في مواجهة الإبادة
جاء بحر الدم أمام سياج غزة ليذكّرنا بأن مسيرات العودة لم تبدأ اليوم، بل هي مسيرات لم تتوقف منذ سبعين عاماً، فالعودة ليست فقط حلماً أو حقاً قانونياً يمكن المطالبة به، بل هي جزء لا يتجزأ من الحياة اليومية الفلسطينية في المنافي والشتات.
شهدت إسرائيل منذ قيامها عام 1948، موجات من التسلل ومحاولات التسلل. ولقد سبقت عبارة المتسللين جميع الكلمات اللاحقة التي أنتجتها إسرائيل لوصف الفلسطينيين ككلمتي مخربين وإرهابيين. إذ بدأ مع تأسيس الدولة العبرية فصل جديد من القتل اسمه قتل المتسللين. ورغم ذلك فقد نجح حوالي 20 ألف متسلل في عبور الحدود وعادوا إلى وطنهم تسللاً وسيراً على الأقدام في الجبال، وحين وصلوا إلى قراهم اكتشفوا أن معظمها هُدم وجُرف، فلجأوا إلى قرى مجاورة حيث أقاموا كغائبين- حاضرين، قبل أن تجد الدولة الصهيونية نفسها مجبرة على الاعتراف بوجودهم ولو على مضض.
مسيرات العودة في غزة، جاءت كإشارة دموية لتذكيرنا بأن العودة حق لا يسقط بالتقادم، لكنها لعبت اليوم، وسط الاحتفالية الأمريكية – الإسرائيلية بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس دوراً جديداً يحمل ثلاث دلالات:
الدلالة الأولى هي أن الدولة العبرية أعلنت تحولها العلني إلى دولة تمييز عنصري، أبارتايد، بكل ما تحمله هذه العبارة من دلالات.
كما أشارت إلى أن غزة المحاصرة بالنار والقهر والفقر، تحولت إلى الغيتو الأكبر في التاريخ المعاصر. غيتو يُعزل من الخارج ويُقصف وتُدمر مناطق فيه بين الحين والآخر، كأن التيار الديني القومي الإسرائيلي الحاكم قرر أن ينقل التجربة المأسوية التي عاشها اليهود في غيتو وارسو إلى غزة. صحيح أن الإسرائيليين لم يستخدموا سلاح أفران الغاز، مثلما فعل المجرم النازي، لكنهم يستخدمون جميع الأسلحة الأخرى التي تعلموها من الفاشيين والنازيين.
هذه الدلالة التي بُنيت مؤشراتها ببطء وطوال سبعين عاماً من الممارسات العنصرية الصهيونية، تكتمل اليوم في بناء أيديولوجي وعسكري لغته دينية فاشية، وأداته الوحيدة هي القمع العاري.
لقد سكرت إسرائيل بقوتها العسكرية والاقتصادية، وازدادت وقاحتها في زمن اليمين الأبيض الأمريكي، وهي اليوم تفيض عنصرية ودموية تجاه الفلسطينيين الذين لا تراهم إلا كغائبين أو قتلى.
الدلالة الثانية هي نكبة العرب بالعرب. لن أستخدم لغة العتاب والنواح التي ألفناها طويلاً، والقائمة على فكرة مبتذلة تقول أن الفلسطينيين فوجئوا هذه المرة، كما في المرات السابقة، بالتخلي الرسمي العربي عنهم.
هذه اللغة انتهت، ويجب دفنها، فالتساؤل عن السبب الذي منع دولاً عربية تقيم علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل من التصرف كجنوب أفريقيا وإيرلندا وتركيا، عبر سحب سفرائها من إسرائيل، لا معنى له.
