العودة إلى الكرامة
بعيد حرب 1967 – وحرب الأيام الستة – أو الستة دقائق الأولى التي تحطم فيها سلاح الجو العربي، ومن ثم تم انسحاب الجيوش الجرارة، وتسليم المواقع الحساسة للعدو الصهيوني بكل بساطة وبلا لجاجة.
كثير من العائلات المقيمة غرب نهر الأردن نزحت عن ديارها شرقي النهر بعدما فقدت دورها وبياراتها مع وقع الاحتلال البغيض.
وعن هضبة «مرتفعات الجولان» الخلابة ذات الموقع الاستراتيجي الحساس نزح غالب السكان هناك إلى دمشق وريفها، فيما عدا حفنة قليلة من الأقليات الذين قدر لهم توافق التعايش مع الاحتلال والتغاضي عن شبح سواده الثقيل.
كمال، الشاب المندفع المتحمس خرج من قرى نابلس في الضفة الغربية للنهر تحت ضغط من توسل والدته لمرافقة العائلة النازحة عن وطنها.. فلم يبق لهم من شيء في البلدة، كل ما يملكون صار تحت تصرف جنود الاحتلال، الكلمة هناك للبسطار والتهجير سياسة العدوان، من لا يملك سلاح المقاومة لا يستطيع الصمود في وجه الغاصب، وقد تراجعت أمامه جيوش سمع عنها أهل فلسطين، كما قرعت مسامع كل العرب شعاراتها الرنانة بأنها قوات أنظمة «الصمود والتصدي» إلى أن صارت على مر الزمن صروح «الممانعة والمقاومة» أو قل: أبراجها العاجية.
إبان النزوح استقر المقام بأسرة أبي كمال في غور الأردن مثل الكثيرين من الناس، وكان جلوسهم في بلدة الكرامة، ومع كثرة الخلق الوافدين قلّ من يجد عملاً في هذه البلدات الزراعية، على إثر ذلك استأذن كمال والده ووالدته ليذهب إلى العاصمة عمان عله يجد ضالته، وإذا لم يوفق فالشام قريبة رمية حجر والسفر إليها سهل جداً، وهو شاب مندفع يمتلىء حيوية و نشاطاً عند منتصف العقد الثالث من العمر.
بقليل من العناء وجد حافلة إلى العاصمة وما هي غير ساعة حتى كان هناك.
أمضى أياماً يتردد هنا وهناك يتسكع أحياناً وينزل ضيفاً أحياناً أخرى لدى من يستقبله، لكنه دون جدوى لم يوفق إلى ما ذهب إليه، فما عاد له غير دمشق، فقصدها على متن مركبة الخط الخارجي.
من خلال أحاديث السفر والطريق عرف السائق بغيته، فأخذه تواً إلى أماكن نزول النازحين حول دمشق، ودله على مناطق أخرى يتواجد فيها أترابه من منكوبي الحرب الأخيرة إن لزمه التنقل إليه.
استقبل كمال بالرحاب فهو ابن النكبة الثانية، أما مستقبلوه فنكبتهم تحدث لأول مرة، أنزلوه معهم في خيمة.. خيمة خاصة بالشباب، حين خلا بنفسه ساعة للراحة من وعثاء السفر تتالت عليه الذكريات بعيداً عن أية راحة وخاصة راحة البال.. ما أخبار أهله الذين تركهم في خيمة هناك وجاء هنا لينزل في خيمة، حمد ربه أن وجد من يسكنه بلا ثمن ولا أجر يومي ومن أين له المال ليدفع يومياً لفندق حتى وإن كان من الدرجة الخامسة؟
جاء الطعام.. ضيافة.. قد تكون أول مرة من قبيل الاحتفاء بالقادم من بلاد أخرى ومن أرض الغربة، شكرهم كثيراً على الزاد والشاي، ومن خلال الحديث عن الماضي والحاضر والعثرات التي لقيها مع أهله وأهل قريته وعثرات مضيفيه حين نزوحهم عن ديارهم القريبة، كل ترك داره وأرضه وبساتينه وعمله.
سأل كمال عن العمل.. كيف يمكن له أن يعمل ولا يظل عالة على غيره؟ أتاه الجواب سريعاً من أحد الحاضرين:
يوجد عمل في البساتين، خرج به إلى الفضاء ثم أردف قائلاً:
-- انظر تلك هي البلدة المجاورة.. إنها كروم العنب والتفاح وغيرها.. أنا أذهب كل يوم للعمل هناك.. غداً آخذك معي.. مارأيك؟
- طيب.. أذهب معك إن شاء الله.
تم الاتفاق على ذلك..حدث نفسه..يا إلهي ما أطيب الناس هنا.. إنه من رضا الله و الوالدين.. أموري ميسرة.. الحمد لله.
* * *
في صبيحة اليوم التالي وعند مطلع الشمس كانا قد وصلا المزارع المجاورة لمخيمهم.. ما هو العمل وما كنهه؟ رفيقه يحدثه عنه طيلة الطريق:
- الأمر بسيط.. تعزيق بين دوالي العنب، هو متعب نوعاً ما.. لكن مع الأيام تأخذ رجلك عليه ويصير سهلاً كشربة ماء...
