عَضَّةُ كَلْبْ، صناعة العقول وقيادة الجموع

هل  يوجد  منجم  ذهب  أفضل من جيوب البسطاء،

يستولي عليها لصوص أشقياء، بعصي الإعلام وحباله.

كان توماس يسير في طريق فرعي، في قرية ناتاسيهار، عندما لمح كلباً يتسلل بين الأشجار، ويغافل شخصاً يسير وحيداً شارداً، فينقض عليه، ويدمي وجهه بمخالبه، ويعقر ساقه، ويوقعه أرضاً.

كانت ردة فعل توماس سريعة وتلقائية، لم يفكر بمد يد العون للشخص المهاجَم، ولا بمحاولة إبعاد الكلب عنه، ولا حتى الصراخ وطلب النجدة، بل قام وبحركة بهلوانية بسحب هاتفه النقال، والتقاط عدة صور للحادث، جمعت إحداها وأهمها منظر الدماء تسيل على وجه الشخص وهو يبعد مخالب الكلب، وقد بلغ الرعب منه كل مبلغ، بينما كانت أنياب الكلب لا تزال  مغروزة في ساقه.

انطلق توماس سريعاً إلى مقهى يقدم خدمات الإتصال، وبعد جهود مضنية تمكن من إرسال ما التقطه من صور، مرفقة ببعض التعليقات المختصرة، إلى مؤسسته الإعلامية، والتي كان يعمل فيها حتى أيام قليلة خلت، قبل طرده منها، لفشله في مدها بأخبار وتقارير ذات قيمة صحفية.

لم يكن الذنب ذنبه، فناتاسيهار بلدة صغيرة هامشية، شبه معزولة عن العالم، لا تظهر على الخرائط، سكانها فقراء معدمون، بعيدون عن قضايا العالم وهمومه، ليس لبلدتهم أي تأثير في عالم السياسة أو الاقتصاد، ولا الثقافة والاجتماع.

ثم إن المبلغ الذي رصدته المؤسسة لتغطية نفقاته وحركته كان ضئيلاً للغاية، لا يكاد يفي بحاجاته الأولية، من طعام وثياب ومسكن وتنقلات، لكنه صبر على ذلك كله، لتعذر إيجاد عمل بديل، ورغم ذلك فقد صُدم بقرار المؤسسة المفاجيء بالإستغناء عن خدماته، ضغطاً للمصاريف وتوفيراً للنفقات.

كانت المحاولةَ الأخيرةَ اليائسةَ من توماس بعد أن أمضه الجوع، وهُدد بالطرد من غرفته المتواضعة المستأجرة، ليكون مصيره بعد يومين أو ثلاثة على عتبة الرصيف، كعشرات المشردين والفقراء في ناتاسيهار، دون أن يملك النزر اليسير من المال، يملأ به معدته، أو يعيده على ظهر مركب إلى موطنه.

كَلْبٌ يَعَضُّ شَخْصَاً، كانت الجملة الرئيسة التي أرفقها توماس مع صوره، وهو يتخيل ضحكات الإستهزاء والسخرية التي ستُقابل بها جهوده، ويُخمن كيف ستُرمى صوره مع النفايات، وقصاصات الورق والمقالات المهملة والمقطعة.

على الوجه الآخر من الأرض، حمل مسؤول التقارير الخارجية في المؤسسة الإعلامية الصور التي وصلته للتو، وانطلق بها إلى مكتب مدير التحرير، يملؤه الغضب والغيظ من سوء أداء توماس، ورداءة ما يرسله من أخبار وتقارير، فمن في العالم كله يكترث لكلب يعض شخصاً، ولا حتى لشخص يعض كلباً.

لكن مسؤول التقارير الخارجية أصيب بالذهول والدهشة، حين فوجيء برد مدير التحرير، ولمح اهتمامه المريب، بما حمله في جعبته من موضوع تافه وصور رديئة، واستمهاله بعض الوقت لإتخاذ القرار المناسب.

رفع مدير التحرير سماعة الهاتف واتصل بجهة إعلامية عليا ليضعها في صورة الخبر الجديد، والصور المرفقة معه، تنفيذاً للتوجيهات التي تلقاها منذ أيام، بإبلاغها بجميع المستجدات والأحداث مهما كانت تبدو تافهة أو غير ذات قيمة.

بدورها قامت الجهة الإعلامية العليا فوراً بالإتصال بمرؤوسيها في الإدارة العالمية للإعلام، والتي تملك مفاتيحه، وتتحكم في تفاصيله وتوجهاته، ولم يطل الإنتظار حتى جاء الرد سريعاً، فبُلِّغَ به مدير التحرير على عجل.

في اليوم التالي تصدَّرت الصورة صفحات الجرائد حول العالم، واحتلت المكان الأبرز في نشرات الأخبار، في الأقنية المحلية والعالمية، المسموعة منها والمرئية، ولفَّت عبارة توماس (كَلْبٌ يَعَضُّ شَخْصَاً) مشارق الأرض ومغاربها، ودارت مع دوران الشمس، ونُطقت بجميع اللغات الحية، بما في ذلك لغة الصم والبكم.

أكدت الصحف اليابانية كلها أن كلباً، يُعتقد أنه من أصول كورية شمالية، اعتدى بأنيابه الحادة، على شخص يُعتقد أنه من أصول يابانية، بتحريض من أسياده في بيونغ يانغ، وأن هذا الفعل يندرج تحت محاولات كوريا الشمالية المتكررة، تعكير الأمن والسلام في دول شرق آسيا والمحيط الهاديء.

