الدين والربيع العربي
كل عام وأنتم بخير .. سادتي .. مضى رمضان وجاء العيد .. وجاء جاري "جورج" وزوجته والأولاد يباركون لنا بالعيد .. فرحت بزيارة جيراني الطيبين .. وشعرت بالرضا أن زيارتنا لهم في مناسباتهم قد أثمرت هذا التواصل بيننا بالرغم من اختلافنا بالدين !
زوجتي أخذت "أم نبيل" والأولاد إلى الصالة الداخلية، وجلست أنا وجاري في مكتبي نشرب القهوة التي اعتادت زوجتي على تحضيرها مقدما تحسبا لزيارة من يأتوننا للمعايدة ..
شعرت بالقلق وأنا أرى جليسي صامتا يدير فنجان القهوة على الطاولة بين يديه في نظرات حائرة تخفي كلاما كثيرا .. وأردت أن أخرجه عن صمته فسألته :
- خير .. أخي أبو نبيل .. أرى في وجهك بعض التعب .. طمني .. قل .. أرجوك .. هل من أخبار عن نبيل الذي هاجرإلى ألمانيا ؟!
لكنه ظل يعتصم بالصمت فتابعت أسأله :
- وما هي أخبار صحتك ؟ لقد سألت عنك أمس فأخبرتني الأخت أم نبيل أنك ذهبت إلى الطبيب .. طمني .. ماذا قال لك؟
رفع الفنجان إلى فمه وقبل أن يشرب نظر إلي نظرة لم تغادرها الحيرة تماما وقال :
- الحمد لله كل التحاليل جاءت طبيعية .. كتر خير الله..
قلت من أعماقي :
- الحمد لله .. ألف الحمد لله .. لكن .. ما بالك تبدو قلقا على غير عادتك ؟!
رشف رشفة هنية من فنجانه وانفرجت أساريره قليلا قبل أن يعود فيقول :
- لا .. لا شيء .. أنا منيح .. كتير منيح .. كتر خير الله ..
وابتسم ابتسامة عريضة أشعرتني بالراحة فقلت :
- الحمد لله .. طمنتني ..
فتابع يقول وقد بدأ وجهه يزداد إشراقا :
- أنا بفضل الله في أحسن حالاتي ( ورشف من قهوته قبل أن يستدرك قائلا ) أبشرك .. أنني خلال رمضان هذا عملت متلكم .. أنتو المسلمين ( ضحك وتابع) قرأت القرآن كله لأول مرة في حياتي ( ورفع الفنجان إلى فمه وأفرغ ما فيه دفعة واحدة ووضع الفنجان جانبا وتابع يقول ) هذه كانت أمنيتي من زمان .. لكني لم أتمكن من قراءة القرآن كله إلا هذه الة
نظرت إليه نظرة سعيدة وقلت :
- الحمد لله .. بارك الله بك ( ونفحته بابتسامة ذات مغزى وسألته مداعبا ) لعلك عزمت أخيرا على الدخول في الإسلام ؟!
فضحك بانبساط وقال وهو يدفع لي فنجانه الفارغ :
- صب قهوة .. صب ..
ملأت فنجانه وقدمته له وأنا أقول :
- أهلا بك .. في الإسلام أخي جورج
فأشار لي بيده ( تمهل ) وقال :
- لا أكتمك .. هذه الفكرة تلح علي من زمان طويل .. ولكن ..
- لكن .. ماذا ؟ كثيرين قبلك قرؤوا القرآن فدخلوا في الإسلام .. هذه تحدث كثيرا ..
قاطعني :
- صحيح .. وقد قرأت عن هؤلاء كثيرا .. وصدقته .. فقد وجدت في القرآن ما يجعل كل من فيه عقل يرغب بالإسلام .. ولكن ..
قلت بصبر نافد :
- أرجوك أخي جورج دع عنك هذه ال .. لكن اللعينة .. وقل لي بصراحة .. ما وراء هذه ال .. لكن ؟!!!
أشار بيده ( تمهل ) وأخرج علبة سكائره وأشعل سيكارة وهو يقول :
- لا أكتمك .. أخي أبو محمد .. لقد وجدت في القرآن الكثير مما يدعوني لدخول الإسلام .. لكني وجدت فيه أيضا .. أمورا صدمتني وجعلتني أتردد !!