شربة ماء تحت أشعة الشمس، كلما حميت حمي الرجال في العمل، أما هو فليس له من ممارسة على مثله.
حمل الرفش وانطلق في الحقل يجاري الأصحاب، ولكن أنى له.. إنهم يسبقونه ثم يرجع أحدهم ليساعده في مربده كيلا يستاء صاحب المزرعة من تقصيره.
إنه لا يجيد هذه المهنة ولا يعرف صنعتها.. يسترق النظر إلى أرجل الرجال وهي تنتفض ذهاباً وإياباً فوق الآلة الحادة، تنهش الأرض وتقلب أديمها رأساً على عقب، ثم تقذف بالتراب بعيداً، يوجد أيضاً من يحاول تعليمه العمل، تهالك فوق الآلة عندما أحس جسده يغرق في لجة تعب وإرهاق، والعرق يتصبب من وجنتيه يبلل ملابسه، تمنى لو يذهب إلى ظل شجرة الجوز الكبيرة المنفردة هناك.. على ضفة الساقية يتقي أشعة الشمس التي أضحت محرقة إلى حد ما، ليكسب قسطاً من الراحة، لكن كيف له.. إنه لا يستطيع القعود إلا إذا قعد الجمع بأسره.
تناهى إلى مسمعه صوت يرتفع منتهراً إياه بالذات فأسرع في ارتباك يعاود العمل ولكن لم يقفز هذه المرة فوق مضربة الرفش كما كان في الصباح، بل عمل بتراخ واشمئزاز.
نصف ساعة راحة لتناول الغداء المقدم من صاحب البستان المقدام أيضاً يشاركهم احتساء الشاي، يروي لهم قصصاً قديمة من زمان والده وجده، أخيراً يستحثهم على الإنجاز في العمل:
- بدنا الهمة يا رجال.
. - استلقى يتنفس الصعداء في ظل ظليل، ثم قام مسرعاً عندما حان القيام
هذا العمل المضني وقته قصير 5.5 ساعة فيما عدا وقت الغداء، عندما عاد في الظهيرة من العمل الشاق، ألقى جسده المرهق فوق بطانيات خرقة خلَّفها أسلافه، واستمر على ذلك الحال حتى الصباح التالي.. أحلام مفزعة.. آلام في عضلات ساعديه وساقيه مزعجة، في الغداة لم يستطع الذهاب مع صاحبه فعضلاته تشكل له مشكلة صعبة، البحث عن عمل أقل جهداً لا يكلفه كثيراً فقد وجده بواسطة صاحبه، أقل ما فيه أنه عمل ليلي يجنبه أشعة الشمس وحرارة النهار، وبالتأكيد أقل أجراً وفي مزرعة مجاورة.. ليس مهماً الأقل، الأهم أنه يقدر عليه.
في سكون الليل عندما أوى الناس إلى مضاجعهم شق طريقه إلى المزرعة بعدما تلقى التعليمات من صاحبها.. وأخذ يسقي بكل راحة وبساطة تحت ضوء القمر المتلألىء.
نظر إلى الساقية، فرأى القمر ينعكس في ماء الجدول جميلاً أخاذاً.. أحس بنشوة وهناءة.. لفحت وجهه نسمات رطبة فجلس إلى جذع شجرة قريبة يمتع ناظريه بالمشهد، ريثما يرتوي القسم الذي يتسرب الماء في طرقاته.
كان ضوء القمر الفضي يتخلل أوراق الأشجار وفروعها.. ينزلق على سطح الماء الرقراق، ثم تمايلت الأشجار وخف إلى أذنيه حفيف أوراقها الخضراء اليانعة.. انشغل بتلك المناظر الخلابة والجو هادىء لطيف.. أسند رأسه إلى الجذع وأغفى إغفاءة غير قصيرة، فذهبت المياه هدراً وذهب معها الأجر.
شاع خبر كمال بين الجوار، فلم يعد المزارعون يرغبون في استخدامه.
ماذا يفعل الآن؟.. آه، إنه لا يجيد العمل حتى في صنعة الموت، لعله لو اشتغل صانعاً للأكفان فيندر من يموت حينئذ، ولا ريب أن الأعمار والأرزاق بيد الواحد الأحد.
أواه.. ليته لم يعمل في بيع الحرائر والأجواخ منذ نعومة أظافره في متجر والده، كانت يداه ما تعودتا على النعومة والطراوة وكذلك نفسه.
قد مل هذه الأعمال المتاحة له، التي يصنفها في باب الأعمال الشاقة، أيضاً مل السكن في خيمة مهلهلة، أخذ يسعى في الحصول على غرفة مهما تكن فاسمها غرفة تقيه حر الصيف الحالي وبرد الشتاء القارص القادم.. والقادم أشد صعوبة والله أعلم.
