صناعة الخرافات: لماذا يمكن أن يصدق البشر الأذكياء أشياء غبية؟
هل شعرت يوما بالدهشة لكون أحد أصدقائك أو معارفك المقربين يؤمن بفكرة غاية في الغرابة رغم عدم وجود أي دليل علمي أو منطقي يؤيدها؟ وهل تملكتك الدهشة بشكل أكبر حين وجدته يدافع عن هذه الفكرة بإصرار عجيب في الوقت الذي تقوم خلاله بتقديم أدلة علمية أو منطقية على خطئها. يحسن بك ألا تستسلم لتلك الدهشة، حيث يبدو أن جميع البشر كذلك، أو أغلبهم على الأقل. وقبل أن تبدأ في استثناء نفسك من هذه الدائرة فإنه يجدر بنا أن نخبرك ألا تفعل، فأنت أيضا لديك خرافاتك خاصة التي تبدو مثيرة للدهشة من وجهة نظر الآخرين في كثير من الأثناء.
في كتابه الذي جاء تحت العنوان “لماذا يمكن أن يصدق الأذكياء أشياء غبية” حاول الصحفي الأمريكي مايكل شيرنر البحث في كيف يشكل الناس تلك المعتقدات التي يعتنقونها. وقد وصل إلى نتيجة مفادها أنه رغم كون معظم البشر يعتقدون في أغلب الأحوال أنهم عقلانيون ومنطقيون فإن أحكامهم وقناعاتهم تتميز بكونها “حدسية” في المقام الأول أكثر من كونها علمية أو حتى منطقية. ويتشكل هذا الحدس “المعرفي” تحت تأثير البيئة ومجموعة الخبرات والتجارب غير المنتظمة التي يتعرض لها الإنسان. ويجمل “شيرمر” في أحد مقالاته الجواب على هذا السؤال في عبارة تبدو ذكية وموجزة بشكل كبير حين يقول: “يثق البشر بأشياء غبية لأنهم ببساطة بارعون في الدفاع عن معتقداتهم التي شكلوها عبر عمليات غير ذكية”.
هناك العديد من التجارب التي أجريت لاختبار تأثير الحدس على اكتساب الناس للمعرفة، وكيف يمكن أن تقوم القناعات المسبقة للمرء بإظهار مناعة واضحة حتى في مواجهة الحقائق. على سبيل المثال، ففي عام 2006، قام بريندان نيهان وجايسون ريفلر من جامعتي ميتشجان وجورجيا بتجربة مثيرة. قاما بكتابة مجموعة من المقالات تحوي معلومات وأفكارًا خاطئة بشأن قضايا موضع جدل سياسي مثل “مقال يؤكد أن الولايات المتحدة غزت العراق نتيجة اكتشافها أسلحة دمار شامل” وتم تمرير هذه المقالات على جمهور مختار تعرف توجهاتهم السياسية مسبقا، وبعد أن قرأ كل منهم المقال الخاطئ تم تغذيته بمقال صحيح يحتوي حقائق مثبتة لكنها في النهاية تدفع في وجهة النظر المضادة “لم يكن هناك أسلحة دمار شامل في العراق” بما يعني أن الحرب كانت خطأ، وبدأت مناقشة الجمهور حول المقالين.. المؤيدون للحرب مالوا إلى تصديق المقال الأول “بما فيه من أكاذيب” وشككوا في وقائع المقال الثاني.
إذا كنت تعتقد أن هذه الظاهرة مرتبطة بالسياسة نظرًا لتعلقها بالأيديولوجيا ومنظومة الأفكار المسبقة، فإن عليك أن تراجع نفسك أيضًا. قام برينان وجايسون بتكرار نفس التجربة حول قضايا أقل من أن تثير حساسية وتعصبًا مثل الموقف من الإصلاح الضريبي مثلا أو حتى دور الخلايا الجذعية، وقد جاءت النتائج التي تم الحصول عليها متطابقة بشكل كبير.
ما الذي نعتقده في هذا الصدد؟ غالبا فإننا نتعقد أنه عندما تتصادم الحقائق المثبتة مع قناعاتنا المسبقة فإننا غالبا ما نقوم بتوفيق قناعاتنا عبر إعادة دمج المعلومات والحقائق الجديدة في منظوماتنا المعرفية، ولكن في الحقيقة فإن ما يحدث هو تقريبا عكس ذلك، فإنه حين يتم طحن قناعاتنا العميقة بحقائق مغايرة فإن قناعاتنا المسبقة في الأغلب ما تكون أقوى وتدفعنا إلى رفض هذه الحقائق. في عام 2011 تعرض الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى واقعة طريفة حيث أجبرته حملة تشكيك في هويته الأمريكية من قبل بعض المهووسين بنظريات المؤامرة إلى نشر شهادة ميلاده عبر الإنترنت. الأعجب أن نشر الشهادة لم يوقف الجدل بل فتح الباب أمام حملة تشكيك أخرى في مدى صحة الشهادة ومظهرها وتوقيت إصدارها.