السؤال يقع في مكان آخر مفاده الصريح هو المصلحة المشتركة التي تجمع إسرائيل والنظام العربي في إخراج الشعب الفلسطيني من المعادلة. هذه المصلحة ليست وليدة الصراع السنّي – الشيعي، أو نتيجة التمدد الإيراني في المنطقة، ( فهذان العاملان سمحا للحقيقة بأن تنكشف بوقاحة سافرة) بل تعود في جذورها إلى حرب النكبة عام 1948، التي كانت حرباً من أجل تقسيم فلسطين، عكس ما يقوله التاريخ الرسمي العربي لهذه الحرب. من الاتفاق السري بين إمارة شرقي الأردن والحركة الصهيونية عشية الحرب، إلى ضم الضفة الغربية الى الأردن وطرد حكومة عموم فلسطين من غزة.
هذا التواطؤ العربي – الصهيوني القديم، الذي يشكّل العجز العربي جزءاً تكوينياً منه، كان هدفه حماية الأنظمة من السقوط لا أكثر. ومع هزيمة 1967 وفشل حرب 1973، صارت حماية الأنظمة هي الممر الذي قاد المشرق العربي بأسره للسقوط في نكبته الجديدة الكبرى، بحيث تحولت النكبة من مسار فلسطيني إلى عصر كامل سوف يطلق عليه المؤرخون اسم نكبة العرب بالعرب. وهي نكبة سوف تكون آثارها أكثر إيلاماً من الكارثة التي تعرض ويتعرض لها الفلسطينيون، لأنها مشروع همجي قاده الاستبداد والمافيات وأنظمة البؤس النفطي من أجل تحويل احتمالات الحرية إلى ركام، وإعادة تسليم المنطقة للقوى الاستعمارية.
النظام العربي لم يقصّر تجاه غزة بل أعلن حقيقته الصارخة التي لم يعد من الممكن تجاهلها، إنه نظام شريك، ولو من موقع دوني، مع الاحتلال الإسرائيلي في حرب الإبادة السياسية التي تُشن ضد الشعب الفلسطيني.
الدلالة الثالثة، هي كشف الأزمة السياسية والفكرية التي تعيشها الحركة الوطنية الفلسطينية. فبعد هزيمة الانتفاضة الثانية سقطت القيادات الفلسطينية في وهمين:
وهم السلام وإنشاء الدولة التي سوف تأتي بها التنازلات والإذعان للشروط.
ووهم المشروع الإسلامي الذي بُني على افتراض أن المقاومة المسلحة يمكن أن توصل إلى هدنة طويلة مع إسرائيل.
الافتراضان يتناسيان الحقيقة التي تجاهلها الذين هللوا لاتفاق أوسلو، وهي أن المشروع الإسرائيلي الحقيقي هو مشروع إبادة شاملة واحتلال دائم.
أي أن معركة الإبادة سوف تستمر، حتى الاستسلام لن يوقفها، فإسرائيل رفضت استسلام الفلسطينيين في أوسلو، وحين يرفض المنتصر استسلام المهزوم فهذا يعني أمراً واحداً هو الإبادة السياسية والاستعباد.
وفي هذه الحالة يصير الانقسام السياسي مجرد حجة لبناء مافيات الفساد وأجهزة طفيلية تقتات من البؤس الفلسطيني، ولعبة باتت عاجزة عن استثمار الموت الفلسطيني الكثير، في انتظار الضربة التي تعدها الإدارة الأمريكية مع شركائها الإسرائيليين والعرب.
قالت لنا غزة بدماء العائدين الذين اصطادهم قناصة الجيش الإسرائيلي بوحشية أن اللعبة الفلسطينية الداخلية انتهت أيضاً، وأن على سلطتي الضفة وغزة اللتين لا تمتلكان من السلطة سوى اسمها، أن تتوقفا عن لعبة الانقسام، وان تمضيا.
المطلوب اليوم استراتيجية لها اسم واحد هو البقاء والصمود، فالمعركة التي بدأت عام 1948، مستمرة ولن تتوقف، وهي معركة طويلة ودموية ومكلفة جداً، لكن لا خيار أمام الفلسطينيين سوى الصمود والبقاء، واستنباط أساليب جديدة قد تكون سلمية المسيرات التي عُمدت بالدماء هي باب المقاومة الشاملة.
وسوم: العدد 773