وجد أخيراً بواسطة.. كل شيء هذه الأيام بالواسطة، حمل فراشه متابعاً خطوات الرجل المسؤول كي يسلمه حجرة متواضعة بين مساكن ممدودة يقطنها النازحون المحظوظون المغبوطون على ما حصلوا عليه من ميزات، ثم لحق بالرجل يودعه ويشكره فقد أغدق عليه من فضله، وإن ما يفعله معه من معروف كان بسبب أنه قادم من بلد آخر فذلك من حسن الضيافة.
أجال ناظريه شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً.. إنها مساكن جرداء كالحة وبجوارها مدرسة، حتى المدرسة غصت بالسكان حيث أتوها من كل حدب وصوب.. أفواج غير قليلة من الأطفال والشيوخ والنساء.. ألبستهم غير ثمينة، منها المرقع ومنها لا تجد فيها نظافة، لا تكاد تكون أسمالاً.. بعض الوجوه أيضاً تراءت له شبيهة إلى حد كبير بجدران بيوت يسكنون فيها.
ثم ثلل من الشباب يملؤون الشوارع المحيطة يزرعونها جيئة وذهاباً.. يقتلون الفراغ شنقاً بحبل العدم.
رباه قد ضج الألم، والليل نام ولم أنم، كل هؤلاء الخلق يعيشون في هذه الأبنية المحدودة المعدودة.. حياة نابعة من باطن الموت.
هبت نسمات الصباح ففاحت معها روائح غير عطرة.. بل نتنة، امتلأت بها خياشيمه المزكومة فاستدار راجعاً إلى حجرته ( المستعارة) طبعاً.
وقف أمام الباب هنيهة، لاحظ فتاة أمام الباب المقابل.. لعلها تشخص إليه.. تأملها لحظة بثيابها الطويلة ووشاحها الأزرق إلى آخره.. وبين يديها طبق غسيل، تراجعت ثم دلفت إلى غرفتها على حياء وخفر لتتقي نظراته الوقحة.
راودته الوساوس.. هذا جار جديد.. كل شيء فيه جديد.. حتى ثيابه المتسخة ولا يملك غيرها.. يا للسخرية قد يكون أعجبها فيه منظره الذي صار عفشاً!!.. هه هه.. قد تكون فكرت بأنه بحاجة إلى غسيل ملابس، ولم لا يكون بحاجة إلى غسيل دماغ.. ما لك يا هذا.. ألم تعلم أن النظرة سهم من سهام إبليس.. وأنت لاجىء غريب.. عيب عليك.. حتى التفكير الخاطىء.
هو الساعة وحيد في غرفته الوحيدة، ونافذتها وحيدة، وهذا فراشه الوحيد ولا شيء عنده غير ذلك، الوحدة قاتلة إلا إذا غمرت صاحبها الرحمة الربانية، من أين له ذلك حين يستجيب للوساوس؟ داخله شعور غريب.. كيف يسمح لنفسه أن يفكر بهذه الطريقة الغثة، إنه لم يفكر يوماً ما في أي فتاة أوامرأة بطريقة ضالة.
وجد نفسه تلقائياً يخرج من الغرفة يطل خارجها.. لعلها هناك مرة أخرى، لكنه عاد مخذولاً.
راودته فكرة.. هو يشرف على الثلاثين من العمر لِمَ لا يتزوج.. منها أو بأي فتاة أخرى، ليكن جريئاً فيذهب ويطلب يدها من أهلها، مع أنه لم يفكر في مثل هذا من قبل، هنا تذكر المبلغ المستدان من الرجل الطيب، فأحس سخونة تسري في جسده، أليس من الواجب أن يوفي من أسعفه قبل أن يفكر في شيء؟ الزواج يحتاج إلى مال وإلى بيت، أليس من الواجب أن يصرف على العيال؟ عليك أولاً أن تبحث عن عمل وتشتغل ولا تكون ضيفاً ثقيل الظل على الآخرين.
ارتدى منامته واستلقى على الفراش الإسفنجي، كاد يسلم جفونه للنوم، تنبه على طرقات تقرع الباب.. نهض وفتحه بعد فتح عيونه.. كانت المفاجأة طفل يافع أمام حجرته، تراه ما يبغي؟!! كانت دقات قلبه أعنف من طرقات الباب، ثم قطع الصمت والتساؤل الصوت الرقيق:
- لو تكرمت يا عم أعطني ملابسك نغسلها لك.
أحس كأن مدية تطعنه في داخله، فقال متردداً:
- لا داعي. فإن ثيابي.. ثم صمت قليلاً..
رد عليه الطفل الذكي:
- والدي أرسلني إليك بهذا الخصوص، إن تكرمت.
لم يكن أحد يضاهيه رغبة في أن يجد من يسدي له هذه الخدمة.. هو لا يجيد ذلك، وليس عنده أدوات، ولا يملك أجرة غسيلها وتنظيفها في أبسط مصبغة، ودون أن ينبس ببنت شفة جمع ما عنده وهما عبارة عن قميص وسروال، وناولها للفتى شاكراً إياه:
- شكراً لكم ياجيراني.. سلم كثيراً على الوالد..
