الحرية

عصام الدين محمد أحمد

السابعة صباحًا تعلن قدومى ،أتجول بين المعتصمين،يتجمع الناس،تبيت أسر فى الميدان،بيدي لفة سندوتشات فول وطعمية،أوزعها على بعض الجالسين على الأرصفة،أختار موضعًا مواجهًا للشمس،أقعد قارئا عناوين الصحف،والتى أحرص على شرائها لفرشها أثناء الصلاة،أستحلب أشعة الشمس،تصيبنى بالخدر،تهمرنى خيالات وخيالات:

(جموع الناس تذهب وتجيء،الحناجر تئز بالنداءات،هاهم أناس آخرون يقفون فوق كوبرى السادس من أكتوبر، المار فوق ميدان عبد المنعم رياض،يتشبثون بشعارات عتيقة،حشرجات تقيم حواجز الإيهام باستمرار النظام ،  وأيديهم مدججة بالسيوف والبلط والمطاوي والجنازير،فوق أسطح العمارات المواجهة للمتحف يشعلون الزجاجات الحارقة، تنهمر فوق رؤوس المحتشدين والصارخين برعب حقيقي :

- سلمية.. سلمية.

الحجارة تتساقط فوق هاماتنا كالأمطار، قنابل المولوتوف تمنع تقدمنا تمامًا، يصوب قناصة المتحف بنادقهم لصدورنا ، تتشابك أذرعنا كأغصان الورد ، الشباب يقفزون في الميدان يحملون الجرحى ،الأئمة يصرخون عبر مكبرات الصوت:

 - حي علي الجهاد  ...........  حي علي الجهاد.

يكسرالشيوخ  بلاط الأرصفة ، الأقل عمرًا يفتتون البلاطَ إلي حجارة صغيرة، البنات والنساء تحملن الماء والخل إلي الصفوف الأمامية، صيحات الله أكبر تخترق عنان السماء، بيدي أربعة حِجَار،أتحرك كالمغشي عليه:

-  لا أدرى ماذا أفعل؟

- أأضرِبُ ؟ أأتراجعُ ؟ أأَمْلَؤُ الجاكت بالطوب وأحملُه إلى الطليعة ؟

- يا الله؛ ماذا أفعل ؟ الوقت وقت موت ودمار ولا نجاة من قبضته ومازال التردد يكتنفك!

يتساقط الشهداء؛ الشهيد تِلْوَ الشهيد.

- طال الوقت أم قَصُرَ لا أدرى!

أتحسس جبهتي ،ما هذا الشيءُ الغريب؟ ضمَّادَةٌ ضخمة تعصِب جبهتي،يهاجمني صدى الأصوات المتعالية :

- يسرقون المُتْحفَ.

النائحة تعدد المآثر:

- يا جمل الحمول يا سبع.

موجات هادرة من الهجوم المرتبك؛كروفريَعْنُفُ القتال،مازالت الهواجس تكبِّلُنِي،بنت( تى شرتية) تحتضن صُرَّةَ الطوب.

- ما الذي ألمَّ بك أيها المعتوه؟

- تبًا لكل آيات الجنس ، سحقًا لكل شهوات النظر. 

تقبِضُ يداي على الحجارة، ينتشرأطباء المَيْدَان كالفراشات ،يجوبون الساحة بالإسعافات الأولية ،يحملون أكياس القطن،وزجاجات المطهِّرَات،لا يهابون روائح الموت المنتشرة ،صوت أمي المنكسر ينغز أذني:

- مات أبوك يا فقرى.

أكاد أتهاوى من الإعياء، محمد يسندني.

- لماذا حضرت فى هذا الوقت؟ ألتلقى حتفك؟ ونحملك فوق الأكتاف ونستجير:

- دم الشهيد بيننا وبينك.

يسجل بهاتفه المحمول المعركة الدائرة ،أنتفض:

- لن أسقط الآن ،فالوقت مازال طويلا.

