وَقَفَاتٌ على رصيف ثورة الشّام
• كلماتٌ تتصارعُ في داخلي منذ فترة ليست بالقصيرة ، كلماتٌ أشبهُ بتساؤلاتٍ تُراودُ خاطري بين الفينةِ و الأخرى ؛ و لم أجد ما يشبعُ نهمي للجواب المقنِع الشافي الوافي ؛ طبعاً لا أنكرُ تلك الشَذَرات من الإجابات التي وصلتني من خلال الحوارات الكثيرة و النقاشات غير أنّها للأمانة لم تُخمد إلّا جزءاً يسيراً ممّا يعتملُ في صدري من مراجل تتميزُ عن معانٍ متداخلةٍ مترابطة من الأسف و الرجاء و الشوق و المحبة .... لعلماءَ أفاضلَ و إخوةٍ أحبةٍ عايشناهم منذُ بداية أيام ثورتنا - ثورة الشّام المباركة - موجِّهين لنا و عاملين معنا و هم في أوجِ ثباتهم و عزيمتهم ؛ باذلين غايةَ وسعهم وقتاً و جهداً و فِكراً و مالاً و تدبيراً ، إخوةٍ نهلنا منهم شامخات المعاني الراقية من عزّة الرجال و سموِّ النفوس الأبيَّات ، تذوقنا ريّانَ حكمتهم المعجونة بِشَيبةِ التجاربِ و صدق اللهجة ، و باسقات الهِمَم ، فضلاً عن جُودٍ ما بعدَه جود جِهاداً بأموالِهم في دعم ثورتِنا المنتصرةِ - بمشيئة اللهِ و معيَّته - .
و هنا - في هذه الكلمات - و عبر أروقةِ سطورها سأبثُّكم أشجاناً على شكل وقفتين اثنتين حبَّرتُهما بمِداد الودِّ و غَذّيتُها من نسغِ الاحترام و عِرفانِ المكانةِ و القَدرِ عساها تجدُ إلى قلوبكم و عقولكم سبيلاً من القَبول و التأمُّل و المراجعة و الذّكرى ؛ وصولاً لإعادة التصويب و شحذ الهِمم و تلاحُم الصّف برجوعِ كفاءاتِ ثورتنا .
???? الوقفةُ الأولى : إلى علمائنا ورثة الأنبياء
• و أقصدُ ب علمائنا علماء الشّامِ الذين وقفوا بوجه الظالم يزأرون بالحقِّ بكل جرأةٍ و ثَباتٍ و وضوحِ بيان ، يتكلَّمون داخل دمشق معتلين منابرَها مُتَحَدِّين رأسَ طغمة الظلم و الإجرام و أجهزة مخابراتِه المارقة الحاقدة ، ما خافوا في اللّهِ لومةَ لائم ، و لا تثبيطَ منتفعٍ خائر ... تكلموا بنبرةِ الرجال و جرأة العلماء فأفصحوا و أقضُّوا مضاجع الظالِم ، و ثَبتوا رغم تعرّضهم للتنكيل و الأذى و مخطّطات أهل الخَبَث ... تكلّموا بمواقفهم فكانُوا قُدوةً لنا و لِشبابِ و رجالِ ثورةِ الشّام . كيفَ لا و نحنُ الذين طالما اغترفنا من وابل علومهم و دَرَجْنا متأسِّين بحالهم ، و تربيّنا في حِلَقِ دروسِهم المنتشرة على امتداد مساجدِ دمشقَ الشام ؛ بل كم غصّت حلقاتُ المساجد بطلّابٍ و محبين أتَوا قاطعين المسافات الطِّوال سفراً من كافّة محافظات سورية الشّام ليحيوا قلوبَهم و عقولَهم من أخلاقِ و علمِ و فكرِ و سلوكِ رياضِ علماءِ الشّام .
. إذاً فَلِعلماءِ الشّام المنزلةُ الساميةُ قبلَ الثورة و خلالَها .
• و كم كان يحدونا الرجاءُ أنْ نراهم معنا في ساحِ ثورتنا يتابعون ما بدؤوه مُصوِّبين الطريق مُمسكين بزمام الدُفَّة معتلين ركبَ جهادِنا منيرين فِكرَ شبابنا بِقيم إسلامِنا و أخلاقِ جهادِنا فلا تعبثُ به الأفكارُ الوافدةُ و الإيديولوجياتِ المُؤطّرةُ المعلّبةُ ، بل يبقى الشابُّ يجاهدُ على بصيرةٍ بهمّةِ و فكرِ و علمِ علماء يعايشونهم بينَهم و يتنقلون بين صفوفِهم ... إذ أنّ وجودَ الكبيرِ من العلماءِ ثِقَلٌ في ميزان القَبول ؛ فكيفَ بكبيرٍ قدوةٍ قبل الثورة و خلالها ؟!
بل إنّ وجود علماء الشّام بقاماتهم الكبيرة يُحي المرجعيّة الشرعيّة العلميّة لأهل السُّنّة على أرض الشّام ؛ هذه المرجعيّة التي سعى نظام النصيريّة ألّا تكونَ على امتداد فترة حكمهم و إنّما يصنِّعونها كيفما يريدون و يريدُ أسيادهم .