- لا شكر على واجب يا عم.. لن يطول الوقت.. سآتيك بهم اليوم بإذن الله.
لم يقل له: تفضل.. أيقال عن شُحِّه ولؤمه شيء؟ ولكن على أي شيء يدعوه؟!.. لا شيء عنده، إنه فاقد ما لا يعطى ويضيف.
عاودت الوساوس تجتاح رأسه.. ما الذي دعا الجيران لهذا التصرف معه؟.. أليس وراءه من خفايا؟!!
أطاح بيده في الهواء.. عليك أن لا تدع الأفكار الخبيثة تنهش رأسك وتسود قلبك.. يجب أن لا تفكر فيما فعلوه أكثر من أنه عمل إنساني.. وكرم عربي إذ عرفوا أنه وحيد غريب مقطوع هنا على الأقل من شجرة.
أليس الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس، أما هكذا يروى الحديث الشريف، أما علق عليه خطيب الجمعة منذ أيام.. بأنك يمكن أن تخفي رأسك في الرمال كالنعامة كي لا يراك أحد.. إن أتيت بخطيئة نفسية دون أن يطلع على ما بنفسك غير خالقك.
تتكاثر على رأسك الظنون..أما لهم من مصلحة معك؟
لا تسىء الظن بالآخرين.. إن بعض الظن إثم، إنك تقترف جريمة الظن غير الحسن.
إنها أسرة فاضلة تطوعت في تقديم خدمة لك، ولا يصح أن تفكر بها على غير ذلك.
ارتاح نفسياً للخاطر الأخير، واستقرَّت في أعماقه حقيقة كريمة، ثم انقضى يوم شاع خلاله أمر النزيل الجديد.
* * *
في اليوم التالي توافد على زيارته بعض الشبان، اثنان منهما يرتديان البدلة المبرقعة الموشحة بالأخضر، والثالث يرتدي قميصاً وسروالاً من الكاكي الأصفر، تعلو وجهه أمارات الجد والوقار والسماحة والرضى، خلال ذلك الوقت دار بين الجمع جدل حاد، كان مطلعه أن تعرف الزائرون على حالة الملل والبطالة التي يعاني منها صاحبهم كمال، فعرض عليه الشاب الجاد واسمه سليم التطوع للجهاد في فلسطين، فبلده بحاجة له ولأمثاله:
- بداية أعرفك بنا، أنا سليم من أبناء القنيطرة.. والأخوان من فلسطين تعرفت عليهما حديثاً.
- أهلاً بكم.
الثلاثة يردون معاً:
- أهلاً بك.
يتابع سليم حديثه بعد المقدمة:
- الطريق أمامنا واضح وممهد لا لبس فيه.. عندما تتطوع للقتال في فلسطين أو يذهب أحدنا إلى مدينته ليحارب الصهاينة الذين احتلوا أرضه. بلع ريقه ثم قال:
- عندها تستعيض بالبطولة عن البطالة وتنتقل من حياة ملولة تعيسة إلى حياة سعيدة بهيجة.
- مواجهة العدو صعبة وهو يملك أعتى قوة عسكرية، فكيف تكون السعادة؟!!
- إنك تجد السعادة وأنت تدافع عن وطنك وتحرير أرضك المغتصبة.
- على كل حال، موضوع كهذا يلزمه إعداد واستعداد.
- قطعاً لا بد من ذلك.
- كيف نحصل على ذلك؟
تنطع أحد الشابين قائلاً:
- يوجد تدريب في منظمات حزبية، أو عن طريق الجيش العقائدي.
- إذا أردنا الجهاد.. وطريق الجهاد فيه النصر أو الشهادة، يجب إخلاص النية، لا أحد يقاتل لمغنم أو منصب.
عاد الآخر يقول:
- نريد تغيير التسمية.. فلنسمه نضالاً.. هذي الأيام يوجد مناضلون، جيوشنا ومنظماتنا تعمل بطريقة النضال الثوري..
غير سليم من جلسته وهو يخاطب الشاب:
- نحن لا نعول كثيراً على هذه الجيوش، لو كان فيها خير ما انسحبت أمام.. أمام عصابات الصهاينة.
انتفض الشابان يواجهان كلامه بثورة وعنف فقال أحدهما بصوت متهدج:
- لا تقل هذا عن جيوشنا.. جيوشنا وطنية قومية.
- أعرف ذلك.
- إذن.. اسحب كلامك.
- متأسف جداً.. صديقاي، الجيوش فيها وطنيون بالتأكيد.. فالعناصر من هذا الوطن وهم أبناء الشعب، لكن المشكلة في الرؤوس!!
رد الاثنان معاً:
- وما لها؟
- الجيوش الكبيرة.. بل أكبرها وهي المفروض أنها على خط النار والمواجهة مع الكيان الصهيوني، أرسلوها لتحارب في اليمن، تحارب القبائل اليمنية في جبال وعرة ومناخ لا تعرفه، فكانت النتيجة أن جاءت إلى حرب العدو الحقيقي منهكة مفلسة، وأما الضباط الكبار وأصحاب الخبرات العسكرية فقد نحوا جانباً، وتسلم الأمور ضباط صغار.. لا خبرة ولا حاجة.