من جهتها قالت الصحف الصينية، إن كلباً رأسمالياً حاقداً على منجزات الطبقة العاملة، وبتحريض من عصابة الأربعة وفلولها، هاجم أحد أعضاء البروليتاريا، واستخدم أنيابه الإمبريالية الحادة، لتمزيق النسيج الثوري الصيني، وفرض الهيمنة الإستعمارية عليه، مما يؤكد على ضرورة تلاحم قوى الشعب العامل، للوقوف بقوة في وجه التهديدات المناهضة لآمال الشعب الصيني، وطموحاته في التقدم والإزدهار.

الصحف الإيرانية خصصت صفحاتها الأولى كاملة، للحديث عن الكلب الوفي لآل البيت (سلام الله عليهم)، والذي اشتعلت في صدره نيران الرفض، والثورة على أفعال بني أمية الفاجرة، وسلالتهم الغادرة، المحاربة لأبي عبد الله الحسين (سلام الله عليه)، ولشيعة آل البيت، واستفزه رؤية شخص، من سلالة المجرم يزيد، يتجول بصلافة ووقاحة، متحدياً الآيات والأئمة، وكلابهم الوفية، متفاخراً بمحاولاته سبيَ زينب مرتين.

فما كان من ذلك الكلب الوفي لآل البيت (سلام الله عليه)، إلا أن خاطر وغامر بحياته، فداء للحسين وزينب، وغرز أسنانه الطاهرة في لحم حفيد يزيد المجرم، ليكون هذا العمل المقاوم العظيم، مقدمة لإندحار بني أمية، وظهور مهدي آل البيت، وخروجه من السرداب، عجل الله فرجه الشريف.

أما في العالم العربي فقد انقسمت آراء الصحف ووسائل الإعلام، وتنوعت تعليقاتها، واختلفت رؤيتها للحدث ومواقفها منه، بحسب انتماءاتها وتوجهاتها، لكن تعابيرها كلها صيغت بلغة شاعرية، تخاطب العواطف وتستجيش المشاعر، متجنبة الخوض في التحليلات العلمية والمنطقية، والحديث عن الدوافع والنتائج.

فبينما أكدت الرسمية منها على الموقف الثابت والمبدئي من الإرهاب، ومحاربته بكافة صوره وأشكاله، وكبح جماحه، واستئصال شأفته، وتجفيف منابعه، ووقوف دول المنطقة شعوباً وحكاماً، صفاً واحداً مع العالم الحر، في معركته ضد الإرهاب، في أي صورة جاء، سواء من بني البشر، أو من نسل الكلاب.

ركزت وسائل الإعلام الثورية من جانبها على ضرورة محاربة الرجعية، بكافة أشكالها وصورها، والقضاء على التخلف، ودعم التلاحم العضوي، وتنمية الإفرازات الثورية، وذلك كله في وجه الهجمة الرأسمالية الغير مسبوقة، المتحالفة مع الدين (والدين منها براء).

ونبهت إلى أن وحدة المصير التي تجمع الكلاب والبشر، هي حجر الأساس في مسيرة التقدم، لتحقيق آمال جميع الشعوب، وتطلعاتها الثورية نحو الحرية والإشتراكية، لذا كان ديدن الإستعمار وأعوانه إذكاء نار العداوة، وإشعال الصراعات الطائفية والعرقية بين مكونات الأمة لتوهينها، وفك عرى لحمتها الوطنية.

المصادر الإسلامية بدورها قالت عبر وسائلها المختلفة : أن كلباً صليبياً عقوراً هاجم أحد المجاهدين الذي كان في طريقه لتنفيذ عملية انغماسية، تضرب الكفر في معقله، وتحرق فسطاطه، وتطمس معالمه، وتذيقه النكال والهزيمة في الدنيا قبل الآخرة.

وزفت إلى الأمة بشرى نيل المجاهد شرف الإصابة في أرض الجهاد، مؤكدة أن المواجهة مع جيوش الكفر لن توقفها عضة كلب صليبي، ولا أنيابه ومخالبه، فالكلاب تعوي على الدوام وقافلة الجهاد تسير، كلما سقط مجاهد قام بعده آخر ليكمل الطريق، حتى يتم القضاء على الصليبيين وكلابهم، وخلع أنيابهم ومخالبهم، واستعادة الخلافة الراشدة.

أما وسائل الإعلام الغربية بمختلف ألسنتها وألوانها، فقد أبرزت النجاح العظيم، الذي حققه كلب أمني مدرب، في محاربة الإرهاب الإسلامي (الذي ليس له علاقة بالإسلام)، حيث تمكن من الإيقاع بأحد عناصر الإرهاب الإسلامي (الذي ليس له علاقة بالإسلام)، فهشم وجهه وأتلف ساقه، مما سيكون له بالغ الأثر في إفشال مؤامرات الإرهابيين الإسلاميين (الذين ليس لهم علاقة بالإسلام)، وإحباط خططهم المستقبلية.

لافتة الإنتباه إلى ضرورة التركيز على دور كلاب الأمن في المحافظة على قيم الديمقراطية والحرية، والقضاء على هؤلاء الإرهابيين الإسلاميين (الذين ليس لهم علاقة بالإسلام) في معاقلهم، وقبل انطلاقهم نحو أهدافهم.

ونتيجة للتغطية الإعلامية الهائلة والشاملة لقضية (كَلْبٌ يَعَضُّ شَخْصَاً)، تتابعت تصريحات المسؤولين في العديد من دول العالم، معقبة على الحدث الجلل، مبدية وجهات نظرها فيما يجب اتخاذه من إجراءات وتدابير، ومواقف سياسية وأمنية.