جحافل السلطان يقتحمون الميدان،الشباب يتمترس،الأصوات تتماس:

- الجبان جبان والجدع جدع ..وأنا شهيد الميدان.

الموت يَحِيقُ بنا من كل الاتجاهات،هرولة وزعيق:

- سابني الشهيد وعالبالطو دمه..فدانى بروحه ووهبلى عمره.

كتل بشرية تندفع ،تَهطِلُ من جهة عبد المنعم رياض،ارتياع يحرك الجميع،القلوب واجفة،الإرادات هَلِعَة،المحتجون لا يَعُون من أين سيقتنصهم الموت؟،الهلاك يصب ويلاته من فوق العمارات والمُتْحف المِصْرِي والكوبري ،الحظ وحده يحدد نوع الأداة ،يمكنك أن تموت بحجر مدبب؛حملته سيارات الأمن المركزي وبعض ناقلات شركات البترول ،ربما تكون محظوظـًا فتهربُ رُوحُكَ بطلْقٍ ناري لقناصة يختبئون خلف الشرفات:

- ربما تكون شقيًا فتتفحم أسفل حُمَمِ المولوتوف .

الاندفاعات البشرية تزداد والأغبرة تؤطر الَّلوْحَة بالضبابية،جمل يبرطع مهتاجًا ،يَنْفـُث عن غيظه وكَمَدِه مخترقًا الجموع الحانقة،يتبعه حِصان أحمر وآخر أسود وفى ذيلهم ثالث أبيض،عبقرية الخيال تجسد واقعًا سرياليًا ؛لا أعرف معنًى ماديًا لكلمة سريالي ولكن هذا من لزوميات الحدث ،مهما بلغ بك الجنوح لن تتمكن من اجتزاء مكونات المشهد؛ركلات ،صيحات ،أتربة ،أدخنة ،طلقات نارية ،غازات مُسَيِّلَة للدموع ،قنابل حارقة ،الأيادي تنتزع فرسان القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد من فوق صهوة دوابهم،مِرْجَل القهر المتراكم منذ ثلاثين عامًا ينفجر ، ذعر،اضطراب،أناس يجرون جِوَارَ السور المُتَاخِمِ لمعدات المقاولون العرب ،الدبابات المنتكسة لا تَبْرَح موضعها ،يتكاثر الجرحى ، تعلن مكبرات الصوت:

- القبض على رجال شرطة.

- مداخل القصر العيني والجامعة الأمريكية وطلعت حرب وشامبليون وقصر النيل يعوزها متطوعون .

الأصوات تتوحد:

- ارحل يا نيرون العصر ..ارحل قبل ما تولع مصر.

اصرخ :

- أين أنت يا محمد؟

منذ الواحدة ظهرا والخيل والجمال والحمير تطاردنا، الحكماء يرسخون تخلفنا عن الركب ، أرباب النظام يجندون آلاف الشباب المُطَعَّم بالشرطة السرية ليجتثوا شأفتنا من الميدان ، كاد عقلي أن يتشظى ، يجلجل الميدان:

- يا مصر.. يا أم .. ولادك اهم .. دول علشانك شربوا الهم .. دول يفدوك بالدم.

 لا أحدٌ يكبح جماح الصارخين المنتفضين ،الحَيْرَة تقذفنى فى دائرة الهم،،صوت ابنى يرعبنى:

 - القاتل والمقتول فى النار .

الأزهرى يرج الساحة:

- الدفاع عن النفس جهاد، الويل كلَّ الويلِ للمعتدين.