- على كل حال ليس وقت هذا الكلام.
- أليست الحقيقة.. أقولها وإن كانت مرة، وأما الجيش الآخر الذي يليه فقد أرسلوا جزءاً منه ليخوض حرباً داخلية في شمال العراق، وشغل القيادة الشاغل عندنا إقالة الكبار والقدامى فيه خشية أن ينقلبوا عليهم وهكذا ديدنهم..
- أنت طابور خامس.. تروج للإشاعات
ثم قاما يريدان الخروج، فاعترضهما قائلاً:
- مهلاً..بردا أعصابكما، هذه ليست إشاعات.. إنما حقائق، على كل دعونا من هذا.. لنرجع إلى كمال.. إنه الموضوع الأهم الآن..
: يعود مخاطباً إياه
- أية خدمة تريد.. أنا شخصياً إذا كان بمقدوري أن أساعدك فيها فلن أقصر.. إن شاء الله.
- أنا عليَّ دين لأحد الإخوة في المخيم، أريد أن أجد عملاً كي أرد له دينه أولاً، ثم أنستر ثانياً، كنت عملت في أعمال زراعية ولم أفلح فيها، راجياً أن أجد عملاً في غير مجال.
سليم يضع يده فوق رأسه.
- على عيني وراسي سأسعى لك ولي، أنا أيضاً أبغي العمل في العطلة.. ريثما يبدأ العام الدراسي.. باقي عندي سنة وأتخرج بإذن الله من كلية الإقتصاد.
- بالتوفيق.
- على أية حال أنا أقيم مع أهلي هنا قريب عليك، أي شيء تحتاجه اطرق بابنا أمانة هه..
يشير بيده إلى الباب المقابل، ثم قام مودعاً إياه وقام معه رفيقاه، ثم قال لهما وهم خارج الباب:
- تفضلوا معي.. نكسبكم..
- شكراً.. شكراً لك.
- سامحوني.. إن كنت أغلظت بالكلام، أو أسأت لكما بكلمة.
ثم افترق الجمع بعد أن عادت البسمات تعلو الشفاه.
* * *
في أصيل ذلك اليوم وقد مالت الشمس نحو المغيب طرق بابه مرة أخرى، فتحه فإذا بالطفل ذاته يعود إليه بثيابه، لكنها نظيفة وبين يده طبق طعام:
- تفضل يا عم..
- زاد الله من فضلكم.. ما كل هذا؟! والله أخجلتموني يا جماعة الخير.
- من خير الله.. أبي وشقيقي سليم يسلمان عليك.
غصة في حلقه وهو يرد السلام، وشبه جلطة تخيم على دماغه، وهو يغلق الباب على نفسه.. يا خجلتي من نفسي.. حقيقة أن بعض الظن إثم.. يا إلهي.. ربي اغفر لي زلاتي ولا تحاسبني على خطيئاتي.
ثم يتجه نحو الباب وكأنه يخاطب أحداً أمامه:
- سامحوني يا جيراني الأفاضل الطيبون.
تفصد جبينه عرقاً، هذه المرة ليس من التعب والإرهاق إنما من الحياء.
تناول غداءه على وجه السرعة، ولما أحس بالشبع قام يبحث عن قلم وورقة، فتأكد أنه لا بد أن يسعى نحو مكتبة ليحصل على قلم وأوراق ومظروف كي يخط رسالة إلى أهله في غور الأردن يشرح فيه أحداث رحلته إلى عمان ومن ثم الشام منذ غادرهم.
ما مضى على ذلك سوى أيام معدودة حتى كان سليم يصحبه إلى مطعم مشهور يقدم البوظة والمحليات ليعملا سوية فيه.
خلال فترة غير بعيدة جاءه جواب خطابه الذي وجهه إلى أهله، هناك تجمعت العائلة بينما راح شقيقه الذي مازال في المدرسة يتلوها عليهم بينما كانت أمه تمسح وجهها بالمظروف الذي حمل رائحة ولدها البكر من ديار الغربة، أما أبو كمال فأملى على ابنه كاتب الجواب أنه يدعوه للعودة إليهم بعدما يسر الله أمورهم، فإنهم يعملون في مزرعة ويعيشون حالياً ببيت ريفي متواضع يتوسط المزرعة دون مقابل.
بعد الإطلاع على محتوى الرسالة التي أتاه بها صاحبه سليم، أبلغه نيته إكمال الشهر هنا ثم يغادر إلى حيث تقيم أسرته، يكون وفّى دينه، وحصّل أجرة السفر وكفى.
سليم بدوره شجعه على العودة لأنه عما قريب تبدأ السنة الدراسية الجديدة ولسوف تفرغ المدارس من نزلائها، وأصحاب الأبنية المقامة على العظم سوف يطلبها أصحابها لإكسائها، ولا مناص عندئذ للنازحين من أن يبحثوا لهم عن سكن بالإيجار.