فبينما طالب مسؤول ياباني ببناء حلف أمني يضع حداً للإستفزازات الكورية الشمالية، ويقف في وجه أطماعها في السيطرة على مياه المحيط الهاديء، ويحاصر كلابها التي تهدد مصالح الشعوب في المنطقة، ويهدد تعايشها السلمي.

مؤكداً على ضرورة التأكد من أن كلاب بيونغ يانغ الشاردة، لا تحمل إشعاعات نووية، أو أجهزة تجسس، وحمَّل المسؤول الياباني المجتمع الدولي برمته، مسؤولية تقديم الحماية والعون للمواطنين اليابانيين أو ذوي الخلفية اليابانية، وحمايتهم من أنياب الكلاب الكورية الآثمة.

قال مسؤول صيني رفيع، إن بلاده لن تتوانى في الحفاظ الجاد على النهج الشيوعي (بنكهة رأسمالية)، مهما تعرضت لهجمات الكلاب الإمبريالية، وأن النمو المتزايد والقائم على أسس راسخة مبنية على الشيوعية الصينية (بنكهة رأسمالية)، شكل استفزازاً واضحاً لكلاب الإمبريالية، مما جعلها تحاول النيل من مكتسبات الطبقة العاملة الصينية والشعب الصيني العظيم، وحذر المسؤول الصيني بأن بلاده ستتصدى بكل قوة وحزم لكل إعتداءات الكلاب عليها، وستقتلع أنيابها ومخالبها من جذورها.

أما مسؤول الشؤون الدولية الإيراني فقد قال في تصريح شبه رسمي، أن بلاده تنظر بقلق بالغ إلى المحاولات المستمرة التي يقوم بها التكفيريون من أتباع يزيد وسلالته الآثمة، للنيل من محور المقاومة والممانعة، بقيادة إيران وآل البيت، ومحاولاتهم المستمرة لفرض السيطرة الأموية الغاشمة، وفرض هيمنتهم على الشعوب المستضعفة، وسعيهم الحثيث للتحالف مع الشيطان الأكبر.

وحذر المجتمع الدولي بأن إيران اليوم ليست كإيران الأمس، وأنها لن تسمح أبداً بأن تسبى زينب مرتين، وأنها ستقوم بواجبها في الدفاع عن مرجعياتها وآياتها وأتباعها، من كافة الأجناس والفصائل والأعراق، وستلقن أحفاد يزيد وأعوانهم أعنف الدروس وأقساها.

أما المسؤولون في العالم العربي، فقد اختلفت مواقفهم، وتباينت آراؤهم، وتراوحت كلماتهم و تصريحاتهم، معبرة عن مناصبهم الرسمية، وخلفياتهم الحزبية، ومهامهم السرية.

فالناطق باسم الشلة العربية، أعلن أن جميع أعضائها، يقفون صفاً واحداً في وجه الإرهاب، ويؤيدون بصوت واحد جميع الإجراءات المتخذة ضده، ويسدُّون بإصبع واحد منبعه، والثقب الذي يتسلل منه.

بينما أكد المتحدث باسم القوى اليسارية، على ضرورة عقد مؤتمر ليلي عاجل، يجمع أطياف القوى الوطنية، على اختلاف مشاربها، في أحد النوادي التقدمية، للتأكيد على اللحمة الوطنية، والإطمئنان على الإفرازات الثورية.

وعلى النقيض من ذلك، تبنت جماعة أبو ضرغام الجهادية، في شريط مسجل (أكدت صحته فيما بعد وكالة م ن واي للأمن القومي لدولة عظمى)، قيام أحد عناصرها بعملية انغماسية، لولا انكشافه في اللحظات الأخيرة، وتعرضه لهجوم من قبل أحد كلاب الكفار، وتوعدت باستمرار تدفق المجاهدين، حتى القضاء على آخر كافر أو مرتد، والسيطرة التامة على فسطاط الكفر، وطمس رسومه الصليبية، ورفع راية الخلافة عليه.

الناطق الإعلامي للاتحاد الغربي، قال بدوره إن المجموعة التي يمثلها تثمن غالياً الدور المحوري، والشديد الأهمية، الذي تقوم به الكلاب الأمنية المختلفة، في القضاء على الإرهاب الإسلامي (الذي ليس له علاقة بالإسلام).

وأعلن أن المؤسسات المعنية تدرس حالياً مشروع قانون يزيد من الميزات التي يتمتع بها كلاب الأمن، لتشمل التعليم الكامل المجاني، والرعاية الصحية، والتأمين ضد الحوادث، وزيادة المكافآت المقدمة للعمليات الناجحة، من قطعة واحدة من العظم الطازج إلى قطعتين، متعهداً باستمرار تقديم كل أنواع الدعم للأمن وكلابه، حتى استسلام آخر إرهابي مسلم (ليس له علاقة بالإسلام).

في المساء أصدر المسؤول الأممي بياناً حازماً دان فيه بشدة التعرض للأمن والسلم الدوليين، من أي جهة كانت كلاباً أو أشخاصاً، وعبر عن قلقه البالغ والشديد، جراء الأحداث والتطورات الأخيرة، مطالباً جميع الأطراف (كلاباً وأشخاصاً) الإلتزام بسياسة ضبط النفس واستخدام معايير الشرعية الدولية، في التعامل مع الأحداث المماثلة.

اتصلت المؤسسة الإعلامية بتوماس على عجل وأمرته بانتظار سائق سيأتي لاصطحابه مباشرة إلى أقرب مطار محلي، وأن الأوامر هي التحرك العاجل والفوري بمفرده، دون اصطحاب أي أمتعة أو أغراض شخصية، فما عليه سوى الاهتمام بالأوراق والمستندات المتعلقة بالقضية فحسب، فكل ثانية تمضي ثمنها باهظ التكلفة، وكل تردد يمكن أن يترتب عليه مخاطر لا حصر لها.

