نحن والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان .. مقاربة حضارية كلية
تعتبر المواثيق الدولية لحقوق الإنسان في صيغتها العالمية ابنة القرن العشرين ، وقد اشتهرت بنسختها الأولى بمبادئ الرئيس الأمريكي ويلسون الأربعة عشر . كما تعتبر هذه المواثيق في أصولها وفروعها ابنة الحضارة الغربية ، بخلفياتها الفلسفية والأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية.
لا شك أن أصول شجرة الحقوق التي دعا إليها الرئيس الأمريكي ويلسون منذ 1948 قد نمت وتفرعت وذهبت علوا وسفلا ويمينا ويسارا ، حتى أصبح المتابع لنمو هذه الشجرة يجد نفسه أمام شبكة من الحقوق السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية يصعب عليه الإحاطة بها ، أو إدراك مرامي كل صغيرة وكبيرة من تفاصيلها وشعيراتها ..
ولا نريد من قولنا عن مواثيق حقوق الإنسان هي بنت الحضارة الغربية لا انتقاصا ولا هضما . وإنما نريد وضع هذا الأمر في سياقه في تاريخ الأفكار ، وفي تاريخ النظم الحضارية والإنسانية على السواء . فهذه المنظومة من التشريعات والقوانين تأخذ صيغة العالمية بحكم عوامل عديدة منها أن الكلمة في المحافل السياسية والحقوقية هي للأقوى ، حتى في ميدان التنظيم والتقديم والتأخير ، وعقد التحالفات وإبرام الصفقات ..
كما لا نريد من نسبة منظومة هذه المواثيق إلى الحضارة الغربية أن ننفي عن الحضارات والشعوب الأخرى وأهمها الحضارة العربية الإسلامية ، سبقَها العملي إلى إقرار منظومة من الحقوق الإنسانية تجلت في صيغ ومتون فقهية نظرية وعملية على مدى ألف وخمس مائة عام ، وكانت في جملتها واقعا معاشا أكثر منها نصوصا مكتوبة ؛ نحتاط بهذا فقط ، حتى لا نشتت الحديث ، ويثير علينا المعترضون الإثارات ..
لنعيد القول : إن مواثيق حقوق الإنسان في صيغها الدولية المقررة والمعتمدة هي ابنة الحضارة الغربية ، المنتصرة المتغلبة ، وهذا الوصف يعيدنا إلى حظيرة فقه ( المتغلب ) الذي تعامل معه بعض الفقهاء المسلمين بكثير من الواقعية .
وبعيدا عن السياسة وتداعياتها يمكن أن نتحدث عن العديد من الأمثلة الواقعية التي فرضت فيها هذه الحضارة ، التي تدعي ( التجريبة ) وترتكز عليها ، أنموذجها غير المجرب ، في ميادين السياسة والاجتماع والاقتصاد ، واستُقبلت هذه النماذج من قبل الشعوب المستضعفة ، والحضارات المتنحية كمسلمات عالمية لا يجرؤ الكثيرون حتى على نقاشها ، بالروح العلمية التي قامت عليها الحضارة الغربية نفسها ..
ومن ذلك على سبيل المثال: النظام التعليمي التربوي في قواعده وأهدافه ووسائله ومدخلاته ومخرجاته . وحين نتحدث عن حقوق الطفل والأسرة والأبوين والأم والأب ..نجد أنفسنا أمام حالات صعبة الفهم ، ولاسيما حين يجرد الطفل من حقه من أبوين ، أو من محضن طبيعي دافئ وآمن..
وكذا نظام العقوبات المعتمد عالميا والذي ما زال ينتج للإنسانية المزيد من الجرائم التي تتكاثر كمّا ، وتزداد فحشا وإثما . فمثلا عرف الفقهاء المسلمون نظام العقوبة بأنه : الزاجر قبل الجريمة الرادع بعضها ، وها نحن لا نتابع في نظام العقوبات المعتمد عالميا لا زجرا ولا ردعا ، بل بيئة خصبة لنمو الجريمة يرتع فيها المجرمون ، على حساب الأبرياء الغافلون من أبناء المجتمعات .
وأخيرا وليس آخرا الحرية المنفلتة التي تعتمد نظام السوق أو الأثرة ، والذي يهدر الكرامة الإنسانية الفردية في جوانب اجتماعية ، والذي يحول ثروات الأرض إلى قلة قليلة تتحكم في كل شيء في الجانب الاقتصادي .
ولكي نكون واضحين وعلميين وموضوعيين ...
