معركة عفرين ونظرية الأمن القومي الغائب

لم تهدأ محاولات دول الغرب الاستعماري منذ القرن التاسع عشر في تقطيع أواصل الدولة الإسلامية، وفي القلب منها الدول العربية التي تقع في موقع متميز في وسط ممرات التجارة العالمية و جبايات مستعمرات تلك الدول في أقاصي أسيا وأفريقيا ، وفتح شهيتها ضعف الدولة العثمانية في أواخر أيامها ، وزادت الرغبة أكثر بعد اكتشاف البترول في الدول العربية ، وقد عرف الغرب أهمية تفكيك الترابط الجغرافي بين الدول الإسلامية لما فيه من قوة مضاعفة يعطي العالم الإسلامي ميزة نوعية تضاف إلى رباط العقيدة التي تحتم نصرة بعضهم البعض.

فكان لزاما أن تقطع ذلك الاتصال الجغرافي للعالم الإسلامي ، فبدأت الفكرة باجتماع بين قطبي العالم وقتها في عام 1916 ممثلين في المندوب السامي البريطاني في مصر السيد / سايكس و قنصل فرنسا في لبنان السيد/ بيكو والتي رسمت فيها خطوط مثلت حدود دول الخلافة العثمانية في الشرق الأوسط ، ولم يكتفي المحتل الغربي بهذا فزرع كيان استيطاني للإمعان في تقطيع أواصل تلك الدول فكانت فكرة إنشاء الكيان الصهيوني ليفصل العالم العربي المسلم صاحب موارد الطاقة في أسيا عن ظهيره البشري في أفريقيا، عام 1948 ليقوم بهذه المهمة ، ومع تجدد فكرة تقسيم المقسم في 2006 على يد كوندوليزا رايس  وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس بوش، بعد أن نشر مركز بحوث العولمة (غلوبال ريسيرش(  مقال يتحدث عن وجوب تقسيم المقسم، بدأت مرحلة جديدة من حياة المنطقة ، بخلق قوس من عدم الاستقرار والفوضى والعنف، والذي يمتد من لبنان، إلى فلسطين وسوريا، إلى العراق، والخليج العربي، وإيران والجائزة الكبرى تكون تركيا حيث تشكل التخوم الأبعد شمالاً للشرق الأوسط، مع عدم إغفال تاريخها كمركز جامع للدول الإسلامية في فترة ليست بالقليلة من تاريخ البشر .

المشروع قائم على تحريك المجموعات الإثنية في المنطقة للمطالبة بدول يمكن بها خلق فوضى تؤدي إلى تقسيم مقسمات سايكس - بيكو وهو ما يسهل مشروع الهيمنة الغربية على ذلك العالم الرحب المليء بالخيرات .

والغريب أن دولاً ما في تلك المنطقة المستهدفة بالتقسيم تشارك في المشروع على قدم وساق ، و نخب يساهمون بكتابات مليئة بشعبوية وإقليمية ضيقة في هذا المشروع بنظرة لا تتعدى قريتهم .

فأسهم النقد الموجهة لعملية غصن الزيتون التي يخوضها الجيش التركي في عفرين الآن من قبل بعض المحسوبين على المنطقة وحضارتها هو حالة من اللا وعي باستراتيجيات الأمن القومي للعالم الإسلامي ، مع انغماس في الأنا تودي إلى غرق السفينة .

ما تحاول الدول الغربية فعله الآن هو زرع كيان استيطاني جديد في الشمال السوري على خلفية إثنية تتعدى الأيدلوجية الإسلامية الجامعة، التي استطاعت أن تصهر كل القوميات والعرقيات و الاثنيات وتخلق حالة من التعايش استمر لقرون ، والهدف الحقيقي من هذا الكيان المدعوم من دولة استعمارية كبيرة مثل أمريكا يؤكد أهداف زرع هذا الكيان .

كما أن الناظر إلى حالة الدعم السياسي الأمريكي، ناهيك عن الدعم العسكري لقوات سوريا الديمقراطية (منفذ مشروع الدولة الكردية في الشمال السوري) يفهم من أول نظرة أن هذا المشروع لم يكن ليُدعم إلا من أجل نفس الأهداف التي نشأت من أجلها دول الاحتلال في فلسطين .

الحديث عن مسارات الطاقة في منطقة  البلقان الأوراسي ، والأهمية الإستراتيجية لكبح جماح المارد التركي القادم وتقليم أظافره يطول . لكن الحديث الآن هو حديث الإستراتيجية الأمنية للمنطقة ، والذي يزود عنه الجيش التركي اليوم من خلال منع زرع كيان يقطع الطريق بين تركيا المسلمة وظهيرها العربي ، وهو المشروع الذي عملت عليه تركيا منذ تولي حزب العدالة والتنمية الحكم ، والذي فهمه الغرب ويحاول إفشاله بعزل تركيا سياسيا تارة بتأليب الحكام العرب عليه ، وجيوسياسيا تارة أخرى بإيجاد كانتون عازل يقوم بالمهمة.

تركيا تحتاج الدعم لأنها تحارب حربا كان من الواجب على العرب خوضها لمنع هتك جدار الأمن القومي العربي والإسلامي، لكن حقائق التاريخ تقول أن أخطاء الحكام يدفع ثمنها الشعوب، وأن المستعمر لم يكن ليخوض في بلادنا إلا بأخطاء حكامنا ، فإن لم تدعموا تركيا فيكفي حفظ إعلامكم عنها و كفى تغيب شعوبكم .

وسوم: العدد 756