مضى الوقت سريعاً وحان وقت السفر تعانق الصاحبان ساعة الوداع وسليم أخذ ينصحه أن لا ينسى بلده وإن استطاع أن يعمل شيئاً على طريق العودة المأمولة:
- قلت: الجهاد.. الجهاد سبيلنا، المقاومة الشعبية هي التي تجدي.
- وأنت ماذا فاعل يا أخي؟
- إن استطعنا أن نشكل خلايا داخل أرضنا المحتلة ونشن حرب عصابات على العدو المحتل نكون قد أفلحنا.
- إن كان ذلك مسموحاً به.. وإن لم يكن فعلينا العوض.
* * *
السفر طويل من الشام إلى عمان هكذا أحس به، مع أنه بضع ساعات، الانتظار أيضاً ليس سهلاً كي يجد حافلة يستقل متنها مع آخرين في طريق العودة إلى الكرامة، أخيراً وجد، كما أن صاحبها وجد ركاباً يكمل بهم الطلب.
ذهب جل اليوم في ذلك.. وما دخلوا المنطقة المحاذية للخط الحدودي الجديد إلا وقد أقبلت الشمس على المغيب، الطقس مختلف جداً عن المدينتين، الحرارة هنا ملموسة، كذلك أفواج من الذباب تهمي، اليوم يودع دمشق.. إنها مدينة جميلة.. أحاطت بها أنهار وبساتين وخميلة، قلبه ملهوف إلى رؤية أهله مثلما هو ملهوف إلى البلد الذي غادره لتوه.. وترك فيه أصحاباً وذكريات مثل ذكريات الطفولة.
أمضى ليلته الأولى على ما يرام.. هنئ أهله به وفرحوا كثيراً وكان كأنما عندهم عرس، احتفاءً واحتفالاً بالغائب العزيز.
تجول في طرقات البلدة، لمس فيها حركة عمل وبناء مساكن من طوب ومحلات تجارية على الشارع الرئيسي وسط السوق، قد دبت الحركة هنا بسبب الآلاف المؤلفة التي قدمت من أرض فلسطين على أثر الحرب الأخيرة، ناس يلزمها بيوت تسكنها.. ناس بحاجة لمواد غذائية وملبوسات وغير ذلك.
والبناء يستهلك مواد كثيرة ويشغل أيد أكثر، والزراعة كذلك تنامت وأخذت في التطور، فهو يجد عملاً خارج المزرعة، معنى ذلك أن الأوضاع سوف تتحسن ويحدث التقدم.
ثم وجد شيئاً آخر في غاية الأهمية، هناك مقرات لمنظمات فلسطينية فدائية.. تعمل على تدريب الشبان على السلاح والأعمال الحربية وإعدادها لساعة الحاجة لملاقاة العدو، أو القيام بعمليات هجومية داخل الأرض المحتلة.
هنا وجد كمال بغيته، وتذكر صديقه سليم وما كان يدفعه إليه.. فابتسمت سرائره من الداخل، وانبسطت على ما في الكرامة من مراكز تدريب واستعداد.
صار يعمل مياومة مع البنائين، ثم يختلف إلى دار إحدى المنظمات الفدائية يتدرب هناك على حمل السلاح ويستمع إلى دروس عن الكفاح المسلح، وعن حركات التحرر في أرجاء الأرض غرباً وشرقاً.
صارت عنده ثقافة جهادية ودراية نظرية بالحرب الاستنزافية، ألح مرة على ضابط التدريب أن يجعله ضمن مجموعة قتالية لتنفيذ عملية نوعية داخل البلد المحتل، لكن الضابط أشار عليه بالتريث، فلم يحن وقت ذلك بالنسبة له شخصياً.
مع الموسم الزراعي الجديد اتفق والده مع مالك الأراضي هناك على أن يزرع قطاعاً لا بأس به من الأرض على حسابه مزارعة وبنسبة جيدة، صارت العائلة بأسرها تعمل هناك حتى إن كمالاً صار يساعد والده إذا اقتضى الأمر وفي أوقات الفراغ يذهب للتدريب، ناهيك عن عمله يوميات في البناء عندما لا يكون والده محتاجاً له.
* * *
أقبل العام الجديد 1968 وفي طلائعه بشائر خير بموسم زراعي جيد، المزارعون إجمالاً مستبشرون وأبو كمال ضمن أولئك الناس العاملين في الزراعة.
ذات صباح وهو يوم الحادي والعشرين من شهر آذار فوجئ الناس بمروحيات العدو الصهيوني تحلق على ارتفاع منخفض حول محيط البلدة، ثم تهبط بالتتابع وتنزل الجنود في أماكن متفرقة..