لم يستوعب توماس الأمر، وسِرَّ هذه اللهفة المفاجئة، وهو المطرود من العمل منذ أيام قليلة، لكنه لم يمتلك الوقت الكافي للتفكير واستيعاب الأحداث، فسرعان ما وصل السائق بسيارته القديمة، التي خاضت على ما يبدو الحرب العالمية، وخرجت منها سالمة.

انطلق السائق بالسرعة التي يسمح بها محرك سيارته العتيقة، في الطريق غير الممهدة، صوب المطار المحلي، والذي يبعد عن موقعهما قرابة الثلاث ساعات كاملة، كان عليه بعدها أن يركب الطائرة الصغيرة التي أرسلت خصيصاً، لتنقله بدورها خلال ساعتين أخريين إلى مطار العاصمة، حيث سيتابع رحلته من هناك في طريقه إلى مؤسسته.

حين نزل توماس من الطائرة الصغيرة في مطار العاصمة، أحاطت به على الفور ثلة من الرجال الأشداء، طالبين منه الصمت التام، وعدم الكلام، واقتادوه محاطاً من كل صوب، متخطين الإجراءات الروتينية، صاعدين به مباشرة إلى طائرة كبيرة، أجلسوه في مقعد أمامي في الدرجة الأولى، بينما توزعوا في المقاعد المحيطة حوله.

حاول توماس مراراً التحدث مع مرافقيه، إلا أنهم أمروه بلهجة حازمة بالتزام الصمت التام، والتقيد بتعليماتهم وأوامرهم دون اعتراض، وأبلغوه أنه من غير المصرح لهم تبادل أي حديث معه، أو حتى الإستماع والإنصات إليه، وكل ما عليه وعليهم فعله، هو تنفيذ الأوامر الصارمة دون تلكأ أو تأخير.

استلقى توماس في مقعده الوثير، وقد أنهكه التعب والجوع والخوف من المجهول، وراح يقلب فكره فيما حصل وما هو قادم، ترى هل أرسلت مؤسسته الصحفية فريقاً لإعتقاله، ولِمَ يتكلفون المبالغ الباهظة من أجله، فما قيمته شخصياً، وما قيمة عمله، ترى هل اختير لأداء مهمة تعيسة كسابقتها فأحضر بهذه الطريقة، أم هو مختطف من قبل عصابة أخطأت في صفات غريمها، فوقع ضحية للخطأ غير المقصود.

حين تحركت عجلات الطائرة على أرض المطار اقترب منه شخصان، رجل وامرأة، فألقيا التحية، وجلسا عن يمينه ويساره في المقعدين الخاليين، قدم الرجل نفسه لتوماس على أنه مسؤول السياسة الإعلامية العالمية العليا، بينما عرفت المرأة نفسها على أنها مسؤولة الأمن الإعلامي العالمي، وحين أراد توماس أن يقدم نفسه لهما، أخبراه بمعرفتهما كل شاردة وواردة عنه، منذ خروجه من بطن أمه، إلى لحظتهما هذه.

أُعلم توماس أنه سيتلقى دورة مكثفة في الأساليب الإعلامية، ومخاطبة الجماهير، والتحاور مع السياسيين والمختصين، وأن الرحلة ستستغرق اثنتا عشرة ساعة متواصلة، ستُقَسَّم إلى فترات كلٌ منها ساعتين، ساعة لتلقي المعلومات، وأخرى للحوار والتدريب العملي، يُقتطع منهما عشر دقائق لقضاء الحاجة وتناول لقيمات من الطعام، وعليه أن يستجمع كل طاقته وقدراته، فليس هناك وقت للهدر أو اللهو.

وحين حاول توماس شرح حالته المزرية، فهو منهك مجهد، ثيابه متسخة بالية، لم يستحم منذ أيام، وبطنه خاو إلا من فتات الطعام، أخبره الشخصان أن مظهره وحاله مناسب جداً، بل هو جزء من الخطة الموضوعة، وهي الصورة المثلى التي يجب أن يراه الناس عليها، حين تلمحه أبصارهم للمرة الأولى.

حطت الطائرة أخيراً على الأرض، وأُنزل ركابها من الأبواب الخلفية، وبعد فترة فتح الباب الأمامي، ليظهر من خلاله توماس، متفاجئاً بالجموع التي وقفت أسفل السلم في انتظاره، مذهولاً لرؤية عشرات الكاميرات التي صوبت نحوه، ورجال الأمن الذين أخذوا مواقعهم حول الجموع.

ما إن وطئت قدما توماس الأرض حتى انهالت عليه عشرات الأسئلة من كل حدب وصوب :

-         سيد توماس : هل كنتَ شاهداً مباشراً على الحادثة أم نقلت إليك عبر وسطاء.

-         بالطبع كنتُ في موقع الحدث الأليم وعاينته بنفسي وكنت شاهداً عليه.

-         هل كانت عضة الكلب حقيقية أم نوعٌ من الملاعبة والتدريب.

-         كانت حقيقية .. وحقيقية جداً .. لم يكن هناك أي شبهة تمثيل أو تدريب.

-         ماهي الدوافع والمبررات التي تقف وراء حادثة من هذا النوع.

-         سيدي، هذا تحليل، وأنا كإعلامي، مهمتي تنحصر في نقل الحدث بأمانة، دون إعطاء وصف شخصي له.

-         هل يعني هذا أنه كان حدثاً عرضياً دون نوايا مسبقة.

