هل الديمقراطية هي حكم الشعب بالشعب؟
لم يبلغ التاريخ نهايته، وهو ما يفرض مراجعة المفاهيم وفحص التجارب ونقد التطبيقات دون الاستسلام لإغراء الشعارات البرّاقة. إنّ أخذ الديمقراطية على محمل الجد لا يكون بإعفاء مفاهيمها وتطبيقاتها وتفاعلاتها من النظر الذي لا غنى عنه لإصلاحها وتطويرها بدل الرضوخ لنزعة تحصينها التي تهددها بالتكلّس والتحجّر.
"حكم الشعب بالشعب"
من المألوف تقديم الديمقراطية بصفتها "حكم الشعب بالشعب"؛ استنادا إلى أصل المصطلح الإغريقي الذي يعني "سلطة الشعب". لكنه يبقى مفهوماً مجازياً؛ فالشعب لا ينهض في الأنظمة الديمقراطية بالحكم مباشرة، بل يجري هذا عبر ممثلين يُفترَض أنّ الشعب هو مَن ينتخبهم بموجب الديمقراطية التمثيلية. وغالبا ما يكون هؤلاء في واقع الحال ممثلي أحزاب أو قوائم انتخابية وإن حملوا وصف "نوّاب الشعب".
وإن انبثقت هذه الأحزاب عن تفاعلات واصطفافات في أوساط شعبية، فإنّ هذه الحقيقة وحدها لا تقطع بتعبير الأحزاب والنواب المنتمين إليها، عن إرادة الشعب على نحو مباشر، فالأحزاب ذاتها تطوّرت بصفة أطر وتشكيلات قائمة بذاتها تحمل تصوّرات ورؤى من شأنها أن تسعى لكسب تأييد الجمهور وتعبئته في اتجاه خيارات محددة. وتتذاكى بعض التشكيلات التي تحظى بصعود انتخابي جارف لنفي صفتها الحزبية بمحاولة التمسك بوصف جماهيري، كما في حالة "حركة خمس نجوم" التي تصدّرت الانتخابات الإيطالية (2018) وظلّت ترفض وصفها بالحزب.
إنّ الطابع المجازي لمقولة "حكم الشعب بالشعب" مؤهّل لأن يترك انعكاسات شتى في واقع الممارسة الديمقراطية. من ذلك أنّ تقاليد الأنظمة البرلمانية، على تفاوتها في هذا الشأن حسب البيئات الغربية المتعددة مثلا، تقضي بأن يجري تصويت النواب بصفة إلزامية أو شبه إلزامية مع اختيارات أحزابهم أو كتلهم النيابية.
يحدّ هذا النظام من تأثير نائب اختاره الشعب وسيكون عليه الانصياع لاختيار كتلته البرلمانية، وهو ما يُنشئ إشكاليةً في مستوى المسؤولية الفردية للنائب، وقد يتصادم تصويتُه أحيانا مع رأيه أو ضميره، وإن كانت بعض التقاليد البرلمانية تترك هوامش نسبية للنوّاب في مسائل محددة كي يستقلّوا بالرأي والتصويت عن كتلهم. تتفاقم الحالة إن انتمى النائب إلى حزب مشارك في الحكومة أو متشكّلة منه بالكامل؛ فعندها سيضمحلّ دوره في مراقبة أداء السلطة التنفيذية ومساءلتها ونقدها أو لوْمها، وقد يقع ما يعاكس ذلك من نوّاب أحزاب المعارضة الذين يمارسون المناوأة بصفة تلقائية - غالبا - طبقا لاصطفافاتهم الحزبية.
من شأن هذه الملابسات أن تُضعِف دور البرلمان وتحدّ من مصداقية نقاشاته، وقد يؤول إلى منبر لشرعنة قرارات الحكومة وسط نقاشات موالية بشكل تلقائي لهذه القرارات أو معارضة لها بصفة غير موثوقة. وواقع الحال أنّ المجالس النيابية، أو البرلمانات؛ لديها فرص محدودة للتغيير السياسي بصفة مستقلة عن الحكومة. ولما كانت الحكومة تتشكّل من حزب الأغلبية، أو ائتلاف الأحزاب التي تشغل معظم المقاعد النيابية؛ فإنّ ذلك يعني أنّ البرلمان مرتبط بدرجة ما بالحكومة، أو هو تابع لها بدرجة في مستوى صناعة القرار، وأنّ فكرة الفصل بين السلطات، أو بين السلطتين التشريعية والتنفيذية على نحو خاص؛ تبدو من هذا الوجه جديرة بالشكّ.