كان الجيش العربي على طول الخط الحدودي يقظاً متنبهاً، وكان الباشا مشهور حديثة الجازي قائد الجبهة آنذاك في موقعه المتقدم دائماً يحفز قواته أن تكون على أهبة الاستعداد لأي طارىء، وعلى مدى الشهور المنصرمة التي أعقبت حرب حزيران كان العدو لا يلبث يشن هجمات متفرقة داخل الخط الأردني، وكثيراً ما يستهدف فصائل المقاومة الفلسطينية المنتشرة هناك.
في صبيحة ذلك اليوم قام القائد الفذ فتوضأ وأدى صلاة الفجر، ثم راح يدير المعركة فيصدر تعليماته وأوامره، وكان في وقت سابق قد وزع المصاحف على جنوده.
ضربت صفارات الإنذار، وصدرت الأوامر فوراً بالتحرك لمجابهة العدو المتغطرس، تحركت آليات الجيش وجنوده من كل المناطق القريبة باتجاه الكرامة.
في ذات الوقت تحركت الفصائل الفلسطينية الموجودة في المنطقة لمواجهة العملية العسكرية الإسرائيلية الغادرة، الجيش والمقاومة توحدت على صعيد واحد في معركة مصيرية واحدة.
وكان الضابط المناوب قد أخبر قائده بأن قواتاً معادية تعبر جسر الملك حسين وأخرى تحاول العبور من جسر الأمير محمد، فأمر باستهدافها قبل تخطي نهر الأردن وكذلك ضرب الجسور والمبادرة؛ كيلا تتمكن قوات العدو الذي حاول أكثر من مرة عبثاً إعادة بناء الجسور.
اشتعلت معارك حامية الوطيس على أكثر محاور الجبهات، استعمل فيها العدو 20 مروحية لإنزال جنوده كذلك طيرانه الحربي، بينما تصدت له مضادات الجيش ومدفعيته ودباباته في معركة مصير ودفاعٍ عن الوجود.
هدف العدو الصهيوني من عدوانه أمرين أحدهما القضاء على قوى المقاومة الشعبية التي باتت تؤرق مضاجعه من شن هجمات فدائية داخل الأرض المحتلة، والثاني محاولة احتلال مرتفعات البلقاء لكي يكون له في الأردن جولان ثانٍ كما صار له في الأراضي السورية، لكن محاولاته باءت بالفشل وتحطمت على صخرة الدفاع المستميت عن الأرض والعرض والكرامة.
في وسط بلدة الكرامة تم التلاحم؛ جنود الجيش وعناصر الفصائل والمواطنون من جانب ومن الجانب الآخر فلول جنود العدوان، حتى إنه في بعض الأماكن دار قتال بالسلاح الأبيض أبدع فيه الأردنيون والفلسطينيون على حد سواء في تلقين العدو درساً لن ولم ينسوه مابقي الاحتلال أو بعدما يزول بإذن الله..
وكان كمال مثل غيره ممن شاركوا في المعركة وقد أبلى بلاءً حسناً فيها وهو ما زال ينتظر فرصته الجهادية التي طالما تمناها، وتحققت أمنيته في هذا اليوم الأسود على إسرائيل، حيث طلبت من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار، ولأول مرة منذ نشأتها المشؤومة.
غير أن القيادة الأردنية رفضت ذلك إلا بعد جلاء آخر جندي مجرم من جنود الصهاينة المعتدين، وكان ذلك بعد ست عشرة ساعة من القتال العنيف.. انكفأ فيها العدو على وجهه وهو يسحب قواته مندحراً تحت وابل من قصف ونيران الجانب العربي، يجر معه ذيول الخيبة والهزيمة، وتحقق النصر في معركة الكرامة.. وعادت الكرامة والعزة للعرب بعد هزيمة حزيران 1967م.
وكانت معركة الكرامة معركة شرف بطولية حقيقية.
ترك العدو خلفه قتلاه وآلياته المدمرة وطائراته المحطمة أما بلدة الكرامة فقد غدت حطاماً وأطلالاً.. لكنها بقيت العزة والكرامة.
* * *
اتسمت أيام ما بعد المعركة بالهدوء النسبي، بدأت الحياة تعود إلى حالها الطبيعي، وراح الناس يمارسون أعمالهم كما كانت من ذي قبل.
ذات يوم من أواخر شهر آذار قام كمال وثلاثة من شباب الكرامة بجولة تفقدية استطلاعية للمناطق التي جرت فيها المعارك، بدءاً من سويمة قرب البحر الميت إلى الشونة حيث نصب الجندي المجهول لاحقاً إلى الكرامة مروراً بكريمة ودير علا والربيع إلى بلدة أبي عبيدة ووقاص والوادي اليابس وهو بطبيعته أخضر، تلك مناطق فيها مقامات الصحابة الكرام.. ومنها ضرار وشرحبيل.
كل اثنين امتطيا دراجة نارية، كانت جولة استطلاعية سياحية لا بأس بها، جنبات الطريق امتلأت بالحشائش منها الخبيزة وشقائق النعمان بورداتها الحمراء الزاهية.. مناظر جميلة خلابة وما زال فصل الأمطار لما يرحل بعد، وهي تهطل من حين إلى آخر فتربو الخضرة وتزداد نضارة، هناك بعض بيوت مغطاة بالبلاستيك زرعت فيها الخضراوات، وبيارات الحمضيات رائعة وبساتين الموز تبدو هنا وهناك.
