ورقتان خريفيتان تهويان

وبسرعة خاطفة وعن قرب؛ رأيته وتفحّصتُه فكلّمتُه وحاورتُه، ومضيتُ

موحية له أني عابرة على الرصيف مثل بقية الآخرين، بل ومثله أيضاً، أشرت

إليه بيدي وهو غير مُصدِّق، تابعني بعيونه وهو غير مُصدِّق، شعرت أنه يريد أن

يلتهمني بهما، أسرعت الخطى مبتعدة ما استطعت.

كنت شجاعة وقوية، ولا أعرف من أين جاءتني هذه الشجاعة وتلك القوة فجأة، كان

باعثهما هوافتراضيبقدم معرفة هذا الشاب منذ سنتين ماضيتين، وقد تكوّن اليقين به

واستقر في داخلي وأمام بيتنا، وعلى مرأى من الناس قبل ساعة من الآن، وربما كان

هوالباعث الحقيقي, وإلاّ فإن أي سبب غير ذلك سيكون له تفسير آخر، وربما

سيوصف بالأرعن!

وهذا معناه بالنسبة لي خوض في مجهول المعاني التي لاتُحمَد عقباها.

 دفنت في ليلتي تلككل الوساوس، حينما اعتبرت معرفتي بهذا الغريب العجيب سرًّا..

ولو بهذا الشكل الذي أديته بمهارة حاذقة، وأعدت الكلمة مرة أخرى على مسامعي

...نعم هو سرّ..!! ولطالما غلّفته بالصبر والكتمان غير المقصودين، فإن معنى السرّ

 ينطبق عليه بكل ثقة!.

لم يغمض لي جفن في تلك الليلة الحاسمة، ولم أعرف طعم النوم أبداً، كانت ليلة فارقة

تختلف عن سابقاتها، حيث كان التعب من دوام المدرسة ثم متابعة الدراسة والعمل

في البيت يجعلاني استسلم للنوم فوراً ومن دون أدنى مكابدة، واليوم ظلّ مضجعي

يئن كأني مريضة بلا أوجاع، لم أشأ أن أُظهِر أيًّا من ملامحه على أحد ولا حتى

لأمي أو أختي الكبيرة المتزوجة، أو زوجة أخي الكبير، والتي تحشر أنفها دائماً

في كل صغيرة وكبيرة، تحمّلت صبراً إضافياً ممزوجاً بالحيرة، مما رأيته من ذلك

الشاب، ومما ساورني من شك وقلق، فقلبي حدَّثني وأكَّد لي أنه لا يعاني من

شيء! وإلاّ لما كان مظهره الخارجي ولباسه بهذا الاعتناء المتناسق، وحتى مخارج

صوته حينما تلفظ بكلماته القليلة تبدو كذلك سوية.

لا أدري لم أنا واثقة ومتأكدة من سلامته الجسدية والعقلية والنفسية, فأصدر له تقريراً

طبياً، ينفي عنه صفة الجنون أو أيمرض آخر.

ولكي أكون واثقة من صحة نتائج تقريري الطبي الظنيّ، كان لابد من أن أنقذ نفسي

من الوهم أولاً؛ ثم أضع بعض (الحسابات الأنثوية) والتي تخصّني كفتاة في مثل سنّي

وفي حياتي الآتية، ثم أرجو أن أصل إلى محصلة هي في حسن ظنّي كذلك، مؤهلة

لموضع خطوة أكثر صراحة ووضوحاً...!

خطرت لي فكرة بعثت فيّ الضحك كثيراً، تخيلتها كمزحة طريفة أصنعها مع هذا

الشاب ساكن أو زائر الرصيف، بطل برنامج نافذتنا الخريفي، لكن ربما يصيبها

الفشل أو تكشف أثناء تنفيذها، أوقد تسبِّب له الأذى فيما إذا كان مثلما ظننته،

وبالتالي يتوجب عليَّوضع خطة بديلة لتصحيح ما سأفسده، وربما لاتتوفر لدي

استطاعة حينها، سألت نفسي كثيراً، ووبختها أكثر!.فكيف أقوم بكل هذه

الأعمال الخارجة عن مألوف حياتي التي نشأت فيها، وعن حياة عائلتي ورصانة

نهجها؟.