بين تمثيل الشعب وتمثيل الأحزاب
تطوّرت النظم البرلمانية في أوروبا تعبيرا عن الحرص على مشاركة الشعوب في صناعة القرار. وتخوض الأحزاب والقوائم الانتخابات عبر حملات محفوفة بشعارات وبرامج، ثم تتوزّع المقاعد النيابية عبر الاقتراع. وإن دخل النوابُ البرلمانَ بصفة ممثلي الشعب فإنهم بالأحرى ممثلو أحزابهم وقوائمهم، أو ممثلو أنفسهم إن كانوا مستقلين، دون أن ينفي هذا تمثيلهم إرادة شعبية ما من خلال ذلك. وعموماً؛ ينحسر دور الشعب بعد جولة التصويت القصيرة نسبيا فتتسيّد المشهدَ القوى السياسية والسياسيون في معظم الأوقات.
لا يُتوقّع من المواطنين أن يحوزوا منسوب المعرفة والخبرة ذاتها التي تحظى بها "الطبقة السياسية"، بما فيها أولئك الذين يشغلون مواقع البرلمان، وهو واقع يمنح السياسيين امتيازات مريحة نسبيا في "تسويق" قراراتهم لدى الشعب مع إطلاق مزيد من الوعود الانتخابية في جولات اقتراع لاحقة. وإن كان النائب مفوّضا من الشعب بتمثيله؛ فإنه تحت سقف البرلمان يتولّى تمثيلَ حزبه بتفويض شعبي مع تفاوت في مدى اقترابه من شرائح الجمهور.
وحتى في السلوك التصويتي فإنّ أنظمة معظم البرلمانات الأوروبية وتقاليدها تقضي بطمس إرادة النائب لصالح إرادة الحزب، فعلى النائب في غالب الأحوال أن يصوِّت وفق ما قرّرته كتلته النيابية وإن عارض قرارها. وإن كان الحزب الذي تتبعه الكتلة هو الذي شكّل الحكومة أو اشترك في تشكيلها؛ فإنّ السلوك التصويتي سيأتي متناغماً مع الحكومة ويتحاشى نقدها أو معارضتها. وتغدو كثير من المداخلات البرلمانية لنواب الموالاة الحكومية بمثابة مرافعات دفاعية عن أداء السلطة التنفيذية أو ترويجية لها دون أن يخلو من نقدٍ مُتذاكٍ. وإن تموْضَع الحزبُ خارج التشكيلة الحكومية؛ فسيُنتظر من مرافعات نوّابه أن تعبِّر مباشرة عن نقد صارم ومعارضة مستمرّة ومناوأة لا تكلّ.
يقوم البرلمان بشرعنة قرارات الحكومة التي تضمن، عادة وبشكل تلقائي، وقوف البرلمان إلى جانبها خلال عملية التصويت لأنها تسيطر أساسا على معظم مقاعده التي تحسم جولات التصويت النيابي. أما منصّة الحديث البرلمانية فتأتي عبرها بلاغاتٌ خطابية ومرافعات لفظية مكرّسة، عمليا، لتسويق أداء الحكومة أو لمناوأتها بلا هوادة، بما يعزِّز انطباعات تقليدية ترى في البرلمان منبر خطابة وتجاذبات لفظية أساسا.
وتبقى الديمقراطية النيابية أو التمثيلية محفوفة بإشكاليات عدة في واقع التطبيق، فمن مقتضياتها العملية أنّ مرجعية الجمهور تبقى محدودة وموسمية، خاصة إن ظلّ التعامل مع الاقتراع على أنه تفويض للطبقة السياسية كي تواصل تقاليدها.
