الحُلم القديم ..

سكرة غامرة اعترتني ، عندما شاهدتها أول مرة ، كأنه الحُلم القديم الذي تراءي لي مذ كنت طفلا ، أذكر أني استيقظت قبيل الفجر منذ سنوات بعيدة مضين ، قصصت رؤياي علي جدتي ، رأيتني مع فتاة جميلة ، اقبلت نحوي تصافحني ، ما لفت انتباهي هو أنها كانت تتوسل لي دامعة العينين ، تدعوني لشئ لم أستطع فهم كنهه . حتما كانت تعاني من مشكلة ما .. ابتسمت جدتي وضمتني إلي صدرها ، دفنت وجهي في الشال الأسود العتيق الذي تلفه حول رأسها ، وقالت بنبرة يائسة : إذا عشت حتى يوم زفافك لن تتركني .. ستقيم معي هنا ! لم أفهم وقتها ما كانت ترمي إليه . رحلت جدتي بعدها ببضعة أسابيع ، افتقدتها . سألت عنها كثيرا ، قالوا لي أنها تشتري لي " حاجات " حلوة ، وسوف تعود ! وكنت أصدق ما يقولون !

في أواخر تسعينيات القرن العشرين كنتُ أول من اشتري الهاتف المحمول في قريتي ، ليس علي سبيل الترفيه ، إنما أصرت أمي علي أن يكون معي وسيلة تطمئن بها عليّ أثناء وجودي بالعريش ، كوني أدرس بكلية الزراعة التي تبعد عن قريتنا نحو سبع ساعات بالسيارة ، شغلت منصب رئيس اتحاد الطلاب طوال الأربع سنوات ، وهذا أعطاني خبرة كبيرة ، وجعلني صديقا لجميع الأساتذة ، في السنة الرابعة لي بالكلية ، ذهبت عقب بدء الدراسة بأسبوعين ،  انشغلت بتجربة قراءة كتب الصوفية ، و أذهلني أهل الجذب والصحو والكرامات ، شعرت بزهد شديد في الدنيا .. فلماذا الدراسة والتعب وفي النهاية سنموت ؟! أعجبتني فكرة المريد ومراحله فبالزهد والورع ينتقل إلي مرتبة الأبدال ثم إلي النجباء ثم إلي النقباء ، ثم إلي الأبرار ثم إلي الأوتاد .. ثم إلي الأقطاب ، فيصبح العارف بالله ، ويري ما لا نري !  سرعان ما ذهبت الصوفية من رأسي ، ودخلت فيما يُشبه الاكتئاب ، أحببت العزلة ، حتى زميلتي بالدراسة التي كنت أنوي الزواج منها لا أريد أن أعرف عنها شيئا .. في ذلك اليوم الأول من أكتوبر .. حزمت حقائبي ، وقصدت العريش ، دلفت إلي السيارة البيجو المتهالكة ، التى تثير امتعاضي ، فقد ارتبطت في ذهني بنقل جثث الموتي ، بجواري سائق تبدو عليه علامات الحماقة ، يدخن بشراهة ، أفتح زجاج النافذة التي بجواري ، لاستنشق بعض الهواء النقي ، فيحتج بزعم أن الهواء يؤذيه ! وأخبرني أن النافذة التي بجواره هي المصدر الرئيسي للهواء ! في تلك الأثناء كانت زميلتي ترسل لي علي الموبايل ما جري بالكلية ، وكيف أنها تشتاق لرؤيتي !

وصلنا الإسماعيلية ، رانت ظلمة رمادية شفيفة ، وتلبدت السماء بالغيوم ، وتلاشت الشمس خلف السحب الكثيفة ، توقف السائق ، للاستراحة ، ونزلنا .. شعرت بأن قدمي أصيبتا بالشلل بسبب الانحناءة داخل هذه السيارة اللعينة !  

