أمل
سماء بلدي تبرق.. مدينتي تأكلها النيران.. أبنيتها تحترق.. قد لا يكون أحد رأى ما حل بها..
أما العيون التي لم يداعبها النعاس أظنها كثيرة منها عينا زوجي اللتان قرحهما السهاد تعالت صرخاتها.. صرخات يعانقها ألم شديد ألمحه في قسمات وجهها المنقبض، وفي أصابعها التي تتشبث. بطرف الفراش، وفي جسدها الذي ينتفض مرتعشاً.
ارتفع الصياح من منزل قريب.. قتلت طفلة بشظية طائشة، أحسست بشيء يدمي في داخلي.. ليته أحس بها «الضمير العالمي» وسمع الصرخات المدوية، المدافعون عن «حقوق الإنسان»
آلام المخاض تترى والوجه المنقبض يزداد شحوباً كلما تعالت الأصوات المرهوبة، وكان لا بد من القابلة في تلك الظروف الصعبة، احتواني الشارع ورائحة الأنقاض والبارود وظلام كثيف يسود خلف كل دفقة من القذائف الملتهبة التصقت بالجدار.. أغمضت عيني.. انفجار هائل لم أعد بعده أسمع شيئاً.. ثم سمعت انهياراً وحشرجة قريبة: قذيفتان أصابتا منزلاً.
يبدو أن أحداً من سكانه لن ينجو.
فكرت في العودة.. وطاردني إلحاح صرخات المرأة تخرق الجدران والحواجز.. وهي تتلوى كأنما يقطع أمعاءها سم قاتل.
صممت على المسير، فصرخاتها تطغى على صرخات الثكالى وأنات الجرحى، وأوجاعها في حسي أرهب مما يخب به الشارع وما يلف «صيدا» من رعب.
وكان البحر هادئاً والريح ساكنة في تلك الليلة أو هكذا حسبتها من هول ما يرزح الميناء تحت وطأته.
ضغطت الجرس فلم يرن وكانت العتمة قد خيمت من جراء انقطاع التيار وابتعاد القذائف.. طرقت الباب ثلاث مرات فلم يجبني أحد ثم دققته وبعنف.. ومرة أخرى.. خالطني اليأس وكدت أن أرجع أدراجي بخطواتي التائهة في ليل بهيم لا تبرق فيه إلا نيازك الموت والدمار وتكثر جثامين الأموات، فطنت إلى شيء غاب عني في الوهلة الأولى وهو أن الناس في مثل ليلتنا لا يميزون كثيراً طرقات الباب من الأصوات الأخرى العنيفة التي تسود الظلام.. وهوت يدي على الباب تدقه دون كلل.. وبإلحاح حتى صحا النائم.. وليس أعجب من أن يوجد في المدينة وفي المخيمات نائم هذه الساعة.
وأخيراً أتى إلى مسمعي صوت أجش:
- من؟
- أنا.
- من أنت؟
- أنا.. صبري عبد الحكيم.
- ماذا تريد؟
- أريد السيدة القابلة.. امرأتي في حالة وضع وهي بحاجة ماسة لها.
- في هذا الوقت.. لا يا عم.
- افتح الباب أرجوك.
- من يفتح في هذه الساعة؟!.. يا غبي.
- لست غبياً.. إنما هي الضرورة.. امرأتي حالتها خطرة.
- انفرج الباب عن شبح لم أتبينه جيداً في الدجى: ها قد فتحت.. ماذا تريد الآن؟
- سامحني إذا كنت أقلقت نومك.
- من يستطيع النوم في كل البلد!!
- أرجوك أريد « الدكتورة» لأن أم الأولاد... قاطعني قائلاً:
- خذوها للمستشفى.
- مستشفى.. وأي مستشفى يستقبلها.. وهل يبقى سرير شاغر يا أستاذ.. في مثل هذا اليوم.
- إلى دار التوليد.
- حتى دار التوليد والمستشفيات الخاصة.. ستموت هناك إن لم تمت في بيتها أو في الطريق.
- أراك شديد القلق.
- زوجتي تموت.