هل الديمقراطية المباشرة أفضل حالا؟
يعلن سياسيو الديمقراطية عن حرصهم على "العودة إلى الشعب"، فيطلبون من الشعب إبداء رأيه في اختيار ممثليه وتنصيب حكومته أو أن يبتّ في مسائل معيّنة عبر استفتاءات مثلا. وإن عُدّ فعل الانتخاب والاقتراع التعبير الأوضح عن "الديمقراطية المباشرة"؛ فإنه تعبير نسبيّ على أي حال ولا يخلو من إشكالية مفهومية.
صحيح أنّ الاستفتاءات الشعبية تتيح للمواطنين المشاركة المباشرة؛ إلاّ أنّ هذا النمط تحفّه إشكاليات منها أنّ التصرف الجماهيري قد يخضع لوعي زائف يقود إلى اختيارات لا مصلحة فعلية للجماهير بها. وليس نادرا أن يتمّ تضليل الجماهير عبر حملات منظّمة ومساعٍ تواصلية فعّالة بما يدفعها إلى اختيارات معيّنة. والمجتمعات التي يُطلَب منها المفاضلة بين خيارات محدّدة؛ قد لا تحوز المعرفة الوافية أو الخبرة الكافية بشأن ما يتمّ الاقتراع عليه، وقد تندفع إلى تفضيلات مرسومة متوقعة سلفا تحت وطأة العواطف والهواجس والقوالب النمطية والأحكام المسبقة فضلاً عن مفعول الشحن والتعبئة والقلق الجارف والمخاوف الساذجة.
من المبالغة الجزم بأنّ "العودة إلى الشعب" عبر التصويت في مواسم الانتخابات، أو من خلال الاستفتاءات الشعبية، هي عملية شفّافة حقا. فالشعب يستجيب لمواقفه وتحيّزاته، ويقينه أو عدم يقينه، كما يعبِّر عن آماله ومخاوفه. وفي هذه الملابسات قد تكون المضامين الإعلامية والدعائية شريكا في الاقتراع، وقد يبلغ بها الموقف حدّ أن تُملي على الناخبين اختيارات معيّنة. وهي أدوار ينهض بمثلها حشد الخبراء والمعلِّقين من حصون الفكر Think Tanks الذين يمتهن بعضهم تعبئة الجمهور بقناعات مضلِّلة أو إذكاء المخاوف وإثارة الهلع. ويبقى لكيفية إحساس الجماهير بالواقع أثره في سلوكها التصويتي، وهو إحساس انطباعي لا يعبِّر عن وعي أمين دوما؛ بل قد يكون وعيا زائفا.
إنّ معضلة "الديمقراطية المباشرة" أنها تطلب من جمهور قد لا يملك الإحاطة الوافية بالمسائل أن يقرِّر وجهة غير واضحة العواقب، وهو جمهور تسعى الدعايات الحزبية وحملات التعبئة وتأثيرات الأطراف التي تدّعي الخبرة، أن تستميله أو تؤثِّر على قراره، وهو ما يجعل مواسم الاستفتاءات، عادة، حافلة بالتأجيج والإثارة.
لا ينفي ذلك ما تحوزه "الديمقراطية المباشرة" من فضائل وفوائد، لكنها قد تُفضي إلى انتكاسات جسيمة استراتيجيا وأخلاقيا. فخلال لحظة معيّنة؛ يّطلب من جمهور غير متمكِّن من الحقائق وغير مدرك للسياقات أن يحسم في مسائل بعينها، بتأثير أحكام مسبقة وتجاذب التأثيرات وإدراكات انطباعية للواقع والمجريات. ولا تعني هذه الاختلالات أنّ البديل عن نظام الاستفتاءات هو أفضل منه.
تصويت الأغلبية على حقوق الأقلية
تتدهور الديمقراطيات إن رضحت لإغراء التصويت على مسائل تتعلّق بمبادئ وقيم أساسية، أو بحقوق وحريات، فضلاً عن شؤون تتعلّق بالأقليات وحقوقها وامتيازاتها. إنّ استدعاء "مجتمع الأغلبية" للتصويت على ما يدخل ضمن حقوق "أقلية" ما؛ هو مسلك فائق التعسّف من حيث المبدأ، وهو كفيل بالانتقاص مما تواطأت عليه مجتمعات الحاضر من حقوق وامتيازات، علاوة على أنه مؤهّل لأن يمسّ بقيم أساسية مثل المساواة وتكافؤ الفرص والحريات الدينية والشخصية.