اشتريت زجاجة مياه ، ووقفت بجوار السيارة حتى يفرغ السائق ونعاود الركوب ، من بعيد لمحتها تهرول نحوي ، من بريق عينيها استدعت ذاكرتي الحُلم القديم ، كانت كما في الحلم .. صوتها المتهدج يرجوني أن أساعدها .. قالت بحزن دفين : هل ستذهب إلي العريش ؟ أجبت : نعم .. أردفت : أستسمحك أن ترسل هذا الدواء إلي هذا العنوان  وهذا رقمي  كلمني عندما تسلمه . وأعطتني حقيبة بها العديد من الأدوية والحقن وبعض الفاكهة ، لاحظت استغرابي ، أطرقت للحظات ثم قالت وهي تغالب دموعها : أخي مريض بالسرطان ، وهذه أدوية كيمائية ، ولابد أن تذهب له ، وأنا خلال يومين سأكون عنده .

شعرتُ بانقباض شديد ، دهمني الموقف ، ذهول يلفني ، أهذا هو الحلم ؟! هي نفسها التي رأيتها منذ سنوات بعيدة في المنام .. وهي نفس النظرات .. رددت بأسلوب لبق : شفي الله أخاكِ .. سأذهب إليه ، واتصل بكم .. قالت عبارات كثيرة .. لم آبه بها .. كنتُ أُحدق في عينيها !  انصرفت هي ، بينما ركبتُ السيارة وأنا في غاية الدهشة ، انطلقنا حتى وصلنا إلي العريش .. السكون يعم المكان ، كأني وسط عالم من الأموات .. الشوارع مظلمة وكئيبة ، علي الفور يمّمت شطري  إلي العنوان ، جففت العرق البارد الذي كان يتصبب من وجهي ، وبيدي التي أصابتها رعشة أخذت أدق الباب ، استقبلتني فتاة صغيرة ، سألتها: أين والدك ؟  قالت : مات ! ظننت الفتاة تمزح .. خرجت والدتها المتشحة بالسواد  وأخذها النشيج ..وقالت بحشرجة  أن زوجها مات منذ دقائق !  لحظتها قلت أن هذا حلم وسأستيقظ منه ! ما هذه الغرائب التي تحدث لي في يوم واحد ؟! عدت إلي سكني .. ولا أدري ماذا أفعل .. وقلت بيني وبين نفسي لن أتصل بشقيقته إلا في الغد .. لا أجرؤ علي ابلاغها هكذا خبر .. اتصلت في اليوم التالي ، كانت تبكي بكاء مريرا .. دعوتُ له كثيرا بالرحمة .. وناشدتها الصبر ، فالصابرون يدخلون الجنة بغير حساب . وقبل أن أنهي المكالمة .. سألتها ماذا أفعل بالأدوية ؟ فردت بانزعاج وألم ووهن : هل هذا وقت مناسب لتحدثني فيه عن الأدوية ؟! اعتذرت منها .. وبعد أيام عاودت الاتصال .. لكنها لم ترد .. الفاكهة أُصيبت بالتلف .. وضعتها في صندوق القمامة ، وقصدت الصيدلية القابعة  في وسط المدينة .. طلبت من الصيدلي سعر الأدوية ، أذكر أنها تجاوزت الألف جنيه ، عرض عليّ شرائها .. رفضت بشدة لأني لا أملك حق التصرف فيها .. رجعت إلي السكن تدور في رأسي الأفكار استلقيت علي السرير مُثقلا بالهموم .. رحتُ في شئ يُشبه النوم ولكنه ليس النوم ! رأيت الفتاة تقف بجوار جدتي ، مالت نحوي وهي تبتسم وقالت لماذا لم تتصل ؟! عقدت الدهشة لساني .. لم أرد .. قمت من السرير مذعورا ، وطلبت رقمها ، جاءني صوت أجش غليظ : ماتت .. الله يرحمها !

( تمت )

وسوم: العدد 683