أنا ما بين هذا وذاك مرتجف ،يداي ترتعشان ،قدماى تسلكان دروبًا متعرجة متداخلة ومتباعدة ،مسيرة الأيام تنازع الصورة ،الطبيب الشاب يضمد الجراح فى كل الاتجاهات ، جموع الجرحى تتوارد من شتى الأمكنة ،الجروح قاتلة :

- يا (بُوي) أيستحق الصراع كل هذه الأرواح؟

أغمض عيني ، تَتْرَى المشاهد وكأن النهار راسخٌ ويأبى الزحزحة :

محمد يصيح فى وجه القائد العسكري:

- لماذا لا تدافعون عنا ؟

ببرود يرد الضابط:

- أنتم هم ... وهم أنتم !

يسخر محمد :

- ضعوا حاجزا بيننا وبينهم.

يتجاهل الضابط المطالب، يتحرك محمد كالأبله، لا يدرك تمامًا ما الأمرُ، يدنو، يقول:

- هناك ضابط مباحث أمن دولة مع القائد العسكري.

الهُتَافَاتُ تشق الهَلَع :

- أمن الدولة.. يا أمن الدولة.. فين الأمن ؟  وفين الدولة؟

الأكتاف تتزاحم،الصراع يشتد ،ضرب ودماء ،زئير وأنين ،كميات الحجارة التي يقذفها المهاجمون لا تنفد ،يتكسر أتوبيس مليء  بالجنود ويتوسط الدبابات الأربع ،والجنود لا يغادرون مطارحهم ،سيارات عِمْلاقَة كالحة اللون حُبْلَى بأكياس الحجارة المسنونة ،أقطع الميدان فى خُطـُوَات متسارعة ،الصورة عند مدخل قصر النيل لا تختلف عنها عند بوابة عبد المنعم رياض،الآن ترسخ فى عقلى المضطرب أن للحرية وللكرامة ثمنَهما الباهظ ، المناوشات النقاشية تفترسني ؛وكأن الوقت وقتُ حِوار:

- أنا حر.

- ادعاء.

- لا تهوّلْ الأمر.

- لماذا يسعى هؤلاءِ لسفك دماءنا ؟

- للمال.

- بل يتجيشون لنزع فتيل اليقظة.

- ما أيسرَ التبريرات فى سوق الفَزَع !

- ما أبشعَ كتب الوهم !

- أكرر أنا حر.

- بل أنت متخاذل متقوقع، تخشى تيار الهواء.

- لا تَفُتّ الوَهَن في عَضُدِي.

- جمل وخَنْجَر في صدر كل متظاهر.

- طلق ناري وضربة جنزير لكل متردد.

- أتظن أنهم سيبقون؟

- صراع الإرادة في الميدان سيحسمه الاعتقاد.

بلغت الساعة الثانية عشرَ مساءً ،حاولت زوجتي الاتصال أكثر من مائة مرة ،تستغيث من توالى هجوم البلاطجة على الشارع ،تجاهلت أحاديثها ،كثيرون دفعتهم أمى للاتصال بى، يحثوني على المغادرة، فأغلقت هاتفي ،لم أفتحه إلا هذه اللحظة ،أى نعم تخلل هذه الفترة الطويلة تشغيلى الهاتف أكثر من مرة ،لكي لا أسبب لأمي مزيدًا من القلق ،فالأمراض تلازمها كالشهيق والزفير ، والسكر يعبث بوجودها ،أجاريها الحديث مهدئًا من ثورتها ضدي ،أخشى غضبها ،حينها تتبدل حالتي جحيمًا ،أركض خلفها مستعطفًا ،تذيقني الهَوَانَ حتى ترضى ،أقرر العودة لتطمئنَ زوجتي وتهدأ أمي ،أقطع الميدان شمالًا وجنوبًا ،أبحث عن محمد ،أخيرًا أعثر عليه ، يخدُمُ الجرحى المنتشرين في العيادات مع المسعفين ،أدعه فى شأنه ،أخرج من منفذ طلعت حرب ،لم تتجاوز خُطُواتي العشرة ، الشباب المُجْهَدُ ينتشر ،يتحرك ويستطلع الشوارع المحيطة ، أكوام الحجارة منثورة فى شتى الأرجاء ،يصنعون من السيارات المحترقة حوائط وسواتر ،الكثير منهم ينصحُني بالعودة إلى الميدان والمغادرة من منفذ أخر أكثر أمنًا :

- لماذا هذا اليوم طويل ؟

- لن تسترد الحياة بسهولة ؟

- الراحة تُولدُ من رحم المعاناة.