قد تُنذِر "الديمقراطية المباشرة" بطمس أخلاقيات الديمقراطية عبر الدفع باستفتاءات تتعارض مع حقوق أساسية وحريات جوهرية يُفترَض أن تبقى مُصانة من المساس. فما الذي سيبقى من الحقوق الدينية والثقافية لمكوِّنات لا تشكِّل الأغلبية؛ إن تمّ الاستفتاء الشعبي عليها تدريجيا؟ إنها خبرة حديثة في أوروبا كما اتضح في استفتاء شعبي على حظر المآذن في معقل "الديمقراطية المباشرة". إنها سويسرا، البلد الأبرز في مجال الاستفتاءات الشعبية، ففيه تكفي عريضة تحمل توقيعات مائة ألف مواطن للذهاب إلى استفتاء شعبي، وهو امتياز يُغري أصوات التأجيج والشقاق المجتمعي باستعماله زيادة على ما يقع في الديمقراطية التمثيلية من تعبئة وشحن يراهنان على التلاعب بهواجس الجمهور.
وإن بدت "الديمقراطية المباشرة"، أحياناً، تجسيدا لمستوى متقدِّم من التجارب الديمقراطية التي "تحتكم إلى الشعب"؛ فإنها قد تنطوي في واقع التطبيق على أزمة جسيمة للمشروع الديمقراطي ذاته، لأنها تمنح في العادة فرصاً أفضل للقوى الشعبوية التي تتولى إثارة الجماهير وبثّ المخاوف وإشاعة الأحقاد وشقّ صفوف المجتمعات وهو ما يجعلها الخيار المفضل لأقصى اليمين.
تبدو "الديمقراطية المباشرة" اليوم قادرة على تقويض مكتسبات تراكمت في سياق تجارب ديمقراطية راسخة، حتى أنّ مشروع الوحدة الأوروبية الذي أنضجته ديمقراطيات عريقة ويَعتبر الديمقراطيةَ ركيزة له؛ يواجه مخاطر جسيمة مبعثها إمكان التوسّع في اللجوء إلى أدوات "الديمقراطية المباشرة" في تقويضه من داخله، عبر خيار الاستفتاءات الشعبية على بقاء الدول الأعضاء في نطاقه.
فمنذ أن حسمت نسبة طفيفة للغاية من الناخبين البريطانيين في سنة 2016 مسألة عضوية بلادهم في الاتحاد الأوروبي تحت تأثير تدليس واضح في المعطيات؛ أصبح التلويح بالاستفتاءات الشعبية التي تتعجّل مفارقةَ أوروبا الموحدة تهديدا فعليا لمشروع استمرّ بناؤه أكثر من نصف قرن. وليس مفاجئا بالتالي أنّ أكثر ما يثير هلع مسؤولي الوحدة أن تلجأ الأمم الأعضاء إلى صناديق الاقتراع كي تقرِّر بشأن بقائها في الأسرة الأوروبية.
معضلة المشاركة الشعبية
يُفترَض بالنظام الديمقراطي أن ينهض على مشاركة مكوِّنات الشعب فيه، وأن تتحقّق فيه مفاوضة مجتمعية تنخرط فيها أطراف متعددة تتولّى تمثيل اهتمامات المكوِّنات والطبقات والشرائح والقطاعات. وتتمّ المشاركة الشعبية هذه عبر الآليات الديمقراطية العامة ومنها الانتخاب والتمثيل النيابي والاستفتاءات، ومن خلال أطر وتشكيلات تعبِّر عن رؤى هذه المكوِّنات ومصالحها. ومن هذه الأطر والتشكيلات تأتي الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني وحصون الفكر والمؤسسات المختصة بالتواصل التأثيري (اللوبي) وما يُعرف بجماعات المصالح عموماً.