نفخ من أنفه.. وفجأة لمع ضوء فرأيت وجهه المكفهر وحاجبيه المقطبين وهو يقول:
- وهل هي الوحيدة التي تموت الليلة؟
ولم تلتقط أذناي آخر كلامه.. فقد دوى انفجار غطى على كل شيء حتى على ارتطام ضلفة الباب التي انصفقت بعنف في وجهي وغيبت خلفها الرجل.
صرت في الشارع وحيداً.. قد خلا من كل شيء حتى الخفافيش هجعت من رعبها والصراصير فقدت قدرتها على الصرير.
عبرت إلى منزلي الذي خلا من الصراخ.. حركة غير عادية تجتاحه وأكثر من امراة في البهو وأمام حجرة النوم.
وعرفت أن الليل قد انشق عن مولود بينما أغمضت أمه عينيها مستغرقة في سكون ما بعد العاصفة.
غفوت قليلاً من شدة الإعياء ثم صحوت من غفوتي التي لم أدر كم بقيت بها، طلب مني استدعاء الطبيب.. ومن هو ذلك الطبيب النبيل المناوب في عيادته يقطعها جيئة وذهاباً في انتظار واحد مثلي؟!!
فركت عيني ونظرت في ساعة يدي وقلت لهن: لا.. لن أخطو مرة ثانية في درب الفشل.
- تفضل لترى أوجاعها.
- ماذا أفعل أكثر مما فعلت.
- حرام عليك.. زوجتك ستنتهي.
قفز قلبي من مكانه أو هكذا خلته بسبب الهبوط المفاجىء، وتذكرت كلمات الرجل على عتبات منزل القابلة.
وشرد ذهني سريعاً يسبح في أنحاء البلد.. كم من قتلى وكم من جرحى.. وماذا فعلنا نحن من أجلهم؟.. لعل مصيبتنا على هول ما فيها أقل المصائب في مثل هذه الليلة.
فكرت في جلب دواء من الخفارة الليلية.. لكنها بعيدة، وقبل أن أشق طريقي في الظلام عادت صرخاتها تشق عنان السماء وكانت امرأة قد أحضرت من بيتها القريب لبوساً من النوع الذي تستعمله النساء في علاج آلام ما بعد الولادة، ولم يمضِ غير قليل من الوقت حتى هدأت.
توالت القذائف والدوي البعيد يقترب وأخذت ركناً في المنزل.. متحفزاً مرهف الحواس، أنصت إلى الأصوات المختلفة التي تصل إلينا بين الفينة والأخرى، وكان الصوت والضوء وسط الظلام هو الأثر الذي ينقل لنا الأخبار المكتومة وراء السور.
ولعل زوجي كانت تفزع على أثر انفجار قريب وكان أحد أولادي يهب من نومه فزعاً.. يصرخ ويهرع بلا هدف ولا أملك إلا أن أناديه وأربت على ظهره كي يهدأ ويعاود النوم وأقول: يا حي.. يا قيوم.. يا لطيف أُلطف بنا، ومرة أخرى أجد نفسي أتمتم: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وعندما تبرق النيازك في الفضاء يتسلل إلينا بعض وميضها فالتفت إلى ثلاثة من أبنائي استلقوا بجوار مقعدي في فراش واحد بشكل عرضي، وشدوا فوقهم لحافاً واحداً هو حصتهم من الأغطية القليلة في بيتنا.. أراهم ملتصقين كأن كل واحد منهم يحتمي بأخيه.. عيونهم مفتوحة تحملق في لا شيء.. رأيت واحداً منهم فاغراً فاه والثاني ينظر إلى السقف بحدة والثالث قد انتصبت أذناه وفي وجهه أمارات التحفز وما يلبث أن يغطي أذنيه براحتيه.. ما أشبههم بالأرانب المذعورة أمام قط شرس، أو أنهم مثل الطيور الوديعة يطاردها الصيادون وقد أحاطوا بها من كل جانب.