يميل علماء النفس إلى تفسير تعامل الإنسان مع الانتقادات وفق هذه المقاربة أيضًا. كثيرا ما يدع الإنسان كلمات الشكر والثناء تمر عليه مرور الكرام، ولكن الانتقادات غالبا لا تمر مرور الكرام. وهي تتعرض لتمحيص كبير وأخذ وردّ داخل الذهن. يرجع ذلك إلى كون البشر كثيرا ما ينفقون المزيد من الوقت في النظر في المعلومات التي تختلف مع قناعاتهم المسبقة. عندما يخبرك الطبيب بأمر سيء عن حالتك الصحية أو حالة أحد من تهتم بهم فإن التشكيك يكون هو التصرف الأقرب وغالبًا ما تقوم بإعادة السؤال وربما اللجوء لأكثر من طبيب لتأكيد الأمر، وقد يختار المرء أن يتابع مع أقلهم حدة في توصيف حالته. على النقيض، إذا أخبرك الطبيب أن الأمر على ما يرام فإنك غالبا ما تسارع إلى القبول. يعمل الأمر بما يشبه نمطًا دفاعيًا يهدف للحفاظ على ذاكرتك ومعتقداتك المسبقة. في عام 2000 حاول بعض علماء النفس دراسة تأثير فضيحة “مونيكا جيت” على مؤيدي كلينتون ومعارضيه، وقد وجدوا معظم مؤيدي كلينتون يميلون لرؤية مونيكا لونيسكي على أساس كونها امرأة غير جديرة بالثقة، كما أنهم وجدوا صعوبة في تصديق أن كلينتون يمكن أن يحنث بقسمه. في حين كان المعارضون يرون الأمور على النقيض تمامًا.
ووفقا للخبراء، فإن هذه الاستجابة المنحازة تحدث أيضًا في الوقائع التاريخية. وعلى عكس ما هو شائع فإن وفرة وسائل الإعلام وتدفق المعلومات لا يساعد البشر على تمحيص الحقائق بقدر ما يوفر لهم مجموعة واسعة من الخيارات والأفكار والمعلومات المتناقضة التي تسمح لهم باختيار ما يوافق قناعاتهم وأفكارهم المسبقة واستبعاد ما يتعارض معها بشكل كبير.
كيف تتشكل الأفكار المسبقة والقناعات الحدسية؟
إذا كان للحدس والأفكار والقناعات المسبقة هذا التأثير الكبير في تشكيل وعي الناس ورفضهم للحقائق، فربما يكون من المهم أن نتطرق إلى الطرق التي يتم من خلالها تشكيل هذا الحدس وتنمية هذه الأفكار القوية التي غالبا ما تصبح منيعة للتغيير مع مرور الزمان، وقد تمت الإشارة إلى العديد من هذه الطرق في العديد من المراجع العلمية، ومنها على سبيل المثال كتاب أشهر 50 خرافة في علم النفس.
(1) التكرار وتناقل الأحاديث
تتشكل قناعات معظم البشر من خلال تلك المعلومات والأفكار التي يتم تلقيها عبر التناقل الشفهي سواء من خلال الأسرة (الأب والأم) أو الزملاء والأصدقاء أو البيئة المحيطة. وغالبا ما يميل البشر إلى تصديق أن المعلومات أو الأفكار التي تتكرر بانتظام أو التي يعتنقها عدد أكبر من البشر غالبا ما تكون صحيحة، إلا أن ذلك ليس صحيحًا على كل حال. بل إن الأدهى من ذلك أن العقل البشري كثيرا ما يتعامل مع سماع عبارة واحدة 10 مرات من شخص واحد على أوقات متباعدة بنفس الطريقة التي يتعامل بها مع سماع ذات العبارة 10 مرات من أشخاص مختلفين. ربما عليك أن تطلق العنان لذهنك الآن ليستكشف مثلا مدى تأثير الإعلانات التلفزيونية على قناعات البشر وسلوكياتهم.