-         بالتأكيد لم يكن حدثاً عرضياً، وإلا .. لِمَ عضَّ هذا الكلب، هذا الشخص، في هذه اللحظة بالتحديد، لا شك أن هناك دواعيَ وأسباباً تقف خلف ذلك.

-         هل قام الشخص المعضوض بأي استفزاز من أي نوع، دفع الكلب لمهاجمته وعضه، وكان سبباً مباشراً في وقوع الحادث.

-         ما أستطيع قوله أن تصرفات الشخص المعضوض لم تكن بريئة ولا مفهومة، وهذا يطرح عشرات أسئلة الإستفهام حول دوره المفترض في وقوع حادثة العض.

-         هل يعني ذلك بشكل آخر أن الكلب العاض كان ضحية لتصرفات الشخص المعضوض.

-         لايمكن نسيان النظرات الحانقة للكلب حين أقدم على عضته، فهي لم تكن وليدة لحظتها بكل تأكيد.

-         ماهي المخاطر التي تعرضتم لها في مهمتكم لتوثيق الحادث.

-         طبيعة عملي تتطلب المخاطرة، وخصوصاً في أماكن النزاع، وخلال الصراعات المختلفة، ومن الممكن جداً أن يتعرض الإعلامي نفسه للعض، أو لرد فعل قاس من الشخص المعضوض، قد يصل في بعض الأحيان لفقدان الحياة، لكنها ضريبة الإعلام الحر، وإيصال الحقيقة إلى الناس.

-         تصفيق حاد من الحضور.

لم يكن سيل الأسئلة لينقطع، لولا تدخل المسؤولين ورجال الأمن، الذين طلبوا من الحضور المغادرة، وإعطاء توماس فرصة لأخذ قسط من الراحة، بعد الجهد المضني الذي بذله خلال الأيام القليلة الماضية، واعدين الحضور بعقد مؤتمر صحفي موسع، في قاعة الفندق الفخم، الذي سيحل توماس ضيفاً فيه خلال الأيام القادمة.

في الأسابيع التالية عقدت عشرات المؤتمرات والندوات، وألقيت المحاضرات، وأقيمت المناظرات، حول قضية الكلب، والشخص، والعضة، وتراوحت وجهات النظر، بين اعتبار الكلب بطلاً عالمياً، ونموذجاً للتضحية والإقدام، لتحقيق الأمن والأمان، إلى اعتباره كلباً عقوراً أثيماً مجرماً، وجب قتله وحماية منجزات الإنسانية من أنيابه، كما اختلفت وجهات النظر أيضاً في اعتبار الشخص المعضوض، ضحية بريئة لعدوان الكلاب الشاردة، أو تصنيفه كمجرم عتي لاقى جزاء بغيه وإفساده.

كان على توماس حضور جميع الندوات، والمؤتمرات، واللقاءات، التي تدور حول عضة الكلب، وأن يجيب على التساؤلات، ويرد على الإستفسارات، ويفند وجهات النظر، دون أن يُغضِبَ أي طرف من الأطراف، فقد كان عليه على الدوام اختيار عباراته ببراعة، لتعطي المعنى والمعنى النقيض، وأن يرضي مستمعيه بكافة أطيافهم وتوجهاتهم.

فإذا كان الحضور من اليابان، استغرق في الحديث عن شعب الشمس والآلهة، وحضارة الساموراي، وعظمة الشعب الياباني وإمبراطوريته، وعن خطر الطموحات النووية الكورية الشمالية، وورود تقارير إعلامية شبه مؤكدة، عن تطوير بيونغ يانغ لكلاب نووية مدربة، تصيب المعضوضين من اليابانيين على وجه الخصوص، بإشعاعات قاتلة، مماثلة لما عاشوه في مأساة هيروشيما وناغازاكي.

أما إذا كان المستمعون ذوي ميول فارسية، فكان يتطرق إلى مظلومية آل البيت، وحقهم الشرعي في معاقبة يزيد ومن ينتسب إليه، فلا يمكن للبشرية في عصور التقدم والحرية، والعدالة والشرعية الدولية، أن تسمح بأن تسبى زينب مرتين، لذا فإن جميع الرافضين لظلم بني أمية، كلاباً كانوا أو أشخاصاً، يطالبون بالثأر لأبي عبد الله الحسين (سلام الله عليه)، ومعاقبة أحفاد قتلته.

أما إن كان الحضور من المسلمين، فالمهمة أسهل بكثير، فغالبيتهم من البسطاء، سليمي النية، يصدقون جُلَّ ما يسمعون، فكان حديث الشيخ توماس في هذه الحال، يدور حول الصراع وأسبابه ودواعيه، فعضة الكلب ماهي إلا مظهر من مظاهر فقدان الديمقراطية، وعدم احترام حقوق الإنسان والحيوان، وغياب التداول السلمي للسلطة، وذلك كله مدعاة لمحاولة كل طرف شخصاً كان أوكلباً، أخذ حقه بأنيابه ومخالبه.

ولو طُبقت الديمقراطية الغربية والتي هي شورى الإسلام بعينها، والتُزمَ بالبيان الأممي لحقوق الإنسان والذي هو روح الإسلام، وأُقرَّ التداول السلمي للسلطة الذي هو أهم مقاصد الدين الحنيف، لو طُبق ذلك كله لفاز المسلمون بخيري الدنيا والآخرة، ولرضي عنهم الله، ونالوا حب الغرب والشيطان، على حد سواء.

فما دام الجميع، كلاباً وأشخاصاً، سواسية كأسنان المشط، يحيون جميعاً في جنة الديمقراطية، منغمسون في نعيم الحقوق، يتذوقون متعة التداول، فلن يعضَّ كلبٌ شخصاً، ولن يخاف شخصٌ أبداً من عضة كلب.

