لا تُصالحْ....!

حضرت في بلد عربي ذات يوم مناقشة لخطة بحث؛ تقدم بها أحد الطلاب لدراسة الماجستير، وورد فيها وصف اللغوي البلاغي الشهير عبد القاهر الجرجاني بالإمام. انتفض أحد الزملاء رفضا لهذا الوصف، وبلغ به الانفعال حد التشنج، وهو يقول: لا إمام إلا محمد. لا إمام إلا النبي- صلى الله عليه وسلم- لا إمام إلا سيد العالمين... وراح الزملاء يهدئون من روع صاحبنا الذي لم يكن مخلصا في كلامه ولا فاقها في علمه، مع أنه يحمل أكبر درجة علمية وهي "أستاذ". انزعجت لمثل هذه الحالة، واكتفيت بأن  قرأت بعض الآيات الكريمة التي ورد فيها لفظ الإمام مفردا أو جمعا وصفا لغيره- صلى الله عليه وسلم- من الأنبياء أو الناس. تلوت قوله تعالى:

"وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" (البقرة: 124)، وقوله تعالى: "وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (التوبة: 12)، وقوله تعالى: "فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ" (الحجر:79)، وهناك آيات أخرى عديدة يرد فيها اللفظ وصفا مسندا لآخرين!

عرفت فيما بعد أن المذكور يقدم عربونا لأهل البلاد كي يجددوا عقد العمل بوصفه رجلا طيبا محبا للإسلام ويحافظ عليه! وزيادة في التقرب إلى  القوم وكسب ودهم؛ فقد أعلن بين زملائه أنه تزوج امرأة ثانية في نصف عمره الذي جاوز الخمسين يومئذ، كي يثبت للقوم أنه ممن يعدّدون الزوجات، وليس مثل بقية المصريين الذين يعيشون مع زوجة واحدة، وأنه بذلك يتبع مذهبهم ويرضيهم، وللأسف فقد أصيب  بأزمة صحية عاتية عقب زواجه ظل يعاني منها لسنوات طويلة!

الشاهد في الأمر أن هناك من يدوّر المبادئ ويتاجر في القيم، من أجل غايات دنيوية مادية رخيصة، يستوي في ذلك أصحاب اللحى التايواني، ومناضلو الحداثة والتنوير. بطبيعة الحال من يملكون المبادئ يدفعون في سبيلها الثمن مهما كان غاليا، ولو كان تقديم الأرواح والأموال. 

 من يرفعون رايات الحداثة والتنوير والتقدم ويسمّيهم الناس بالعلمانيين، أكثر انحرافا وخيانة للمبادئ والقيم وأنفسهم وضمائرهم.

في تونس أجريت مع أوائل مايو 2018م انتخابات البلدية. وتنافست أحزاب وشخصيات مستقلة، وجاءت نتيجة الانتخابات على غير هوى السادة العلمانيين، فقد نجح حزب النهضة الإسلامي، وتقدم على حزب نداء تونس العلماني الحاكم، وتفوق المستقلون المدعومون من الإسلاميين على الحزبين الرئيسيين.

هكذا يتحول الحداثيون المستنيرون التقدميون إلى خدم صغار في بلاط القوى الانقلابية الدموية التي تنزع الحرية من الشعوب، وتدوس على البشر والحجر بجنازير الدبابات وعجلات المدرعات، مالم تأت الصناديق بهم! "فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَٰذِهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ ۗ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" (الأعراف: 131)

انتهازية بلا حدود، وتناقضات بلا منطق، وتدليس مطلق السراح، وتضليل لا يعرف الخجل!

في سياق الفنكوش الذي تطلقه السلطة الانقلابية من حين لأخر عما يسمى المصالحة مع الإخوان (هكذا يسمونها)، يتبارى الحداثيون والمستنيرون واليساريون والانتهازيون في رفع لافتة: لا تصالح!

حسنا. لا تصالح مع العدو النازي اليهود الذي أذل المصريين وهزمهم أربع مرات في عهد البكباشي، ووصل إلى قناة السويس، ولم يتزحزح عن مواقعه العسكرية إلا بعد دماء غزيرة بذلها المصريون البسطاء، وتنازلات كبيرة من قياداتهم المستبدة. آمن المصريون بلافتة "لا تصالح"، لأن كل بيت مصري قدم شهيدا، أو عرف أسيرا، أو ينتظر مفقودا من عشرات السنين. ولكن الذين فقدوا أبناءهم وذويهم الأبرياء في الشوارع والميادين، ومواقع غير حربية مثل الحرس والمنصة ورابعة والنهضة والفتح ورمسيس وأكتوبر وغيرها، وما زالوا يفقدونهم حتى اليوم، وأغلبهم ليسوا من الإخوان أو الإسلاميين يصالحون من؟ أومن يصالحهم؟

مثقف حداثي مثل جابر عصفور يصرخ في المصري اليوم ١٢/ ٥/ ٢٠١٨  ويتساءل:  كيف أصالح من يريد أن يقتلني؟! أقول لشباب ثورة ٣٠ يونيو لا تصالح أي لص يسرق أحلامك. ثم يسمى المصالحة حديث الإفك "يسرى وتدركه العقول بلا عناء.. هتفت به أصوات قبيحة تلوث بسناج صدورها صفو الزمان والمكان.." محتذيا ما يقوله "محمد إقبال" في قصيدته "حديث الروح" ليهش من يسميهم «غربان البين» عن حصاد قمح الوطن..! ويستطرد من تسميه محررة الحوار بالعلامة التنويري إلى قضايا عديدة يهاجم فيها الإسلام والمسلمين، ويصورهم في صورة وحشية بشعة، ولكنه يصمت صمت الحملان عن احتفال العدو الصهيوني بالذكرى السبعين لاغتصاب فلسطين على ضفاف النيل في قلب القاهرة بفندق الريتز كارلتون الذي يفتح أبوابه على ميدان الشرف والثورة- أقصد ميدان التحرير. لم يستنكر بكلمة واحدة موافقة السلطة على هذا الاحتفال المذل لشعب مصر الأبي، ولم يتمعر وجهه خجلا من وجود عشرات المصريين من أتباع السلطة على مائدة أشهر شيف صهيوني في دولة الاحتلال، وسفير العدو يتلو عليهم سجل انتصارات عصاباته وطرد شعب أعزل، واحتلال أرض ليست له، وفرض ذات مسلحة بالقنابل الذرية وشراء الأتباع!

صار النداء: لا تصالح شعبك، ورحّبْ بالعدو. صار الشعب هو العدو، وتحول العدو إلى صديق!

الله مولانا. اللهم فرّج كرب المظلومين. اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!

وسوم: العدد 774