الوزير في بلاد الواق واق
ذات ليلة في قرطبة الساحرة، كان ثلاثة من الشباب يتسامرون، فأفصح أحدهم عن طموحاته لزميليه، وسألهم: ماذا ستطلبون مني إذا صرت الخليفة؟ فانهالا عليه بوابلٍ من التعليقات الساخرة، ذلك لأن ثلاثتهم كانوا يعملون حمَّارِين أو ( حمّالين)، لكنه لم يعبأ بذلك، وركّز على حلمه، فالتحق بالشرطة، وظل يتدرج في مناصبها حتى تولى رئاستها، ودأب على استثمار الفرص السياسية حتى آلت إليه الأمور في الأندلس، إنه محمد بن أبي العامر، الملقب بالحاجب المنصور.
هو واحد من المجتهدين الذين أُفسح لهم المجال للترقي في الدول والممالك التي تسير فيها الأمور بشكل طبيعي، وأما في بلاد الواق واق، فإن المناصب تُورَّث وتُنال بالوساطة والاستعدادات الجينية للمداهنة والتطبيل، بينما يُضرَبُ بعصامِيَّة الرجل المكافح – الذي أتى من أحياء البسطاء المتعبين ـ عرض الحائط. منصب الوزير على عِظم أهميته، يُعدّ أحد المناصب التي لا حظَّ فيها لأبناء البسطاء في بلاد الواق واق، فالوزير فيها هو ابن أحد القضاة، أو حفيد أحد رؤساء الوزراء، أو ابن شقيق أحد المحافظين، أو نسيب وزير سابق، أو ابن أخت إحدى الرتب الرفيعة في الأجهزة الأمنية.
ذلك الوزير الذي وُلد وبفمه ملعقة من الذهب وعاش بين القصور والأبنية الفارهة، والتسهيلات في كلّ دائرة حكومية، ولم يدخل بسيارته الثمينة يومًا أزِقَّة المدينة إلا لالتقاط صورٍ مع وفود أجنبية درس معها، أو زاملها حين ذهب للدراسة في الجامعات العريقة على نفقة ديوان الحاكم في بلده، وبذات الطريقة التي حصل فيها على المنصب في ما بعد، ذلك الذي تثور ثائرته إن توقف المُكيف، أو ضعفت خدمة الإنترنت خمس دقائق، فلا يرى في الدنيا فقرًا ولا اختبر في حياته العوَز، وللأزمات عنده تفسيرات أخرى مختلفة عن تفسيرات بسطاء القوم من المُهمّشين.
لماذا ينظرون إلى ابن الفلاح على أنه لابد أن يظلّ فلاحا يحرث الأرض ويجُزّ العشب ويبذر ويحصد، وفي هذا شرف، ولكن لماذا لا يصلح أمثاله للوزارة، حتى لو كان مُتفوّقا في المجالات العلمية، أو زاهدا في المال العام مُنكبّا على خدمة مجتمعه وأهله، هل ابن عامل القمامة سوف تلاحقه رائحة القُمامة التي جمعها والده من أمام بيوت الأثرياء، إن صار وزيرًا؟ الوزير الذي نريد، هو الكفء الذي عاش معاناة الشعب ويعرف ما يعنيه الفقر والنَّصَب، هو ابن الجبين الذي تُضيؤه حبات العرق، هو الذي ينتظر إجازته الصيفية لكي يعمل ويكسب ويُعين أسرته.
متى نرى وزيرًا متعبًا مثلنا يا قوم؟ يعرف موضع الألم ومعنى انحناء ظهور الآباء، خبّأت له أمه القرش فوق القرش، بدون أن تكترث للتجاعيد المبكرة التي حفرتها الهموم على وجهها؟ حتى إذا صار وزيرًا كان من أبناء الشعب وللشعب، يدرك معاناة الفقراء والبسطاء الذين إذا غابوا لم يُفتقدوا، وإذا حضروا لم يُؤبه لهم، يذكر القرآن عن نبي الله موسى أنه سأل ربه «وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي» (طه: 29 – 32)، فهو يريد وزيرًا له من أهله لا من الصفوة البعيدين عن هموم ومشاكل قومه.
الوزير الذي نريد، هو منقطع الأطماع في طول الولاية، فلا يسمح لنفسه ولا يُسمح له باحتلال المنصب، بل يدرك عبر نظام حازم أنه لن يطول به المقام، فمن ثم يكون أبعد عن الفساد الذي يظهر مع اعتياد النفوذ وطول أمد السلطة، وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يدرك هذه الحقيقة، فنقل عنه الشعبي أنه كتب في وصيته «أن لا يُقَرّ لي عامل أكثر من سنة، وأقِرُّوا الأشعري (يعني أبا موسى) أربع سنين».
وليس كحال الوزير في بلاد الواق واق، الذي يحجز مقعده الدائم في كل تشكيل حكومي، باعتباره من أهل الثقة، فالظن بهذا الذي يطول أمد ولايته أن تنطفئ جذوة الحماس فيه للعمل من أجل الشعب إن وُجِدت، ويألف كرسيّه حتى يراه مِلْكًا له، ومن ثَمَّ يغرق في أوحال الفساد المالي واستغلال السلطة للمنفعة الشخصية.
الوزير الذي نريد، هو الرجل المحافظ الذي لا يرى أن نهضة بلاده تستلزم خروج زوجته في المقابلات بتنورتها القصيرة، ولو خالف بذلك تقاليد وطنه النازعة إلى الاحتشام.
الوزير الذي نريد، يحترم ذاته، ولا يُصِرّ على الاستمرار في حالة الفشل، بل يفسح المجال لغيره، ويخجل إذا لفظه الشعب بالعودة بعد يومين على جناح الوساطة. الوزير الذي نريد، لا ينفصل عن الشعب، بل يعيش همومه وآلامه، ولا يجعل همه التبرير للقيادة السياسية في قراراتها التعسفية بحق الشعب من زيادة أسعار وفرض ضرائب ونحوه.
وأسمع من يقول لي لدى قراءة هذه السطور: «الفاسد لن يولي وزيرًا مصلحًا بالأساس»، وهذا الاعتراض في محله بدرجة كبيرة، حتى أن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد» قال: «لا يكون الوزير آمنا من صوْلة المستبدّ في صحبته ما لم يسبق بينهما وفاق واتِّفاق على خِيَرة الشيطان». لكن لا أرى أنها قاعدة عامة تشمل كل تعيين وزاري، فربما تدخلت عوامل أخرى في تقديم الكفء، كأن تكون مهاراته وإمكاناته معلومة لدى الشعب فيسبب عدم تقديمه للمنصب حرجًا للنظام، أو أن أهل السلطة لم يجدوا له بديلا لتولي الوزارة.
ربما رأى القارئ أن المقال مبنيٌ على أحلام وردية في مخيلة كاتبته، لكن لا بأس أن نحلم قليلًا في عالم الكوابيس الذي نعيش، ولربما تحقق هذا الحلم في بلد نعرفه أو في آخر لا تعنينا ترتيبات الحُكم فيه، بنسبة أو أخرى، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 777