(2) الميل إلى سد الفراغات المعرفية
«إذا بدا شيء ما أروع من أن يكون حقيقيا فهو كذلك على الأرجح».. كارل ساجان
يقولون دوما أن الطبيعة تأبى الفراغ. وغالبا ما يعجز البشر عن التكيف مع تلك الأمور أو الظواهر التي تكون غير مفهومة إليهم، لذلك فإنهم يميلون إلى البحث غالبا عن أبسط التفسيرات وقبول أكثر الأجوبة سهولة. لذا فإن البشر غالبا ما يتمسكون بتلك الوسائل التي تعدهم بتغييرات سريعة وغير مكلفة. مثل خطط إنقاص الوزن بدون تنظيم غذائي وبدون رياضة أيضًا، وبرامج التدريب على النجاح في الحياة وجني المال خلال ساعات أو أيام، وغالبا ما تسهل هذه الحقيقة ظهور الكثير من العلوم الزائفة والتجارية غير المستندة إلى قواعد علمية متينة بقدر ما تستند على رغبة في استغلال رغبة البشر في الحصول على إنجازات كبرى دون دفع تكلفة مناظرة.
(3) الإدراك الانتقائي
كما ذكرنا سابقا، فإن البشر غالبا ما يميلون إلى فهم العالم وفق معتقداتهم الموجودة سلفًا، وهو ما يطلق عليه عالم النفس لي روز مصطلح “الواقعية الساذجة”. تخبرنا هذه الحقيقة أن البشر غالبا ما يميلون إلى إدراك وقائع وأحداث بعينها من أجل البرهنة على صحة قناعات أو منظومات معرفية بعينها، في مقابل إسقاط الوقائع الأخرى التي تتصادم مع هذه المنظومة على الرغم من أنها يمكن أن تكون أكثر وفرة.
هذا النموذج أعلاه يصلح في تفسير كيفية حدوث عملية الإدراك الانتقائي. جميع أحداث الحياة يمكن ترتيبها في جدول كالسابق. على سبيل المثال يميل الشباب بشكل عام إلى تصديق أن عدم الحصول على شهادة جامعية يعني فرصًا أفضل في النجاح في مجال ريادة الأعمال استنادا إلى تجارب رواد أعمال مثل بيل غيتس ومارك زوكربيرغ. ولكن تمحيص هذه القناعة معرفيا يحتاج إلى إخضاعها للنموذج السابق. بحيث تمثل خانة أ عدد رواد الأعمال الناجحين الذين لم يحصلوا على شهادات جامعية، وتمثل خانة ب عدد غير الحاصلين على شهادات جامعية ممن لم ينجحوا في مجال ريادة الأعمال أو لم يمارسوه أصلا، في حين تمثل خانة ج عدد رواد الأعمال الناجحين الذين حصلوا على شهادات جامعية، وأخيرا تشير خانة د إلى عدد من حصلوا على شهادات جامعية ولم ينجحوا في مجال ريادة الأعمال. تخبرنا نظرية الذاكرة الانتقائية أن الناس يدفعون إلى التركيز على رصد حالات خانة أ وإهمال باقي الخانات الثلاث ما يجعل إدراكهم يتشكل عبر معلومات منقوصة أو غير دالة من الناحية الإحصائية.
(4) استنتاج علاقات سببية من الأحداث المرتبطة
لا يعني حدوث أحداث ما في توقيتات متزامنة أن هناك علاقة سببية تجمع بينها، وإن كان البشر يميلون بسهولة إلى تصديق ذلك الأمر. إذا كان لدينا حدثان أ وب يقعان في وقت واحد أو في توقيتات متقاربة وبشكل مستمر، فإن أحدهما قد يكون سببا للآخر أو أن هناك حدثًا ثالثًا “ج” يؤثر على كل منهما. يطلق على هذه الظاهرة “معضلة المتغير الثالث”. على سبيل المثال فإن إصابة شخصين من أسرة واحدة بمرض ما لا يعني بالضرورة أنه انتقل من أحدهما للآخر، بل قد يعني أن كلا منهما تعرض لأمر تسبب في إصابته بالمرض. كذلك لا يعني حدوث كوارث متتابعة في منطقة ما أن لها نفس الأسباب.
(5) التعرض لعينة منحازة
يميل الكثير من البشر لاعتبار ردود الأفعال والاستجابات التي تحدث في محيطهم معبرة عن ردود أفعال واستجابات معظم البشر، وفي حقيقة الأمر فإن ذلك لا يبدو حقيقيا. فالوسط المحيط بكل إنسان هو عينة منحازة وراثيا واجتماعيا وأيديولوجيا وسياسيا بشكل كبير. على سبيل المثال، فإن الشخص قد يعتقد أن معظم الناس يحملون توجها سياسيا بعينه (تأييد أو رفض حزب أو موقف سياسي ما) نتيجة لكون هذا الموقف ساد في دائرته القريبة اجتماعيا أو عمريا، ومن الطبيعي أن ذلك لن يكون صحيحًا بشكل كبير.