ولا يُضمَن في النظام الديمقراطي أن تجري المفاوضة المجتمعية على قاعدة تكافؤ الفرص بين المكوِّنات، لأنها عملية متأثرة بتوازنات الأطراف وامتيازاتها وقدراتها وما تحظى به من نفوذ وموارد. وقد يبلغ الأمر حدّ المخاطرة بحقوق بعض المكوِّنات إن لم تَحُز قدرات كافية على المشاركة الفعّالة، ويتضح ذلك - مثلاً - عندما تندفع "الأغلبية" للتقرير فيما يتعلّق بـ "أقلية" ما، لا سيما إن كانت "أقلية" محدودة الإمكانات.
ثمّ إنّ المشاركة حالة تفاعلية متبادلة تتطلّب ضمانات وبيئة مشجِّعة، وقد يعجز نظام ديمقراطي بعينه عن استيعاب مشاركة فئات معيّنة فيه، خاصة مع المجموعات المجتمعية المتشكلة حديثا بفعل الهجرة، أو التي كانت مُستَبعدة من الحياة العامة. وقد تنطوي الحالة القائمة على إعاقات وصعوبات تعترض مشاركة فئات بعينها، مثل حرمان مكوِّنات من التصويت أو الترشّح في الانتخابات البلدية - مثلا - بدعوى عدم حيازتها المواطنة، رغم أنّ السياسات والقرارات المحلية والبلدية في المقام الأول، يقع تأثيرها المباشر على السكّان جميعا وأنهم يتشاطرون تمويل الأنظمة المحلية والبلدية عبر الضرائب والرسوم المقرّرة. أي أنّ مبدأ التصويت للجميع يغيب فعليا إن تمّ استثناء مكوِّنات معيّنة منه.
ولا يصحّ إعفاء النظام السياسي من مسؤولية تحفيز المشاركة السياسية لمكوِّنات المجتمع أو تثبيطها. وتحوم الشكوك في أوساط أوروبية حول فعالية فرص المشاركة السياسية لعموم المواطنين، وعبّرت عن ذلك أصوات اقترح بعضُها حلولا، وأفصح آخرون عن نبرة يائسة قد تبدو متطرفة أحيانا؛ إزاء واقع المشاركة الشعبية في البيئات الأوروبية، خاصة مع ضعف مواكبة تقاليد الحياة الديمقراطية للتشبيك التقني والتواصل الجماهيري الجديد.
ونتيجة لمعضلة المشاركة هذه؛ فإنّ التنوّع الذي ينطوي عليه الواقع المجتمعي في البلدان الأوروبية وفي غيرها غالبا؛ لا ينعكس بالدرجة المماثلة من التنوّع في ساحة المشاركة المجتمعية والسياسية، وتبدو المستويات السياسية العليا أكثر تجانسا ولا تعكس التنوّع المجتمعي. وتضطلع فرص الصعود ومعايير الاصطفاء ومؤهلات البروز المجتمعي والسياسي؛ بأدوار حاسمة في الإبقاء على هذه الحالة، وربما تكريسها.
ومما يحدّ من تكافؤ فرص المشاركة؛ وجود بيئة حاضنة لثقافة الميْز أو أشكال من التفرقة، مع عوائق غير مرئية تحدّ من فرص صعود بعض الفئات والمكوِّنات في الحياة العامة والأدوار القيادية، أو ما يُشار إليه بمفهوم "السقف الزجاجي". كما أنّ هيمنة ثقافة محددة يتبنّاها النظام العام، رسميا أو ضمنيا؛ قد تُضعِف فرص مكوِّنات بعينها في المشاركة. ويتمّ في الحالة الفرنسية - مثلا - الاحتجاج بـ "قيم الجمهورية" في بعض سياقات الحظر والتقييد والحملات السياسية، ويبدو أنّ المكوِّن المجتمعي المسلم متضرِّرا أول من هذه النبرة، كما يظهر من حزمة قوانين وإجراءات اتخذت منحى الحظر؛ مسّت باختيارات الملابس في المدارس والفضاءات العامة ومرافق السباحة. ويشير ذلك إلى تأثير "فلسفة الأمّة" أو "ثقافة النظام العام" على واقع المشاركة القائمة لمكوِّنات محددة تبدو مستبعدة نسبيا من حظوظها.