لا نريد أن نسبق إلى إدانة كل ما ذكرنا ، وإن كنا نملك رؤيتنا الخاصة ، ولا نريد أن ندعو إلى نسف كل ما ذكرنا ، وإنما الذي ندعو إليه فقط ، هو إعادة هذه العناوين وغيرها الكثير إلى المختبرات العلمية المختصة الاجتماعي منها والاقتصادي والسياسي ..ليكون للعلم وليس للهوى الكلمة الفصل في إقرار القيم والمواثيق ، وتمييز الجميل من القبيح ..
أزمة أخرى تواجه المتحمسين والمتعصبين لمواثيق حقوق الإنسان على المستوى النظري ...وذلك فيما يزعم بعضهم أنك لا يمكن أن تكون مسلما مؤمنا بشريعة الإسلام ومدافعا عن منظومة حقوق الإنسان في إطارها العام ، لأنه في الرأي الكليل هناك تناقض صارخ بين شريعة الإسلام وتلك المواثيق ..وهي دعوى تنفجر في وجه أصحابها أنفسهم ، وتنسف في حقيقتها أولى المداميك التي قامت عليها منظومة حقوق الإنسان والمتمثلة في ( حرية الاعتقاد ) .
وكأننا بأصحاب هذا الرأي يعيدون تقديم هذه ( المواثيق ) على أنها ( دين ناسخ لكل الأديان ) على طريقة (كهنة محاكم التفتيش) . فأي تناقض في الجمع بين دعوى كفالة حق الاعتقاد وبين نبذ المخالفين أو إكراههم على التخلي عن عقائدهم حتى ينالوا شرف الانتماء إلى (الدين الجديد ) ..
أزمة أخرى تصدم الضمير العالمي ، من المتزينين بالدعوة إلى حقوق الإنسان على المستوى العملي تتجسد في ازدواجية المعايير على مستوى التطبيق ...
تجرم المنظومة الحقوقية على سبيل المثال كل العقوبات الجسدية التي توقع على المجرمين ، كطريقة لمنع الجريمة ، وزجر المجرمين ، ولكن الذين أنجزوا هذه المنظومة ، ويدافعون بكل الحرارة عنها ، يسكتون عمليا عن جرائم كبرى تنتهك فيها إنسانية الإنسان في غولاغ السجون حول العالم ، حيث تتعدى الممارسات تعذيب الناس على عقائدهم وآرائهم وأفكارهم ، وحبهم أو بغضهم لرئيس كل ما يمكن أن يتصوره البشر السوي .. لن نذكر في السياق سجون حافظ وبشار الأسد ولا ..ولا .. إنما سنذكر بسجن باغرام وأبو غريب وغوانتنامو ... التي أدارها ويديرها سادة العالم من حملة لواء مواثيق حقوق الإنسان....!!
ونعود بعد كل هذا ، وعلى ضوء كل هذا ، لنعلن تمسكنا الواضح بالمنظومة الكلية للمواثيق الدولية لحقوق الإنسان في إطارها الكلي الجامع وخطوطها العريضة التي تكرم الإنسان وتحميه . فهذه المواثيق في مراميها العامة تهدف إلى حماية الإنسان في إطار وجوده الفردي ووجوده الجماعي . وهي في جملتها نفس المواثيق التي دارت حول حفظها مقاصد الشريعة الإسلامية ، في حماية الحق في الحياة وفي الاعتقاد وفي صون العقل والعرض والمال ..
من حق أهل الإسلام بل من واجبهم ومن مصلحتهم أن يتبنوا هذه المنظومة الحقوقية الجماعية ، وأن يتواثقوا مع كل أخيار العالم على حفظها وحمايتها وصونها وتطويرها وتسديدها وترشيدها بما يجعلها أقرب للحق والرشد . من واجبهم أن يستبطنوا ذلك وأن يعلنوه ..وأن يربوا على احترام ما فيها من حق وخير ورشد أجيالهم ..
ولا يمنعنهم من ذلك فروع يشهرها في وجوههم عدميون منبتون ضاقت عقولهم فانحسر فقههم أو تقلص ..
ولا يمنعنّهم من ذلك أيضا منهزمون حضاريا لا يرون الحق والخير إلا فيما سرابيل الآخري ..
وإذا كان العالم أجمع هو دار ابن جدعان ، فنحن أول من يدعو وأول من يجيب . وفي سنة التدافع والتمحيص لنا غنى ..ولو حضرنا ميادين الحوار بحق لأغنينا العالم وأغنينا أنفسنا عن كثير من الترهات ..
نحن مع كل ميثاق وشرعة وقانون تكرم الإنسان وتصونه وتحميه .. وإن كان دَخَنٌ فالتعاون على البر والخير مع كل أهل البر والخير يحد منه وينفيه ..
وسوم: العدد 784