(6) التأثر بالطرح غير العلمي لوسائل الإعلام وخاصة السينما
غالبا ما يشار إلى هذه الظاهرة بالتنميط. غالبا ما يميل الإعلام، والسينما على وجه الأخص؛ إلى إظهار مجموعات معينة من البشر بخصائص معينة قد لا تكون دقيقة بشكل ما. قد يتم هذا الأمر بشكل غير واع وقد يتم بشكل واع بهدف تحسين صورة مجموعة ما أو وصمها. المثال على الحالة الأولى، حيث يتم التنميط بشكل غير واع، هو تصوير شخصية البشر المصابين بالتوحد في السينما على أساس كونهم دوما يتمتعون بقدرات عقلية خارقة مثل فيلم “رجل المطر” لداستن هوفمان، أو “اسمي خان” لشاروخان، أو حتى “عقل جميل” الذي يحكي قصة العبقري الاقتصادي جون ناش. والحقيقة تخبرنا أنه إذا كان هناك بالفعل من المصابين بالتوحد من يتمتعون بقدرات عقلية خارقة، فإن نسبتهم لا تتخطى بحال 10 في المائة من إجمالي نسبة المصابين بالتوحد.
يتم التنميط أحيانا بشكل واع أو متعمد، مثل تصوير العربي في السينما دومًا على أنه شخص شرير باستثناءات نادرة، وهو ما رصده البروفيسور جاك شاهين في كتابه “العرب الأشرار” الذي تناول فيه صورة العربي في السينما الأمريكية. ومثله الصورة النمطية التي ترسمها السينما العربية، والمصرية بوجه خاص؛ للأشخاص ذوي التوجه السياسي الإسلامي مثلا.
(7) تحريف الحقائق
الكثير من القناعات الخاطئة الراسخة في الذهن غالبا ما يكون مَنشؤها قناعات صحيحة تعرضت إلى التحريف والتهويل. مثل مبدأ أن وجود اختلافات بين البشر هو أمر فطري وضروري للتعايش الآمن في الحياة، وهو ما تطور إلى قناعة “مغلوطة” مفادها أن الأضداد تتجاذب وأن البشر المختلفين ينجذبون إلى بعضهم البعض، في حين أن التجربة أثبتت أن البشر كثيرا ما يكونون أكثر انسجامًا مع أولئك الذين يحملون أكبر قدر من الصفات المشتركة معهم.
(8) الاستخدام المغلوط والمتباين للمصطلحات
يعد سوء توظيف المصطلحات واستخدامها في حقول دلالية مختلفة من أشهر الأخطاء في النمط المعرفي البشري. مثل اعتياد غير المختصين اعتبار أن المصابين بالفصام هم أناس يحملون شخصيتين مختلفتين تتبادلان في ما بينهما، في حين أن الفصام يشير، بشكل اختزالي؛ إلى أولئك الأشخاص الذين يعانون اضطرابا بين أفكارهم ومشاعرهم، وهو نوع من الاضطراب النفسي غير المتعلق بالهوية أو الشخصية. ويشيع هذا الخطأ المعرفي بشكل كبير في حقول السياسة والاجتماع.
لماذا يعجز البشر غالبا عن تصويب مدركاتهم؟
غالبا ما تستخدم مقاربة دانييل كانيمان (عالم نفس أمريكي إسرائيلي)، في تفسير هذا السلوك على المستوى الفردي. اهتم كانيمان بتفسير طريقة معالجة المعلومات الجديدة في الدماغ. في كتابه الأشهر “التفكير بسرعة وبطء” يشرح كانيمان ببساطة أن هناك وضعيْن لمعالجة المعلومات: وضع سريع حدسي غالبا ما يطلق الأحكام بسرعة وفق المعتقدات المسبقة، ونظام بطيء يفترض أن وظيفته هي إعادة النظر في مخرجات النظام السريع ومعالجتها بشكل منطقي.
أغلب الناس يكتفون بالنظام السريع ويتم تعطيل نظام التمحيص، وخاصة في حالات الصراع الشديد ووجود أفكار مسبقة قوية. الأدهى من ذلك أن هذا النظام وبمرور الوقت تتغير طبيعته، فبدلا من أن يكون ناجحًا في تمحيص الأحكام السريعة وفق الحقائق والبراهين المنطقية، فإن وظيفته تتحول إلى ما يشبه التبرير (Justification) للأحكام المتعجلة التي تم اتخاذها وفق النظام السريع. ببساطة فهو يقوم بعقلنة ومنطقة القرارات والأفكار الخاطئة وحشد المبررات التي تجعل منه قرارا مقبولا من الناحية المنطقية عبر انتقاء المعلومات المتوافقة واستبعاد المعلومات غير المتوافقة. النتيجة أنه في الوقت الذي يعتقد فيه معظم البشر أنهم يمارسون تفكيرا علميا ويسوقون أدلة برهانية، فإن أحكامهم وقراراتهم غالبا ما تكون انفعالية وحدسية بشكل كبير.
وسوم: العدد 765