مقال الدكتور الشيخ بن الزين بن الإمام بحق العلامة الددو
قرأت مقال الدكتور الشيخ بن الزين بن الإمام أخطأ العلامة الددو فوجب البيان فوجدت أن المخطئ ليس الشيخ الددو وإنما المخطئ من يهرف بما لا يعرف:
إليكم المقال:
أبى الشعرُ إلا أن يكون ارتجالــــه ** عزيزاً إذا لم ترتجله رجالُـــهُ
فكم جال في ميدانِه متشاعِــــرٌ ** يَرى أنهُ سهل السبيل مجـــالُهُ
فحادت به الألحان عن صوب قصده ** وألقتْهُ في الجَفرِ المُجَوَّخ جالـــه
رحم الله الشاعر الألمعي غالي بن المختار فال فلو قرأ مقال الكاتب الشيخ بن الزين بن الإمام وهو يرد على الشيخ محمد الحسن بن الددو، لأدرك أن التمثل بالشعر من غير رجاله لا يقل صعوبة أحيانا عن ارتجاله، فقد تمثل الكاتب بأبيات وجهها العلامة المختار ولد بون الجكني للعلامة الشيخ سيد المختار الكنتي تجلى فيها عميق الفرق بين المنشئ والمتمثل، فعلى مستوى الشكل لم يحكم الكاتب إقامة الوزن في البيت الثاني الذي استشهد به وزاد فيه، لقد كانت الأبيات على هذا النحو لا على ما روى الكاتب:
أسيّدَنَا المختار لا تكُ مفرِطـــاً ** وإياكَ والتفريطَ واعدلْ وأقسِطــا
فكونُكَ ذا مالٍ وجاهٍ وَرُتبـــةٍ ** عَلتْ في قلوبِ الناس لمْ يمنعِ الخطـا
وكونيَ لم أذكَرْ كذكرك لم يكــن ** ليمنَعني التوفيقَ من مــانح العطا
أتسلبني واللهُ ما شــــاَء مثبتٌ ** إذاً أنتَ في تعظيم نفسك مفرطـا
وعلى مستوى المضمون شاب خطأ الرواية خطأ أعظم في الدراية إذ متى كان الشيخ يهدد مخالفيه بالسلب وهو الذي ظل ينكر التصريف في القلوب من غير مالكها، وهل كان بين الكاتب والشيخ من المباحث ما ألجأه إلى مثل هذا الوعيد؟
بعد التمثل الذي حادت بصاحبه الألحان عن صوب قصده، عبر الكاتب إلى الهجوم على الشيخ بإظهار المزايلة ما بين كرسي أهل السنة والجماعة مع تكفير بشار وطائفته إلا أن تكون الكراسي والعمائم قد تشابهت كما قال والكراسي والعمائم لم تتشابه وإنما تشابه البقر على طلابه.
وهكذا عرض الكاتب لإشكالية التكفير ملمحا إلى أن مسلك الشيخ في ذلك مسلك الخوارج، والواقع أن الشيخ لم يخرج في فتواه عن مذهب علماء السنة وخاصة أقوال إمام دار الهجرة مالك بن أنس، وتحرير ذلك من خلال ثلاث نقاط:
الأولى: أن مفهوم أهل السنة في عدم التكفير بذنب لا يقتضي عدم الحكم بالردة والخروج من الملة فقد أجمع العلماء على وجود حكم الردة وإن اختلفوا في جزئيات من مقتضياتها وآليات تنفيذ ما يترتب عليها، وهل يعقل أن يحكم الله بكفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم، ولا يكفر من قال إن عليا هو الله، فأي فرق بين القولين وإن زعم صاحبه أنه مسلم؟.
إن المقصود لدى أهل السنة بعدم تكفير أحد بذنب هو الرد على الخوارج المكفرين بارتكاب الكبائر، وليس المقصود عدم التكفير مطلقا ولهذا قيد أبو الحسن الأشعري رحمه الله القاعدة ببيان أمثلتها في كتابه مقالات الإسلاميين فقال: "ولا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب، كنحو الزنا والسرقة، و ما أشبه ذلك من الكبائر، وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون وإن ارتكبوا الكبائر".