أما إذا جرى اللقاء أمام جمهور غربي، فالكلام يدور حينئذ، عن الكراهية المتجذرة وغير المبررة في قلوب الإرهابيين المسلمين (الذين لاعلاقة لهم بالإسلام)، تجاه الغرب ومنجزاته الحضارية، وتقدمه العلمي، ونظمه المستقرة.

فالإرهاب الإسلامي (الذي لاعلاقة له بالإسلام)، لايرى مستقبلاً له ولا أملاً ببقائه، إلا بتدمير المنجزات الإنسانية الحضارية، التي يقودها ويحافظ عليها الغرب، والعودة إلى النظم الإسلامية المتخلفة البائدة (التي لاعلاقة لها بالإسلام)، من استعباد المرأة، ونشر الخرافة والجهل، وثقافة القتل.

فلا حوار مع الإرهاب، ولا تفاوض مع الإسلام (الذي ليس له علاقة بالإسلام)، فجميع طرق الحوار مغلقة، مسدودة، غير سالكة، والكلاب الأمنية هي وحدها المهيئة والقادرة على كبح جماح الإرهاب، والقضاء على أعوانه.

نُشرت خلال السنين الأولى التي تلت الحادث، مجموعة كبيرة من الكتب، للعديد من المؤلفين والباحثين، صدَّرها توماس بتقديمه وتوقيعه، و ترجمت إلى اللغات العالمية، وبيعت منها ملايين النسخ، تُشبع العضة بحثاً وتحليلاً، وتتطرق إلى وجهات النظر المختلفة حولها، وآثارها ونتائجها المرتقبة، على النظام العالمي، والسلم والأمن الدوليين، والعلاقات بين الشعوب والحضارات، وطوائف الكلاب والبشر.

فمنها ما اعتبر العضة نتيجة حتمية للصراع الأبدي، بين طبقة الكلاب وطبقة البشر، والذي سيقود بكل تأكيد إلى سيادة الكادحين من كلا الطرفين، واستلام البروليتاريا مقاليد الأمور على وجه البسيطة.

فالعضة ما هي إلا تعبير مباشر عن الديالكتيك التاريخي، والصراع الطبقي، الناجم عن استئثار الأشخاص بوسائل الإنتاج، وحرمان الكلاب منها، ليتحولوا عبر التاريخ إلى عبيد عند الطبقة الرأسمالية المستغلة، إلى أن تأتي اللحظة التاريخية، التي ينتزع الكلاب فيها وسائل الإنتاج من الأشخاص، ويقبل عقلاء الأشخاص بذلك، فتسود العدالة الشيوعية العالم، وينتهي الصراع.

ومنها ما اعتبر العضة عقاباً إلهياً، وعذاباً صب على الفريقين معاً، كلاباً وأشخاصاً، لخروجهم على تعاليم السماء، وتمردهم على ما خُط في الأقدار، فلكل مكانه ودوره في الحياة، خلق لأجله، وعليه أن يرضى بقدره.

لكن الأشخاص يستغلون الكلاب، ويستخدمونهم في اللهو والتسلية، ويستعبدونهم بعد أن كانوا أحراراً طلقاء، والكلاب طامعةٌ بما في يد الأشخاص من نعم وملذات، ولحوم وعظام، لا ينوبهم منها إلا النزر اليسير، وفتات موائد البشر.

فجاءت العضة إنذاراً وعقاباً للطرفين، في الحياة قبل الممات، على انغماسهم في ملذات الدنيا، وافتتانهم بها، وتنافسهم عليها، ومقدمة لما سينالهم من أنياب ومخالب، وعذاب أليم في الآخرة.

ومنها ما اعتبر العضة نتيجة طبيعية لإطلاق الحريات، ومنحها لغير مستحقيها، وغير المؤهلين لنعيمها بعد، سواء من الكلاب أو الأشخاص، فالحرية ثقافة وتدريب، وممارسة مستمرة، تتراكم خبراتها عبر السنين الطوال، وليست حلية أو زينة، أو منحة تعطى بقرار.

فلو سلسلت الكلاب من أعناقها، وقيدت أقدام الأشخاص وأفواههم، وألغيت حرية الكلام والعواء، والحركة والقفز والتنقل، لما عضَّ كلبٌ شخصاً، أو استفزَّ شخصٌ كلباً، ولنَعِمَ الفريقان، كلاباً وأشخاصاً، بحياة آمنة وادعة، لاتشوبها مخاطر العض والعدوان.

ومنها ما اعتبر العضة جزءاً من مؤامرة كبرى، تسير بخطوات متتابعة، منذ فجر التاريخ، وبدء الحياة، أشرف عليها دهاة محنكون، يقبعون في أقبية مظلمة، يرسمون فيها خُطى الحياة والأحياء، خطوة خطوة، لا يملك أحد لها دفعاً، ولا تغييراً ولا تبديلاً، فالعضة ماهي إلا حلقة من سلسلة طويلة مترابطة، ليست منفصلة عما سبقها من عضات، بل هي تمهيد لما سيعقبها من أحداث جسيمة.

مرت عشر سنوات على عضة الكلب، حين أصدر أحد الباحثين دراسة مقتضبة، يشكك فيها بصحة العضة من الأساس، مشيراً إلى الثغرات التي تمتلأ بها القصة، والغموض والتشويش الذي يحيط بالصور الملتقطة، والتناقض في الروايات المختلفة عنها، إضافة إلى فيض من الشبهات، حول الملابسات والظروف المحيطة بالقضية.