مروراً بتلك المناطق كانت تتراءى له تضحيات الصحابة وبطولاتهم على ثرى الأرض الطاهرة المباركة عبر تاريخ أمجاد الإسلام.
في المساء وقبل أن يأوي إلى مضجعه جلب قرطاساً وأمسك قلماً وبدأ يخط كلمات موجهة إلى صديقه العزيز على أرض الشام، بعد السلام والسؤال عن الحال والمآل وعن الأسرة بأسرها.. راح يعرض أمام ناظري صاحبه سليم لقطات من معركة الكرامة.. فيها تضحيات وبطولات سطرها إخوة الكفاح من الجيش والشعب، ومن ثم دوّن أرقاماً موثقة عن خسائر العدو المهزوم المدحور في ذلك اليوم الأغر "يوم الكرامة"
- قتلى الصهاينة 250 والجرحى 450
تدمير 47 دبابة.
تدمير 53 آلية مختلفة.
إسقاط 7 طائرات.
وأما شهداء الجيش الأردني فهم 87
والجرحى 108
شهداء منظمة التحرير الفلسطينية 85
الجرحى 200
في ختام رسالته ذكر له شيئاً عن وضعهم الجديد، وأن والده صار مزارعاً في هذه الأرض، وبذلك يكون قد تحسن وضعهم المادي والاجتماعي، وصارت الأمور مستورة ولله الحمد والمنة.
ثم ذيل المكتوب بقوله:
- كنت علمت أن لك أختاً صبية، وإني هنا أتقدم عندك بطلب أرجو أن تساعدني فيه، وهو أن تسعى عند والدك بطلب يد كريمته المصونة لي، وكلي أمل أن يتحقق طلبي هذا وأن أكون عند حسن ظنكم بي وشكراً.. سلامي للجميع.
في غضون أيام من شهر نيسان وقد دخلت أيام الربيع المزهر جاءه الرد في كتاب من بصمات صديقه سليم:
سلام وتحية وبعد: أخي الكريم الحبيب كما أرجو أن تصلك رسالتي هذه وأنت وأهلك جميعاً بخير وبصحة وعافية، صديقي العزيز نحن نتشرف بك بأن تكون صهراً لنا، لكني أود أن أعلمك أن شقيقتي الصبية التي طلبت ولا يعز عنك طلب.. قد خطبت وزفت إلى خطيبها منذ أيام، وهذا ما كان، إن سألت عنا فنحن بخير، وكل شيء على ما يرام، وآخر الكلام سلام، دمتم في خير وإن شاء الله نراكم دائماً على أحسن حال.
أعاد تلاوة الرسالة المكتوبة مرتين ليتأكد من فحوى مضمونها، هل عيناه خانتاه، أو أخطأ القراءة للوهلة الأولى، ثم تركها تهوي وحيدة فوق المنضدة الصغيرة وقام خارج البيت، تجول في المزرعة قليلاً وأرسل ناظريه يتفقد الحقل الممتد وقد بدا زرعه أخضر يانعاً، ثم يمم شطر البيت الذي يقيمون فيه ومازال صامداً، إذ لم يطله قصف العدوان الآثم لأنه خارج البلدة.. صعد السطح بواسطة سلم خشبي جانبي.. راح يدقق النظر غرب الكرامة متخطياً الشريط الحدودي.. هناك تقع بلدته الأصلية في ريف نابلس.. هناك محبا الطفولة ومرتع الصبا.. سدد بصره بقوة وخال نفسه يتردد بين نابلس وجنين وطول كرم ومن ثم في قدس الأقداس، القدس تناديه.. والأقصى يومئ إليه ويشير.. هذا حائط البراق.. مسرى محمد .. الدفاع عن حرمته ذروة سنام الإسلام.
هو عائد يوماً ما إليه.. هناك نشأ.. وإليه يعود وإن عدنا للدفاع عن حياضه عادت إلينا كرامتنا وعزتنا
هامش على قصة (العودة إلى الكرامة).
قصة هذه القصة، لكل قصة سبب وعبرة ولكل حادث حديث.
وأما الحديث عن هذه القصة فقد كنت كتبتها في سبعينيات القرن العشرين، ومع طول المدة فقد ضاع منها ما ضاع مثل غيرها من الكتابات وبقي منها ما بقي، ضاعت صفحات وبقي منها وريقات صفراء، عندما تصفحتها وجدت النقص في البداية وكذلك في الخاتمة.. ولم تعجبني بعض فقراتها، فرحت أنسقها من جديد فنسخت الغث وأبقيت السمين، وبالأحرى أني كتبتها من جديد وبعنوان جديد (العودة إلى الكرامة) وبإضافات جمة، فجاءت على هذا النحو وقد عبرت عليها معركة الكرامة، علماً أن اسمها القديم هو (العودة).
أوائل – حزيران - 2015
وسوم: العدد 742