- من الضروري رؤية الأولاد والزوجة وطمأنة الأم.

ألِجُ الميدان ثانية ،أتجه إلى مخرج قصر النيل ،يفتر عزمي ،لا أفضل هذا الاختيار ؛ فناقلات الحجارة والبلطجية احتلت الكوبري لساعات طويلة ،أى نعم الناقلات غير مرابضة الآن،ربما تكون مختبئة ومتربصة بالأوبرا وحديقة الخالدين وربما معسكر الحرس الجُمْهُورِيّ،فهدوء هذه الأماكن يتيح لهم الاختفاء واختطاف المترجلين،ويترتب على ذلك حرماني من المشاركة ،فالموت أكثر فاعلية من الاعتقال ،فليكن خروجي من منفذ جاردن سيتي ، لتقطعْ شارع القصر العينى ،ثم تعبر الكوبري لتحطَّ  رحالَك في ميدان الجيزة ،المشوار طويل وحَظرُ التّجْوَال قائم ولكن لا مفرَ من التجربة لبعث الطـُمَأْنينة فى البيت،بلغ قلقي شأوًا عظيمًا ،ثلاثة من الشباب المنهك يرؤفون بحالى،يلتفون حولى،أقول لهم:

- لا تخافوا ،فلن يقطف الموت إلا من أزِفَ رحيلُه.  

يقول أحدهم مبتسمًا:

- الموت ،وأنت تطالب بحقك شهادة.   

يعقب الثانى:

- نحتمى بالناس.

يفور مِرْجَلُ الغضب،أتمالك؛ لأشرح:

- جميعنا نكره الظلم،وقد آن الأوان لموتَةٍ شريفة.

يرد الثالث على هاتفه المحمول:

- لا يا أمى.. مستحيل المغادرة..

يعلن بعد انتهاء المكالمة:

- أخيرًا عادت الحياة لهذا التليفون اللعين.

أركب شارع القصر العينى ،ثلاثتهم يحيطون بى،أدركت الآن أنهم لن يتركوننى إلا على الكوبرى، تنتشر المتاريس بطول الشارع،كل بِضْعَةِ أمتار هناك مجموعة من الشباب،يفتشون السيارات نادرة المرور،مئات المصابين الخارجين توًّا من مستشفى القصر العينى يسألون عن الطريق إلى الميدان ،دائرة الشباب المُشَيِّعَةُ لى تردد بنبرات صَلْدَة :

- الشعب قوى ولن يتراجع .

أصِل إلى مشارف الكوبرى ،يعود الشباب ،أَرْتَال الدبابات تنتشر،لا أحد يسألنى الهُوِيَّة، ،تتسارع الخُطَى،أمرُق أمام السفارة الإسرائيلية، بطول سور حديقة الأورمان أولاد صغار يُمسكون بأعلام ورايات ويتضاحكون ،لحظتها أمسى قرار عودتي للميدان فوريًا وباتًا ، دب فى أوصالي الحيوية ،فلْيتحملْ أولادى الشعورَ بالفَزَع ،ولا نجاةَ لى ولهم إلا بالاستمرار.

أشعة الشمس تتساقط عَمُودِيّة على رأسي ،كاد نافوخى  يشتعل ،الآن حان وقت التَّجَوّل ،أطوِى الصحيفة ،أدُسُّها فى جيب الجاكت ،أهتِف :

- الشعب يريد إسقاط النظا م .

 تمت بحمد الله

وسوم: العدد 683