على إثر ذلك شكل أحد مراكز الأبحاث لجنة إستقصائية، وأبقى أمرها قيد الكتمان، وأوكل إليها التحقيق في الموضوع، لإزاحة الستار عن غموض العضة وأسرارها، وكشف خفاياها وملابساتها، وزودت اللجنة بالتمويل والصلاحيات، التي تمكنها من تخطي العقبات، للوصول إلى الحقيقة المرجوة، دون تحريف أو تبديل.

استغرق عمل اللجنة خمس سنوات كاملة، تنقل أفرادها خلال ذلك في العديد من الدول، وقابلوا جمعاً كبيراً من الشخصيات، وفحصوا مئات الوثائق والمستندات، وزاروا فيما زاروه منطقة الحدث، وقابلوا أشخاصاً يعيشون هناك، وكلاباً تتجول في المكان، وزودتهم عدة مخابر ضوئية بآخر ما توصل إليه العلم من تحليلات، لتُصدر بعدها تقريرها الختامي، الذي بلغ حجمه عدة آلاف من الصفحات، مزودة بالخرائط والوثائق وشهادات الشهود.

لكن قراراً مفاجئاً صدر من جهة سيادية، ألزم مركز الأبحاث، بإبقاء التقرير طي الكتمان، وعدم نشر نتائجه ومحتواه، وإخفائه عن أعين الفضوليين والصحفيين، تحت طائلة المساءلة والعقاب، تفادياً للعواقب الخطيرة، التي يمكن أن يتسبب بها الكشف عما ورد فيه من معلومات.

إلا أنه وبعد مرور عشرين سنة على العضة، وتغير ملامح السياسة العالمية، ومحاور اهتمامها، أفرج عن التقرير وتم نشره للجمهور، وظهرت العديد من الحقائق التي كانت خافية عن عيون المراقبين والمتابعين، من سياسيين ودارسين وجماهير.

تحدث التقرير عن زيف الصورة، وأنها مجمعة من ثلاث صور مختلفة، صورة للمكان وحده خالٍ من الكلاب والأشخاص، وصورة التقطت في موقع آخر مختلف، لشخص يبدو أنه كان في شجار لا علاقة له بالكلاب، وصورة من موقع ثالث مغاير للموقعين السابقين، لكلب يبدو وكأنه يطارد هراً أو يلاعبه.

وأوضح التقرير أن زوايا الصور الثلاث مختلفة غير متطابقة، كما أن درجة الإضاءة فيها متفاوته، وعملية الجمع والدمج تمت باستخدام برنامج قديم ضعيف، لا يمكن باستخدامه إخفاء معالم التزوير، فلم تتجه نظرات الكلب أبداً نحو الشخص، كما لم يكن الشخص المعضوض ينظر أبداً إلى الكلب، ولم تتوافق مواقع المخالب والأنياب مع مواضع الجروح.

 لكن الأنكى من ذلك كله، أنه اتضح بالبحث والتقصي، أنْ لا وجود مطلقاً لبلدة تدعى ناتاسيهار وقت حدوث العض، وأن المنطقة التي حددت كمكان للحدث، لم تكن موجودة على الخريطة ولا في الواقع آنذاك.

لكن وبعد أسابيع قليلة من الحادث، وبتدخل من جهات عليا لدى مؤسسة الخرائط العالمية، تمت إضافة ناتاسيهار على الخرائط الدولية، وبعد ذلك بشهور عدة، قامت إحدى الشركات بإنشاء مخازن لها هناك، واستخدمت فيها مجموعة من العمال، أقامت لهم منازل وأكواخ، لتصبح المنطقة قرية عمالية متواضعة.

وأوضح التقرير أن الحادثة برمتها مفبركة، من ألفها إلى يائها، فلا وجود للكلب، ولا للشخص، ولا للعضة، ولا حتى للقرية والموقع، وأن عملية الفبركة هذه تمت عن عمد، وشارك فيها العديد من الجهات والأشخاص، بدءاً من توماس نفسه، وانتهاء بجهات عليا عديدة، في دول متفرقة.

بعد أيام من صدور التقرير ونشره على الملأ، قدمت المؤسسة الإعلامية اعتذاراً علنياً، وعبرت عن أسفها العميق للجمهور، موضحة أنها كانت على علم بالتزوير والتزييف في جميع وثائق العضة، منذ اللحظة الأولى، لكنها امتثلت للأوامر الصارمة، الصادرة من الجهات السيادية العالمية، رغم شعورها بمدى إخلالها الجسيم بمعايير مهنة الإعلام ومصداقيته، والتزامه بنقل الحقائق دون تلاعب أو تحريف، طالبة من جمهورها الصفح، واعدة بالتمسك بأخلاق المهنة وضوابطها من جديد.

وتتالت عقب ذلك تصريحات السياسيين المتقاعدين، عن مرحلة العضة، ودورهم فيها، وحدود مسؤولياتهم الأدبية والقانونية، مقدمين التبريرات تلو التبريرات، بأنهم كانوا مجرد ضحايا للمعلومات الخاطئة التي قدمت إليهم، وأن قراراتهم في تلك المرحلة، إنما بنيت على حرصهم الكامل على مستقبل الإنسانية، وقيمها الحضارية والأخلاقية.

خمس وعشرون سنة انقضت على العضة المزعومة، حين أفرجت الدولة  العظمى عن الوثائق السرية المتعلقة بها، لإنقضاء المدة القانونية لبقائها قيد الكتمان، وكشفت الوثائق عن مراسلات ومداولات بين جهات عالمية ومحلية، مالية وإقتصادية وعسكرية وأمنية وإعلامية، تتناقش فيما يجب اتخاذه من إجراءات، وتبنِّيه من مواقف وأعمال، وكيفية استثمار العضة وتوابعها.