ابني الأكبر على مشارف الخامسة عشرة.. ويغمض عينيه في استسلام تام بعد أن تمضي العاصفة المدوية دون أن يصيبنا إعصارها مباشرة، أما بناتي الأربع فلست أدري ما حل بهن وهن قابعات قريباً من أمهن.
أصبح الصباح ولفظت امرأتي أنفاسها الأخيرة.. وكان الغيم الداكن يحجب عنا الشمس ونحن في طريقنا إلى المقبرة لنواريها التراب وكأن الطبيعة من حولنا تشاركنا أحزاننا، ولم أكن لأميز بين الضباب والدخان، ولم يكن بوسعي أن أفصل بين أريج الزهور التي تكلل أغصان أشجار التفاح والكرز وبين رائحة البارود وعجاج الأنقاض، أما فوهات المدافع فقد آثرت الصمت لأنها لا ترغب لا هي ولا مديروها التدخل في المعركة طالما أن العدو الصهيوني مازال بعيداً ولم يدخل الساح بصورة علنية.. كان المشيعون قلة يتجاوزون أصابع اليد الواحدة بقليل، وظلت البنات في الدار يقطعن نحيبهن بطعم الدموع الممزوجة بمرارة الصبر.
في طريق العودة وجدنا القذائف «الصاروخية» تهطل فوق المدينة بشكل عشوائي وكنا نحتمي بالجدران الشرقية تارة.. نتابع مسيرنا عندما تتحول عنا سهام الدمار.
عبرنا الزقاق المفضي إلى منزلنا.. صمت ووجوم يقبع في وجوه الأبناء ولم أرَ أحداً يدعونا لمنزله كما جرت العادة عقب التشييع لأن الطريق خاوية.. والقلة من الناس الذين شاركونا في المأتم كانوا قد انفضوا متفرقين أثناء الهجوم العاصف.
واشتممت رائحة غريبة وجواً مرعباً يسيطر على سكان الحارة.. فقد أغلقت النوافذ.. وخلت السطوح والشرفات وشبه ليل يخيم بسواده.. وتراءت لي أنقاض بعيدة وبيوت مهدمة.. حثثت الخطى وأسرع الأبناء خلفي.. فوجدت بيتي متصدع الجدران.. قفزت إلى الداخل.. فوجدت غرفتي أثراً بعد عين.. جن جنوني وفقدت صوابي ورحت أزعق.. فخرج أحد جيراننا.. وصرخت مرة أخرى: أين البنات؟ هل لحقن بأمهن؟ أمتن كلهن؟
هدني الموقف وكادت قواي أن تخور وجاءني صوت رزين:
- اطمئن.. إنهن عندنا، وركضت لأراهن ولم أنتبه لأولادي.. وكان علي أن أعود مرة أخرى إلى المقبرة لأواري طفلتي الحبيبة التي لم تكمل ربيعها السابع.. خلفت ابنتي الكبيرة في بيت الأقارب تحمل الوليد وجراحها تنزف، وكان إعيائي شديداً.. وألقيت نظرة أخيرة ملؤها الأسى على منزلي المندثر ولم يكن تفكيري يقوى أن يتطرق إلى أمر مأوانا الجديد.. أهو الشارع أم بيوت بعض طيبي القلوب.. أم برّاكيات هيئة الأمم.. حيث لا أمم.. أم ماذا؟!! واعتراني دوار ساحق كاد أن يزهق وعيي.. وأنا أنظر برثاء إلى مصير أمة لا تستطيع الدفع عن نفسها.. وقلت: أما لهذا الليل من آخر؟!..
• خاتمة:قد فقدت الليلة رفيقة دربي أمل وفلذة كبدي أماني.. لكني لم أفقد الأمل في صحوة أمة ونهضة جديدة تزيل الغمة وترفع أجيالنا القادمة إلى القمة، ونعود سادة لا عبيداً على درب المجد التليد، شهداء على الناس كما أرادنا رب العزة العزيز القدير.. دعاة سلم وسلام وأمن وأمان لكل العالمين.
* القصة نشرت في مجلة (الأمة) القطرية، العدد العاشر شوال 1401هـ ، أما فيما عدا الخاتمة.
وسوم: العدد 681