هبة وهدى الصغيرات وغيرهم ممن غرقوا في انهيارات الثلج المتراكم..

وأما هناك في شبعا فقد سقط البداوي وبراءة الطفولة وعنفوان الشباب بجانبه، ممن رحلوا معنا يوم النزوح..صدق من قال: من لم يمت بالسيف مات بغيره، واليوم رحلوا مع والدي إلى عالم لا ظلم فيه ولا طغيان...

أهذا هو العش الهادئ الذي كنت أحلم به!!...هناك تحطمت الأحلام...

بعد زوال الغمة وانقشاع الغيمة.. أصبح من واجبي البحث عن مخرج آمن للنجاة بمن تبقى من أسرتنا.. بعون الله وكرمه...

إلى حياة لا أقول: سعيدة أو رغيدة.. إنما فيها حفظ كرامة الانسان...

وسوم: العدد 674