• و ألمحُ قائلاً يقول : و ما يضيرُ لو جلسَ علماؤنا في الخارجِ - كتركيا مثلاً - و وجهوا و شكلوا مرجعيةً من خارج سورية ؟!
فأُجيبُ فأقولُ - بعد معاينةٍ لفكر الواقع - :
إنّ النّاس عموماً و الشباب خصوصاً يتعلّقون و يقْبَلون و يحبُّون مَن يرونهم بينهم يعيشون همومَهم و آلامَهم و أحوالَهم ، و يتنقَّلون فيما بينهم ، إذا طلبوهم وجدوهم معهم في الميدان يعلّمون و يوجّهون ؛ فهولاء يكونون محطَّ القَبول و الثقة و الحُبّ .. و لذلك تراهم تعلَّقوا بالغريبِ الذي جاء من خارج نسيج البلد الاجتماعيّ و صدّروه لأنّهم وجدوهم بينهم يتنقلون معهم و يعيشون عيشهم ... فكانوا رموزاً لهم .
• و ربّما نتلمسُ بعضَ العُذرِ لعلمائنا الذين تقدمتْ بهمُ السنُّ و أصبحوا بحاجة لرقابة و متابعة طبيّة - حفظهم ربي و أمتعهم بموفور الصحة و تمام العافية - ؛ لكن ممّا لا نجدُ مُسوّغاً لهم هو عدمُ حثِّ طلابهم على النزول لساحاتِ الثورة انطلاقاً من الأرضِ يبثُّون الفكرَ و العلمَ ، و يشكِّلون قوةً علميّة شرعية ، بل على العكسِ تماماً نأَوا بأنفسِهم و طلّابِهم إلى أماكنَ بعيدةٍ فأسّسوا كياناتهم ، و عاشوا حياتهم و سعَوا لتأمينِ إقاماتهم و أشغالهم ناقلين جوَّ الشّام إلى اسطنبول و غيرها من ولايات تركيا حتى غدتْ بعضُ فتاواهم و مواقفهم الشرعيّة رهناً لسياسات تلك الدّول ..
هذا الأمر سهّلَ تمزيق ثورة الشّام في تيارات أيديولوجية مختلفة ، بل سهّلت لفرقِ المخابرات العالميّة - على اختلافها - عملها .
• و أسمعُ مَن يتذرع فيقول إنّ أهل العلم و نخب الثورة تتمّ تصفيتهم و اغتيالهم .
فأقولُ : بدايةً إنّ العمرَ مقدرٌ و لنْ يموتَ أيٌّ منا حتى يستوفيَ أجلَه حتى و لو كان في مراتع الراحة و الرخاء و البروج المُشيّدة . و كلُّ ما أصابنا - أو يصيبنا - لم يكن لِيُخطئنا . هذا دينُنا و عقيدتنا .
ثمّ إنّه طريقُ الجهاد ؛ طريقُ العمل المشقة و الآلام الموصلة مع الصدق و الصبرِ و الإخلاصِ لقبول ربّ العباد - بمحض فضله و كرمه - { إنّما يُوفَّى الصابرونَ أجرَهم بغيرِ حساب } ؛ فنحنُ مأمورون بالعمل بغض النظر عن النتائج ؛ فهيَ - أي النتائج - بيدِ اللهِ - سبحانه - و هو المُوكَّلُ بها بما يراه محيطُ علمه { و قلِ اعملوا فسيرى اللهُ عملَكم و رسولُه و المؤمنون } .
و أيُّ عمل أجلُّ و أعظمُ من عمل الأنبياء ؛ هداية الناس للخير و تعليمهم أصول و أخلاق دينهم ، و قدوتنا في ذلك نبيُّنا القائدُ أميرُ المجاهدين محمدُ - صلّى اللهُ عليه و آله و صحبه و سلّم - الذي صبر و ثبتَ و عملَ و علّمَ و سيّرَ السرايا و جهّزَ الجيوشَ ، و قاد المجاهدين و نصحَ لهم ، و جاهد في اللهِ حتى أتاهُ اليقينُ من ربِّه اللّهِ - سبحانَه - .
???????? الوقفةُ الثانية : مع إخوتنا الذين نَأوا بأنفسهم عن سفينة ثورتنا :
• و أقصدُ ب إخوتنا الذين نأوا بأنفسهم أولئك الذين كان لهم شرفُ السبقِ و العملُ بكل صدق و مثابرة لإنجاح ثورة الشّام ؛ ممّن خبرناهم و تعلّمنا منهم و رُزقنا محبتَهم و مصاحبتَهم و العملَ معهم ، أولئك الذين خبرناهم عن قُرب و عايشناهم في أشدّ الظروف خطراً و ألماً ، أولئك الذين قدّموا كلّ ما وسِعَهم جهدُهم و وقتُهم و فكرُهم و مالُهم و ما ضنُّوا بأيِّ شيءٍ استطاعته هِمّتُهم و بلغَه تدبيرُهم . رأينا منهم سخاءَ النفسِ ، و شفقةَ المحبّ ، و أخوَّةَ المؤمن ، و سموَّ الفِعالِ ، و إقدامَ الرجال ، و حكيمَ الرأي ، و خبرةَ الأيام ...
