نعمة الحروب الأهلية
علم صاحبي ما أعانيه من اكتئاب وعزلة جراء ما يجري هذه الأيام في طول الوطن العربي وعرضه من تدمير وتشريد وحروب أهلية، فجاء يواسيني، سلم، وقبل أن يجلس أشار باستهجان إلى علب الدواء المنثورة بجانبي، وتناول حافظة القهوة وصب منها فنجانا راح يرشف منه في شهية، ومد يده فأزاح علب الدواء بعيدا وهو ينصحني بالخروج إلى العالم، وقبل أن يسمع جوابي رأيته يمد يده فوق الطاولة وبدأت أصابعه تنقر لحنا رومانسيا، وارتسمت على وجهه ابتسامة مشرقة، جاهدت نفسي لأرسم على وجهي ابتسامة تقابلها، قبل أن أسأله :
- الحمد لله .. أراك سعيدا .. محمود ؟!
رد على الفور بارتياح :
- الحمد لله .. ولماذا لا أكون سعيدا ؟!
تنهدت من أعماق روحي ، وقلت :
- الحمد لله .. أنك سعيد .. لكن ألا ترى هذه المصائب التي تحيط بنا !؟
قاطعني :
- يا لطيف ! مصائب !!؟
قلت :
- طبعا .. مصائب ! لقد دمروا حلب وهجروا أهلها أمس وهاهم يدمرون درعا تمهيدا لتهجير أهلها .. وأنت سعيد !!؟ كأنك لا ترى ما يحصل في البلد !! وكأن حال البلد لا يعنيك !؟
فلم يعبأ واستمر في النقر على الطاولة، وخيل لي أنه على وشك أن ينطلق بالغناء، لكنه اكتفى بنظرة حالمة نحو البعيد، ورد علي :
- وكيف لا أكون سعيدا وأنا أرى هذه الأمة تتجه نحو الخروج من الظلام إلى شمس التنوير ؟!
صرخت في وجهه :
- تنوير ؟! وأي تنوير في هذه الفوضى والخراب ؟!!!
أجاب في حسم :
- أجل تنوير ..
ورشف رشفة هنية من قهوته وعاد يبتسم ابتسامة لا تخلو من استخفلف علني، وسألني:
- ألم تقرأ التاريخ ؟
- بلى .. طبعا .. قرأت الكثير !!؟
- وهل قرأت تاريخ أوروبا ؟
- ما لي وأوروبا ؟! ألا يكفي تاريخ أمتي !
ضحك صاحبي وقال :
- كنت أظنك أوسع عقلا وثقافة يا صديقي !
وضعت فنجان قهوتي مغضبا، وسألته :
- ماذا تعني ؟
أجاب مداعبا :
- أعني أن أوروبا التي لم تقرأ تاريخها .. يا جاهل (ضحك ضحكة ودودة وأضاف) أوروبا لم تخرج من ظلمات القرون الوسطى إلى شمس التنوير إلا بعد سنوات طويلة من الحروب الأهلية والدينية التي أزهقت ملايين الأرواح ودمرت مئات القرى والمدن ..
قاطعته :
- وهل علينا أن ندمر بلادنا لكي ننهض ونتطور ؟!
لم يكتف برشف قهوته هذه المرة، بل أخرج علبة سكائره بحركة مستفزة، وسحب منها سيكارة أشعلها بهدوء متعمد وراح يدخنها في شهية قبل أن يعود فيقول :
- أجل يا صديقي، هذا هو قدرنا ..
وسكت برهة ثم تابع يقول :
- ليس هذا قدرنا فحسب، وإنما هذه هي سنة الله في الخلق ..
قاطعته في استهجان :
- سنة الله في الخلق أن يتقاتل الناس ويدمر بعضهم بعضا حتى يتطوروا ويدخلوا عصر التنوير ؟!!
هز صاحبي رأسه ( أجل) وزفر زفرة طويلة قبل أن يعود فيقول :
- يا صديقي هذه هي "مهزلة العقل البشري" على حد تعبير عالم الاجتماع العراقي علي الوردي ..
- مهزلة ؟!! تدمير وقتل وتشريد .. ثم تقول مهزلة ؟!