ومثلما اعتراني تردُّد وخوف من ضعفٍ في اعتقادي بالموضوع كله، قابله رغبة

شديدة لاقتحام عالمه الذي أثار فيّ شيئاً جديداً، فكان لا بد من أنْ أستغلّ أقرب فرصة

مناسبة وأحسم أمري، قبل أن تشتدّ متطلبات دراسة منهاج الثالث الثانوي، ولاأجد

حينها متسعاً للاهتمام بأي شيء غيره، ومن أجل ذلك لا بد من أجد أحداً ما أثق به،

يساعدنيعلى تنفيذ فكرتي كما أريدها وبسرعة، قبل أن يتبخر كلُّ شيء، ويذهب

الخريف بأهله، كما ذهب سابقاه!!!.

سخِرت من نفسي الأمّارة بالسوء، وسخِرت كذلك من هؤلاء الثلاثة، الذين تبرعوا

بتنفيذ خطتي، لمّا وجدوا فيها شيئاً من اللهو والسخرية، وإجادة أدوار التعالي على

الغرباء المساكين! ومع ذلك فقد تابعت تمثيل المشهد الديناميكي من وراء زجاج

نافذة (غرفة القعدة)العتيدة، مشدودة الأعصاب ومتوترة، خوفاً من حدوث طارئ

يقلب ترتيب الأدوار رأساً على عقب، سواء أكان هناك على الرصيف المقابل خارجاً،

أممنداخل بيتنا، ومرت الدقائق... فشاهدت العجبمن أمره، حينما ألقيَت إليه

قطعة النقود الأولى وهو جالس القرفصاء مسنداً ظهرهإلى الشجرة، قفز قفزة

كأنه تلقى وخزة، تلفّتَ يميناً وشمالاً وأخذ يقلِّب قطعة النقود كأنه غير مصدِّق لما

حصل، ثم عاد إلى جلسة القرفصاء ثانية، وما هي إلاّ دقيقة مرَّت عليه

حتى رميت له قطعة نقود ورقية ثانية، وكانت بحسب الخطة تختلف عن الأولى

وأكبر قليلاً، ويبدو أن الحيرة والعجب قد استوليا عليه، وراح يكثر من التلفُّت،

ثم غيّرمكان جلوسه وابتعد عن الشجرة، فجلس على حافة الرصيف المحاذي للطريق

ولا زال يقلب ورقتي النقود ويهز برأسه، لم يُمهَل وقتاً حتى فوجىء بالقطعة الثالثة

تُرمَى بحجره، وكانت من الفئة الأكبر من سابقتيها، عندها نهض واقفاً

وأخذ يرمق أحدهم, كان يبتعد عنه في جهة مغايرة، وقد شكَّ أنه هو من ألقى إليه

بالقطعة الأخيرة، شاهدته يهمّ باللحاق به لكنه تردَّد وأحجم عن ذلك، وقف قليلاً

ثم وضع يديه في جيوب بنطاله، ومشى متمهلاً، وأخذ يبتعد حتى غاب عن ناظري

 ويبدو أنه انسحب من المشهد بكل هدوء،محافظاً على كياسة رسمه الطبيعي

العادي.

الآن أستطيع أن أقول لنفسي بكل فخر بعدما رأيته، وأقدم لها التهنئة لما شاهدت

عيناي، من صدق ظني وتصديق تقريري !!.

وأستطيع أن أقول أيضاً، ولست خجلة من شغاف قلبي: مبارك عليك يا (بسمة)

خريفك الثالث وبفارسه القديم الجديد، لقد غادره منذ تلك الساعة ولم يرجع إليه،

وأخافألا أراه مرةً رابعة، فكيف لي أن أعرف أنه غادر غير مكسور الخاطر؟

وكيف لي أن أعرف أنني لم أسبِّب له أي جرح في مشاعره؟.

سأرجع إلى نافذتي؛ وسأناشد البقية الباقية من هذا الخريف،وإن لم تسمعني

أو تفهمني،فهي لازالت تحمل مع نسماتها المتقلبة ورقتين خريفيتين من

أجمل ما ألقت أشجار المدينة من أوراق، هدية قادمة تبشِّرك بحسن ما أقدمت

عليه أمك العظيمة (يابسمة)، حينما أوكلت إليك إدارة مصنعها المصغّر في

البلكونة، ولتصنعي ولأوّل مرة وبإدارتك المنفردة ومن تلقاء نفسك، ما يفرح

قلبك الغض، وقلب شارد ولهان صادق آخر...!!!!.

وسوم: العدد 682