كان النقاش يدور في البداية، حول الإستيلاء على مناجم الذهب المكتشفة حديثاً، وما يمكن أن يثيره ذلك من صراعات وصدامات غير مأمونة العواقب، واحتمال أن تلجأ بعض الجهات لتوظيف الأمر واستثارة المشاعر القومية أو الدينية أو العرقية، مما يؤدي إلى ردود فعل شعبية غير مسيطر عليها.

وبينت وثائق أخرى أن خبراء الدولة العظمى، كانوا على علم منذ اللحظات الأولى بتزوير الصورة وتزييفها، إلا أنهم قرروا الإستمرار في اللعبة، بل رفدها بمعطيات ترفع من مصداقيتها أمام الجمهور، كي تبدو أقرب للتصديق، وإشغال الجميع، من مثقفين، وصناع القرار، وقيادات المجتمع، إضافة للجموع والشعوب، بالشخص والكلب والعضة، واستنزاف جهودهم، وشغل أوقاتهم، وتحويل اهتمامهم عن المناجم والذهب، إلى قضية ثانوية قابلة للسيطرة والتحكم، عبر إلهائهم بـ عضة كلب.

إلا أنه ومع مرور الأيام قررت جميع الجهات السيادية العالمية ذات العلاقة، تبني القضية بالكامل، حيث تحولت عضة الكلب نفسها إلى منجم للمال لاينفد، وتجاوزت إيرادات التغطية للحدث في أسابيع معدودة، ما يدره منجم الذهب في أعوام كثيرة، وهل يوجد منجم ذهب أفضل من جيوب البسطاء، يستولي عليها لصوص أشقياء، بعصي الإعلام وحباله.

خرج السير توماس الذي أُنعم عليه بلقب (سير) لخدماته وتضحياته في خدمة البشرية، وقد قارب السبعين من العمر ليروي لملايين الناس، كيف أنه قبل ست وعشرين سنة، حين كان مشرداً لا يملك شروى نقير، ولا يوجد في جيبه ثمن لقمة يُسكت بها جوعه، وثياب يستر بها جسده، وأجرة سقف يختبيء تحته.

كيف قرر في لحظة تهور وقنوط، أن يغامر بتزييف الصورة، شبه متأكد أن عمله سيكتشف على الفور، لسوء أدواته وقلة خبرته في التزوير، إلا أنه أقدم على ذلك، فِعلَ اليائسِ الذي سُدَّت أمامه الدروب، وأُقفلت في وجهه الأبواب، فلم يعد لديه ما يخسره بعد أن طُرد من عمله، وتفلت من يده الحبل الوحيد الذي كان مستمسكاً به.

لكنه فوجيء بعد ذلك بتتالي الأحداث وتتابعها، فبدأت آلاف الدولارات ثم ملايينها تنهمر عليه من كل حدب وصوب، وتحول من شبه مشرد معدم، يتسكع في قرية بانيساهير، (والتي تعمد تحريف اسمها وتغييره إلى ناتاسيهار حتى يخفي معالم التزوير)، ليصبح واحداً من مشاهير الإعلام، تتسابق على لقائه الكاميرات، ويمضي وقته تحت الأضواء، نزيلاً مرحباً به في أغلى الفنادق، وضيفاً عزيزاً على أرقى الموائد، مرتدياً أبهى الحلل وأثمن الحلي، بدلاً من ثيابه المرقعة التي لا زال يحتفظ بها.

وخلال أعوام طويلة تلت ذلك، كان محاوراً ووجهاً بارزاً في وسائل الإعلام المختلفة، زار خلالها عشرات البلدان، واستمتع بأجمل مناظرها، وتعرف إلى معالمها وغرائبها، بينما كان يقدم في كل مكان حلَّ فيه، رؤيته الفلسفية للعلاقة المستقبلية، بين بني الكلاب وبني البشر.

تساءل السير توماس وهو يذرف الدموع، ويرفع أمام المشاهدين ثيابه القديمة البالية، فيما إذا كان يُعتبر مجرماً عتياً، وجب حسابه وعقابه، أم إنساناً ضعيفاً، عنَّت له فرصة من فرص الحياة، ومدت له أجنحتها، فاغتنمها وركب موجتها، لتنتشله من بؤسه وفقره، بعد ما ذاقه من مرارة الجوع والحرمان.

كانت جميع استطلاعات الرأي عقب كلمة السير توماس تشير إلى تعاطف كاسح معه، تساوى فيه البسطاء والمثقفون، أصحاب المال والسياسيون، الفقراء والمترفون.

تعاطف انتشر بسرعة البرق من شرق الدنيا إلى غربها، وسار من بلد إلى بلد، سُمع صداه في اليابان والكوريتين، في فارس والصين، وفي بلاد الغرب والعرب.

كانت دموع السير توماس لحناً مؤثراً تجاوب معه أحفاد يزيد وأنصار آل البيت، والرسميون والثوريون والمجاهدون، والحكام والمحكومون.

ورغم أن بعضهم أبدى تحفظاً محدوداً على الجانب الأخلاقي في القضية، إلا أنهم تفهموا جميعاً دوافع السير توماس الفاضلة الإنسانية.

ونامت كل الدنيا ليلتها سعيدة هانئة،

تحلق مع أحلامها الذهبية،

وتختار ما راق لها من أدوار البطولة :

اختار بعضهم أن يكون كلباً ذو أنياب تعض عضة كلب.

وأصر بعضهم أن يظل شخصاً ولو تعرض لعضة كلب.

وتمنى آخرون أن يصبحوا توماساً محظوظاً ولو بعضة كلب.

لكن أحلام الدنيا كلها .. كانت تدور في .. ناتاسيهار.

وسوم: العدد 689