الحق في العراك لأجل الحقوق
يغيب عن أذهان المنشغلين برفع شعارات تمجيد التجارب؛ أنّ الديمقراطية لا تمنح مكوِّنات المجتمع حقوقها كاملة، بل هي تُقرّ من الناحية النظرية بحقّ المكوِّنات بأن تتفاوض وتعترك لأجل حقوقها وامتيازاتها ومكتسباتها. يقضي هذا بأنّ ضعف قدرات المشاركة قد يضرّ بمصالح مكوِّنات بعينها وبحقوقها؛ وهذا كلّه ضمن نظام ديمقراطي أيضا.
ومن تعبيرات هذه المعضلة؛ الحثّ على الانخراط في التصويت والأحزاب والتفاعل مع الحياة العامة والمجتمع المدني؛ مع التحذير من سوء العاقبة التي تترتّب على قعود المكوِّن المجتمعي عن ذلك. من المألوف لوْم المتضرِّرين من بعض السياسات والقوانين والإجراءات وتبرير الانتقاص من الحقوق والمكتسبات التي يُفترّض أنها مقرّرة للجميع؛ وتحميلهم المسؤولية عما وقع بحقهم بدعوى أنهم تقاعسوا عن الواجب. يُقال للناخبين عادة إنّ "عدم ذهابكم للتصويت يؤذي مصالحكم!".
وبصرف النظر عن مدى دقّة هذه الأحكام التي تنطوي عليها مناشدات التصويت في المواسم الانتخابية؛ وأنها تتخطى عوامل وملابسات ذات أثر في المشاركة ومنها تحيّزات كامنة في النظام العام ذاته؛ إلاّ أنّ هذه النبرة تكشف عن قصور جوهري في عملية المشاركة ذاتها يتمثل في قابلية الإضرار بمصالح المكوِّنات الهشّة والضعيفة وحديثة التشكل، كالتي تكوّنت من خلفية هجرة مثلا أو التي تتموضع ضمن الفئات الفقيرة ومحدودة الدخل. وفي حال اختلال مُخرَجات المشاركة؛ فإنّ مناشدات التحفيز أو رسائل اللوم، كهذه، قد تُلقي باللائمة على مكوِّنات متضررة من سياسات وقوانين وإجراءات؛ لا على النظام العام الذي سمح بهذه التراجعات.
ثم إنّ بعض مفاهيم المشاركة السائدة في النظم الديمقراطية تفترض نهوض المشاركة على أرضية التجاذب والصراع، فتكون عملية المفاوضة هذه صراعية الطابع، أو أنها إدارة للصراع، بما يثير تساؤلات عن مدى الالتزام المجتمعي المشترك بقيم وشعارات يُعتدّ بها مبدئيا أو ينصّ عليها دستوريا. ويمنح هذا المنحى دورا للقدرات الرأسمالية وتراكم النفوذ والخبرة والأدوات، في تعظيم قدرات المشاركة، بما قد يعزِّز فرص طبقات ومكونات وشرائح بعينها على حساب أخرى؛ ما لم يتم اتخاذ تدابير احترازية ومعالجات وقائية أو استدراكية للموقف.
ومما يجدر الاكتراث به في هذا السياق؛ أنّ تحفيز المشاركة السياسية والمجتمعية لأي أقلية أو فئة كانت؛ لا يُركَن إلى "النوايا الحسنة" التي عليها مراعاة تكافؤ الفرص في المجتمع الواحد وحسب؛ بل ينبغي أن ينهض ابتداء على أرضية الوعي بجدوى تلك المشاركة ومردوداتها على تعزيز التعايش المثمر بين مكوِّنات المجتمع العريض، وتحاشي ما قد يترتّب على الانسداد من احتقان وغضب وتوترات مؤهّلة لأن تتفاقم بما لا يخدم السلم المجتمعي.
