تركيا تخوض معركة الاستقلال الكبرى، بعد أن أجادت أمريكا إشعال الكبرياء التركي
جلست أم عمرو بن هند ملك الحيرة على المائدة التي دعت إليها ليلى بنت المهلهل، وأمرتها بأن تُناولها جَفْنة على الطاولة، فأبتْ، فلما ألحَّتْ عليها صرخت ليلى واذُلّاه، فكان ولدها الشاعر الفارس عمرو بن كلثوم يتناول طعامه مع الملك في حجرة مجاورة، فلما سمع صراخ أمه، استلّ سيفا مُعلقًا فقتل به الملك.
قد يتساءل الناظر إلى ذلك السياق المُجْتَزأ من القصة: وماذا عليها لو ناولتها الجفنة؟ لكن بالعودة إلى كامل السياق، سيدرك أنّ أم الملك عاشت لحظة زهو طاغية افتخرت فيها بأنها أشرف العرب، فقالت إحدى جليساتها: بل ليلى بنت المهلهل أشرف منك، فعمُّها الملك كليب وأبوها الزير سالم المهلهل وزوجها كلثوم بن مالك وكلهم سادة في العرب، وأما ابنها فالشاعر الفارس سيد قومه عمرو بن كلثوم، فقالت أم الملك: لأجعلنّها خادمة لي.
إذن كان طلب الجفنة مظهرٌ من مظاهر الإذلال وكسر السيادة...
السؤال نطرحه اليوم بصورة مختلفة: وماذا لو وافقت تركيا على إطلاق سراح القس الأمريكي لتفادي تلك الحرب الاقتصادية الشرسة التي تشنُّها الولايات المتحدة بمساعدة حلفائها ضد الحكومة التركية؟
الجواب هو الرغبة التركية في المحافظة على سيادتها واستقلاليتها من التبعية والخضوع لقوى الشرق والغرب، فقضية القس الأمريكي كانت خاضعة لتسوية من الطرفين على مدى شهور بصورة إيجابية، إلا أن الولايات المتحدة بادرت إلى إطلاق تهديداتها المُستفزة وانتهجت مع أردوغان أسلوب: افعل ولا تفعل، وطالبت بالإفراج عن القس دون محاكمة، ووضعت القيادة التركية أمام خيارين: الرضوخ والاستسلام للتهديدات والعقوبات بما يحمله من ضياع الهيبة والسيادة التي تم بناؤها على مدى 16 عامًا، وإما الرفض الشامخ من أجل الحفاظ على هذه المكتسبات بما يتبعه من متاعب وأزمات.
المسلك الأمريكي لم يكن له ما يبرره، فتركيا حليف قوي، وأحد أعمدة الناتو التي تعتمد عليها أمريكا والحلف في مواجهة النفوذ الروسي، لكن تركيا في الوقت نفسه نأت بنفسها عن دائرة التبعية لأمريكا، وتنافرت معها في ملفات عِدة، منها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وصفقة شراء منظومات الدفاع الجوي إس-400 من روسيا، والرفض التركي للعقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، وإيواء واشنطن فتح الله كولن، إضافة إلى القتال في الشمال السوري.
تورُّط الولايات المتحدة في الانقلاب الفاشل الذي كاد يعصف بتركيا قد فاحت رائحته وأزكمت الأنوف، فلما لم يُفلح الانقلاب العسكري، وبعدما تمسك الشعب بقيادته عبر الاستفتاءات الأخيرة، لم يعد في جُعبة إدارة البيت الأبيض سوى إحداث زلزلة اقتصادية على أمل الإطاحة بأردوغان وفريقه وإعادة تركيا إلى العباءة الأمريكية.
والمتابع لردود الأفعال في المنطقة سيدرك أن المهللين لهبوط قيمة الليرة أمام الدولار هم الصهاينة وبعض العرب الذين يدورون في فلك التبعية لأمريكا، ومن ثم ندرك طبيعة تلك المعركة الاقتصادية.
رغم ضراوة الحرب الاقتصادية على تركيا، إلا أن هناك عدة مؤشرات وعوامل وأوراق تبشر بانتصار الأتراك، منها:
- قوة الاقتصاد التركي والنسبة العالية للإنتاج الصناعي وقوة السياحة التركية، إضافة إلى أن هناك نسبة كافية من العملات الصعبة في خزينة الدولة، فليس الاقتصاد التركي بالذي يتأثر بسهولة بالعقوبات المفروضة على دول أخرى.