رشف من سيكارته رشفة إدمان مزمن قبل أن يقول :
- أجل يا صديقي .. مهزلة وارجع إلى التاريخ الذي لم تقرأه يا .. جاهل .. تجد أن الناس يتعلمون من المعاناة ما لا يتعلمون من الكتب والمواعظ، ولهذا تراني اليوم مستبشرا مما يجري في البلاد من حروب أهلية باسم الدين، لأنهم لن يصلوا إلى القناعة بإبعاد الدين عن السياسة إلا إذا اكتووا بهذه الحروب التي يخوضونها باسم الرب !!
قاطعته بحدة :
- أبعاد الدين عن السياسة ؟! هذه علمانية .. يا أستاذ !؟
ودون أن أدع له مجالا للرد رفعت سبابتي في وجهه وتابعت :
- تستبشر بالعلمانية يا محمود ؟!! هل صرت علمانيا .. يا ابن الشيخ ؟!!
تكدرت نظرته لذكرى والده الذي اغتالوه وهو في درسه الأسبوعي في المسجد، فخامرني الإحساس بالندم لإثارة هذه الذكرى، وعدت أقول :
- آسف يا صديقي .. رحم الله الوالد العزيز .. فقد كان وليا من أولياء الله الصالحين، وقد كان طوال عمره مسالما .. ومع هذا لم يسلم من ويلات هذه الحروب التي تستبشر بها أنت !!
رشف صاحبي رشفة متمهلة من سيكارته وقال في حسم :
- أجل .. يا صديقي .. والدي كان وليا من أولياء الله الصالحين كما تقول .. وقد عاش حياته في تعليم الدين ، لكن ماذا تغير .. لا شيء !؟ ولهذا تراني مستبشرا أنتظر العلمانية على أحر من الجمر، فهي المخرج وحيد لنا من هذه المتاهات التي ضيعنا فيها أهل الدين .. أبي وأمثاله !
- أبوك ؟!! أبوك يا محمود الذي كان الناس يتقربون إلى الله بكراماته ؟!
قال بلا اكتراث :
- أجل .. أبي .. أبي كان جزءا من مصائبنا !
قاطعته بغضب تعمدت أن لا أخفيه :
- أجننت ؟! كيف تقول هذا عن والدك ؟!
- هذه هي الحقيقة يا صاحبي .. هي حقيقة مرة لكن لابد من الاعتراف إذا كنا جادين بالتغيير والوصول إلى العلمانية بأقل تضحيات .ز
صرخت فيه غاضيا :
- خلاص .. خلاص .. دعك من تكرار هذه الكلمة التي تكاد السماء تنهد منها !!
صببته له فنجان قهوة جديد وعدت أقول :
- يا صديقي ليست العلمانية هي الحل ، بل الإسلام !
ضحك صاحبي ضحكة لا تخلو من سخرية علنية وقال :
- دعك من هذه الخزعبلات يا صاحبي .. الدين هو الحل شعار يتنتمي إلى القرون الوسطى لا إلى عصرنا !؟
وفاجأني فدفن بقايا سيكارته في المنفضة بحركة عصبية قبل أن يعود فيضيف :
- يا جماعة دعوا الإسلام في حاله ، ولا تورطوه في الصغيرة والكبيرة !
وقام من مجلسه يستأذن بالخروج، لكني استمهلته فعاد إلى مجلسه وهو يقول :
- يبدو أننا لن نتفق !
قلت :
- وكيف تريدني موافقتك على شيء يخالف ديني على طول الخط ؟!
أجاب وهو يصطنع الهدوء :
- يا صديقي .. لا علاقة للعلمانية بالدين .. فلا تخش منها على الدين .. الدين.. يا صديقي أمر شخصي بين الإنسان وربه، فلا يستطيع أحد أن ينزعه من أحد!
وعاد يستأذن بالذهاب وقام يمضي وهو يقول :
- قربت .
سألته :
- ما هي ؟
أجاب :
- العلمانية .. قربت .. فلا تستغرب أن تصحو غدا فتجد البلد وقد صارت علمانية.
وخرج فقلت في نفسي :
- فال الله ولا فالك .. يا ابن الشيخ !
ووجدتني أضحك من أعماقي، ثم توقفت متوجسا من هذه الأيام السوداء التي جعلت أبناء المشايخ يسبحون بحمد العلمانية بدل التسبيح بالواحد القهار !
وسوم: العدد 726