- خير ؟! ماذا وجدت .. قل لي لعلي أشرح لك هذه الأمور .. فأنا أحمل شهادة في الشريعة كما تعلم ؟!
هز رأسه وقال :
- أجل أعرف هذا .. الله يهنيك ( وأشار إلى المصحف على الرف فوق رأسي وتابع يقول ) هل تسمح ؟
ناولته المصحف .. فأخذ يقلب صفحاته حتى وقف عند صفحة فقال :
- اسمع .. يا سيدي
وبدأ يقرأ في سورة الحج : وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ..
وتوقف عن القراءة وحدق في عيني وقال :
- هذه ال .. لكن التي أوقفتني ..
- كيف ؟!
- سأقول لك .. انظر ما يجري اليوم من تدافع بين الناس في هذا الربيع العربي الدامي .. هنا في سوريا .. وهناك في العراق واليمن وليبيا وغيرها من بلاد الإسلام .. هل لاحظت أن كل هذا التدافع لم يمنع من هدم المساجد والكنائس.. كما يقول القرآن ؟!!
نظرت إليه وحركت يدي متسائلا ( ماذا تريد أن تقول ؟!) أجاب :
- صدمتني هذه الآية لأني رأيتها تقول شيئا يكذبه الواقع ؟!!
قلت :
- صحيح .. أخي أبو نبيل .. الواقع يكذب القرآن كما تقول فالمشكلة إذن في الواقع لا في القرآن ..
- ... ؟!
- الناس .. أخي أبو نبيل .. لا يلتزمون بالقرآن ولهذا تحصل هذه المفارقات !
هز رأسه في حيرة وقال :
- قد يكون كلامك صحيحا .. أخي أبو محمد .. لو لم يكن في القرآن غير هذه المفارقة العجيبة !!
قلت :
- وهل وجدت فيه غيرها ؟!
هز رأسه :
- طبعا .. طبعا !!؟
قلت :
- هات ...
فعاد يقلب صفحات المصحف حتى وقف عند صفحة فأشار إلى آية فيها وقدمها لي وقال بنبرة مستفزة :
- انظر إلى هذه الآية التي تصف الأمة الإسلامية بأنها : خير أمة أخرجت للناس!
قال ذلك وسكت وهو يرميني بنظرة استنكار .. وأردف :
- هل هذا الكلام صحيح ؟! ( وابتسم ابتسامة مغلفة بسخرية هادئة وأضاف ) أين هي هذه الأمة التي يتحدث عنها القرآن ؟! ( وأشار إلى خارطة الوطن العربي المعلقة في صدر مكتبي وأضاف وهو يضحك بمرارة ) انظر إلى خير أمة .. هل ترى إلا القتل والتدمير وتبادل الاتهامات المخزية ؟!
وضع الفنجان من يده بحركة نزقة وهو يردد :
- أين هي هذه الأمة ؟! أين .. أين .. أنا لا أرى سوى أمة مهزومة متخلفة تقبع في آخر الأمم .. ياحيف ! يا ضيعة القرآن فيها !!
أحسست في غصة في حلقي .. وطعنة في صدري لحال هذه الأمة .. لكني أخفيت ذلك عنه وقلت :
- على مهلك .. أخي أبو نبيل .. أكمل الآية تجد الأمة التي يتحدث عنها القرآن ( وأشرت إلى الخارطة التي تضم الوطن العربي المقسم إلى قطع متناثرة متناحرة وقلت) أما هذه الأمة فهي أمة سايكس بيكو!!
وأخذت القرآن من بين يديه وتلوت الآية بما تستحق من ترتيل لتكون أبلغ تأثيرا في نفسه، قائلا : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر..
ونفحته بابتسامة هادئة وقلت :
- لاحظ .. أخي ابو نبيل .. أن القرآن الكريم يربط خيرية هذه الأمة بقيامها بالجهاد (استدركت) أعني .. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. يعني إصلاح المجتمع أولا .. وعندما تصلح المجتمع تصبح خير أمة ولم يجعلها القرآن خير أمة لمجرد أنها أمة عربية مثلا كما يزعم بعض القوميين !!
مد لي فنجانه للمرة الثالثة، وقد انفرجت أساريره وقال :
- صب قهوة .. صب ..
وضحك ضحكة رائقة وأضاف :
- من الواضح أني بحاجة إلى الكثير من دروسك قبل أن أعلن إسلامي !!
وسوم: العدد 726