- إعلان البنك المركزي التركي عن سلسلة من الإجراءات والتدابير لدعم الاستقرار المالي واستمرار الأسواق في عملها بصورة فاعلة، وتعهُّده بتوفير السيولة اللازمة للبنوك العاملة بالليرة والعملات الأجنبية، وهو ما أدى إلى بداية تعافي الليرة التركية أمام الدولار، حيث وصل إلى 6.46 مقابل الدولار يوم الاثنين، بعد أن كان يعادل 7.20 مساء الأحد.
- هبوط العملة المحلية أمام الدولار لا يتعلق بتركيا وحدها، فهناك حالة من الارتباك العالمي لدرجة أن قيمة اليورو نزلت أمام الدولار، فانتقال هذه العدوى إلى الاقتصاديات الأوروبية ثم من بعدها الأمريكية نظرًا للتشابك بين هذه الأسواق جميعا، حتما سيدفع أمريكا للتراجع أمام الصمود التركي.
- مُضي الولايات المتحدة في العقوبات والتهديدات ضد تركيا سيدفع الأخيرة للتحالف مع روسيا والصين وإيران، وبالتالي ستخسر أمريكا عضوًا محوريًا في الناتو، وسيكون التحالف التركي الروسي الصيني الإيراني بمثابة تقويض لقوة الناتو.
- التفاف الشعب التركي حول قيادته، واستجابته للوقوف أمام الدولار، وبالفعل هناك إقبال كبير على استبدال الدولار بالليرة، كما نلحظ ازدياد شعبية القيادة التركية التي أجادت إشعال الكبرياء التركي واعتبار هذه الفترة امتدادا للانتصار على الانقلاب الفاشل قبل عامين.
-أصبحت معركة الليرة والدولار قضية عامة خرجت عن إطار الشأن التركي الخاص إلى الشأن العربي والإسلامي، فقد لُوحظ تعاطف كبير غير مسبوق مع تركيا، ورأينا كثيرًا من الكُتّاب العرب يتناولون دعم الليرة التركية باعتباره واجبًا إسلاميًا وأخلاقيًا، وقد طالعتُ عبر وسم (الليرة التركية) نماذج حية لهذا التعاطف الذي تُرجم إلى أفعال لا ريب أنها ستسهم في إنقاذ الليرة، منها ما كتبه شاب عربي: (جمعت بعضا من المال من أهل الخير بارك الله بهم حتى أبدأ بتلقي العلاج اللازم، وعندما بدأت الليرة بالانهيار منذ أيام قمت بصرفهم كلهم من الدولار إلى الليرة التركية حتى لا أكون عوناً لأمريكا على ٨٠ مليون مسلم من الشعب التركي الكريم(، كما رُصد إقبال كبير من القطريين على شراء الليرة التركية، وهو ما تم رصده بين الإخوة الكويتيين وبعض السعوديين كذلك.
لذلك نستطيع القول أن الولايات المتحدة التي لم تجد أي مؤشرات على رضوخ تركيا، سوف تتراجع وتلجأ إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع القيادة التركية، خاصة بعد حزمة الإجراءات القوية التي تتخذها تركيا للتصدي للحرب الاقتصادية.
الولايات المتحدة حال هزيمتها ستفقد جزءًا كبيرًا من سمعتها وهيبتها، وسيصبح النموذج التركي للتصدي للغطرسة الأمريكية مصدر إلهام لدولٍ أخرى.
وأما بالنسبة لتركيا، فسوف يُعدّ انتصارها بمثابة استقلال تام وفراق أبديّ لدوائر التبعية، وسيكون زيادة قوية في رصيد الانتصارات الشعبية ومن ثم سيسُهم ذلك في رفع معنويات الشعب التركي وارتقائه والتفافه حول قيادته، كما أن هذا الانتصار سيعزز من المكانة السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية لتركيا في المنطقة، وسيكون له انعكاسات إيجابية على قضاياها.
سيجد الأتراك بعد الانتصار في هذه الجولة الطريق مفتوحًا إلى تحقيق رؤية 2023، بإذن الله وتوفيقه، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 785