جودة الديمقراطية في ظلال الرأسمالية
تشغل الرأسمالية حيِّزاً من النفوذ المستقل عن السلطة المباشرة، لكنها ليست بمنأى عن النظام العام الذي تُعدّ في أممها من ركائزه وتعبِّر عن جوانب من فلسفته وثقافته وتتيح له قسطا من أدواته، علاوة على دورها في دعم بعض مكوِّناته أو اتجاهاته. ورغم شغلها هذه المساحة ونهوضها بهذه الأدوار والتأثيرات؛ فإنها لا تخضع للمساءلة والمحاسبة على النحو الذي يتمّ مع مؤسسات السلطة ذاتها في النظام العام، بل تتركز مراجعتها في نطاق الالتزامات المادية والعوائد الجبائية وربما في المنسوب الاحتكاري؛ لا فيما تحظى به من أدوار فعلية ونفوذ متعدد الأشكال.
ومن أبعاد المعضلة أنّ النظام الرأسمالي يحدّ من استقلالية الصحافة والإعلام وإن حرّرهما من "القطاع العام"، بما يعيق نهوضهما ببعض الأدوار المُنتظرة منهما في النظام الديمقراطي. ولا يقتصر النفوذ على القطاع الإعلامي الخاص؛ بل يتجاوزه إلى التمويل الإعلاني وأشكال الدعم المتعددة التي ينهض بها القطاع الخاص إزاء وسائل الإعلام المتعددة.
لا يعني هذا قعود الصحافة والإعلام في بيئات رأسمالية - ديمقراطية عن أدوار نقدية؛ لكنّ الممارسة النقدية ذاتها قد تأتي مُجيّرة أو مُستغلّة باتجاهات تتوافق مع اهتمامات رأسمالية أو منسجمة مع "علاقات الإنتاج"، فلا تأتي الوظيفة النقدية مستقلّة كما ينبغي، وقد تجري على نحو انتقائي أو موجّه.
ما يزيد من تأثير العامل الرأسمالي أنه يمارس أدوارا ذات شأن في "الصناعة الثقافية" بألوانها المتعددة، وبكل تأثيراتها على الوعي الجماهيري في نظام ديمقراطي، ولا تتأتّى هذه التأثيرات من التمويل المباشر أو غير المباشر للقطاعات الثقافية؛ بل من الامتيازات التي يمنحها ويحجبها أيضاً، ومن قدرات المفاضلة وثنائية الإضاءة والإعتام، وترتيب الأولويات والدفع باهتمامات وعناوين محددة على حساب أخرى، والمساهمة في تنميط الأذواق والتفضيلات الجماهيرية. إنها جميعا تأثيرات تتركّز كثير من مفاتيحها في أيدي النفوذ الرأسمالي بما ينعكس على الوعي الجماهيري واختياراته في نظام ديمقراطي.
وإن بدا التشبيك للوهلة الأولى فرصة غير مسبوقة للديمقراطية؛ فإنّ الرأسمالية استثمرت فيه وأعادت من خلاله تضخيم حضورها، كما تجسده حالة "فيسبوك" بنفوذها السلطوي بشكل غير الشفاف، فأصبحت الرأسمالية بذاتها من يتولّى مفاتيح الهيمنة على قطاعات واسعة من المحتوى الشبكي وتفاعلاته. ليست المسألة إن كانت مراكز النفوذ هذه تُمارِس في الواقع إساءة استغلال لهذا النفوذ مع التحكّم والتأثير الموجّه؛ بل يكفي أنها قادرة على القيام بذلك بأشكال متعددة مباشرة وغير مباشرة، وهو ما يمثِّل تحديا للمجتمعات والأفراد والمجالات المتعددة؛ وليس فقط لتوازنات التداول الشبكي وديمقراطية التشبيك.
لا ينبغي لهذه التقديرات والاستنتاجات النقدية أن تُسقط النقاش في قبضة القول بتعذّر البديل الإصلاحي من داخل الديمقراطية ذاتها؛ أو بالذهاب إلى أنّ البديل هو في خيارات ساذجة من التحكّم السلطوي الشمولي أو في الارتكاس إلى نماذج من السلطات المتوارية عن الأنظار بدعوى منح الجماهير السلطة. وما ينبغي التنبّه إليه، أيضاً، أنّ المقاربات الإصلاحية لا ينبغي لها أن تُغفل قدرة الرأسمالية على ملء بعض الفراغات التي تُخليها الدولة، وأنها قادرة على التعبير عن ذاتها حتى من مواقع المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية.
وسوم: العدد 769