أولئك الذين لم ينقصْهم في ظلّ النظام جاهٌ و لا مالٌ و لا مكانة ؛ بل على العكس تماماً كانوا من ذوي المكانة و الكياسة و النِّعَم ، و طلباتهم - الدنيوية - ملبّاة ... تركوا كلَّ ذلك و ترفّعوا حاملين قضية الحقِّ و العدل فأبَوا أنْ يكونوا في ركابِ الظالِمين - و لو أرادوا لَكانَ لهم ما شاؤوا - . .. أخاطبُ هؤلاءِ ممّن قدّموا و بذلوا و ضحُّوا و ما أخذوا ، إذ لا شأنَ لنا بمخاطبة مَنِ ارزتق من أموال و معاناة ثورة الشّام حتى تُخمَ من بعد جوع ، و اشترى المنازل و السيارات و بنى القصور ، و افتتحَ المشاريع الضخمة في تركيا و غيرها ممّا اختلسه من مالِ حرامِ ثورتنا ... فأمثالُ هؤلاءِ لا وجودَ لهم في قاموس ثورتنا ؛ و التاريخُ كتابٌ يُسجّل و ذاكرةٌ تُوثِّق .
إذاً كلامنا لِ إخوتنا من ذوي العقول و الكفاءَة و المكانة و الكياسة ممّن خرجوا من مدنهم و تابعوا طريقهم نحو تركيا تاركين طريقَ الثورة و الجهاد ، و انغمسوا في هموم الدنيا و الأعمال و التجارات ناسين - أو متناسين - قضيتَهم الأساس ؛ قضيةَ الحقِّ ؛ تلك القضية التي بدأنا طريقها سويّاً فلا مجال فيها للتراجُع و التراخي و النأي بل لا بدّ من متابعة الطريق إلى منتهاه ، لِيَقيننا أولاً بموعدِ اللهِ لنا - إن صدقنا و صبرنا و ثبتنا - {و لَينصُرَنَّ اللهُ مَنْ ينصُروه } ، و كرامةً لدماءِ إخوتنا ممّن سبقونا و ارتقَوا شهداء - بإذن الله - ثانياً ، و لأنّنا نتطلّعُ لبناءِ حضارةِ إسلامنا حضارة العلم و القوة ثالثاً ... و قبلَ كلِّ ذلك عسانا نلقى اللهَ و هو راضٍ عنا و قد قَبِلَ منّا ما شَرُفَتْ إليه هِممُنا و نالَه جُهدُنا ، و إذا قُبضنا نكون سائرين على الطريق ؛ طريق البناءِ و العمل و التغيير ، فيكرمنا - بفضله و رحمته - مقام الشهداءِ المقبولين .
• و أتابعُ خطابي لإخوتي و مَن شغلتهم دنياهم في غربتهم بعد أنْ تركوا أرضَ الشّام و تخلّوا عن طريق ثورتنا بأنْ عودوا فهذا دربكم و لا خيار لكم إلّا بمتابعته ، و اخرجوا من مستنقع الدنيا و التجارات و هموم تأمين مصاريف دراسة الأبناء و إرضاءِ الزوجة و الولد الذين يبحثون عن الراحة و رخاء العيش ، و اعلموا بأنّ الرزق بيد الرازق اللهِ - سبحانه - ، فلو جعلتم اللهَ غايتكم حقيقةً لأكرمكم بأبواب رزقه التي لا حدودَ لمنتهاها ، و نحن لا نطالبكم أنْ تتخلوا عن تحصيل رزقكم و رزق أبنائكم و لكن نطالبكم بالعودة لمتابعة الطريق و إيجادِ آليةٍ من التوازن الجاد بين الأمرين مع تقديم الأول و إعطائه الأولوية ، فأعداؤنا و هم على باطلهم يعملون و يخطّطون للنيل ِ من أمتنا ؛ أَ لسنا أولى بالمبادرة و العمل ؟
و أذكركم بقوله تعالى { و قِفوهم إنّهم مسؤولون } ... بل إنني أذكركم أخيراً بأسلوب السؤال : ألمْ يكنِ النظام يخطبُ ودّكم و أنتم في كامل قوتكم الماليّة و مكانتكم ؛ و لكنّكم آثرتم السيرِ في طريق التغييرِ و النهوض و الحقّ على حساب الدنيا و زخارفها ، فلا تحرفوا بوصلة قضيتكم فتكونوا كمن بدّلَ دنيا بذات الدنيا ... لذا فعودوا و صوّبوا طريقَ هدفكم ، و استيقظوا من غفلة شرودكم و أعدُّوا الجواب لله سبحانه من الآن ..
سامحوني إن قسوتُ ، فثورةُ الشّامِ تستثيرُ غيرةَ رجالِها ، و تشتغيث بأهل الصدق و الكفاءَة و الرِّيادة .
و اللّهُ من وراء القصد
وسوم: العدد 786