الثانية: هل يكفر من جاء بقول هو كفر؟ وذلك كالقدرية المنكرين للقدر، والمروي عن مالك هو تكفيرهم، يقول ابن عبد البر في كتاب الاستذكار: "ومذهب مالك وأصحابه أن القدرية يستتابون، قيل لمالك كيف يستتابون؟ قال يقال لهم اتركوا ما أنتم عليه وانزعوا عنه، وقال مالك لا يصلى عليهم ولا يسلم على أهل القدر ولا على أهل الأهواء كلهم ولا يصلى خلفهم ولا تقبل شهادتهم",
وقال القرافي في كتاب الذخيرة: في الكتاب (يعني المدونة)لا يصلى على موتى القدرية والإباضية ولا تتبع جنائزهم ولا تعاد مرضاهم وأولى إذا قتلوا، قال سند إن تولاهم أهل مذهبهم تركهم الناس زجرا لهم وإلا فاستحب ابن القاسم مباشرتهم وأوجبها سحنون، قال المازري حمل كلام مالك على ظاهره ممكن، وقد أفتى في غير موضع بكفرهم وإذا فرعنا على كفرهم فلا يصلى عليهم، قال سند فإن قاتلونا فقتلهم الإمام العادل قال مالك و ( ش ) (يعني الشافعي) وابن حنبل يصلى عليهم وقال ( ح ) (يعني أبا حنيفة) لا يغسلون ولا يصلى عليهم لقوة شبههم بأهل الحرب.
وفي مواهب الجليل للحطاب: "قال مالك لا تزوج إلى القدرية يعني أنه يفسخ النكاح الواقع بين أهل السنة وبينهم، هذا على القول بتكفيرهم، وأما على القول بأنهم فساق فهم كالفاسق بجوارحه وأشد، لأنه يجرها إلى اعتقاده ومذهبه ولا يتزوج منهم ولا يزوجون من نساء أهل السنة، وقول مالك في القدرية جار فيمن يساويهم في البدعة وفي بعض الروايات أن مالكا تلا قوله تعالى {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} وهذا يدل على أنه أراد تكفيرهم انتهى. من تسهيل الأمهات.
فهذه النصوص من أهم وأثبت ما ألف المالكية صريحة في أن مالكا أفتى بكفر هذه الفرق وأن قوله جار في من يساويهم في البدعة فكيف بمن يفوقهم وهو ما نبينه في النقطة الثالثة.
الثالثة: في الكلام على النصيرية أو ما أصبح يطلق عليه العلويون: جاء في الموسوعة الميسرة للمذاهب والأديان بتصرف وحذف مع احتفاظ بنص المختارات: "النصيرية حركة باطنية ظهرت في القرن الثالث للهجرة، أصحابها يعدُّون من غلاة الشيعة الذين زعموا وجوداً إلهيًّا في علي وألهوه به، مقصدهم هدم الإسلام ونقض عراه، وهم مع كل غاز لأرض المسلمين، ولقد أطلق عليهم الاستعمار الفرنسي لسوريا اسم العلويين تمويهاً وتغطية لحقيقتهم الرافضية والباطنية ومؤسس هذه الفرقة أبو شعيب محمد بن نصير البصري النميري (ت 270ه( عاصر ثلاثة من أئمة الشيعة وهم علي الهادي (العاشر) والحسن العسكري (الحادي عشر) ومحمد المهدي (الموهوم) (الثاني عشر).
ـ زعم أنه البابُ إلى الإمام الحسن العسكري، وأنه وارثُ علمه، والحجة والمرجع للشيعة من بعده، وأن صفة المرجعية والبابية بقيت معه بعد غيبة الإمام المهدي.
جعل النصيرية علياً إلهاً وقالوا بأن ظهوره الروحاني بالجسد الجسماني الفاني كظهور جبريل في صورة بعض الأشخاص.
- لم يكن ظهور (الإله علي) في صورة الناسوت إلا إيناساً لخلقه وعبيده.
وقد يقول قائل: دعك من الموسوعة فهي كتاب معاصر وضعته الندوة العالمية للشباب الإسلامي، قلت لا بأس فلنعد إلى الوراء مع المؤرخين ورجال النقد والتجريح، فهذا ابن كثير يقول في البداية والنهاية في حوادث سنة 717هـ: "خرجت النصيرية عن الطاعة, وكان من بينهم رجل سموه (محمد بن الحسن المهدي القائم بأمر الله), وتارة يدعي على بن أبي طالب فاطر السموات والأرض, تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا, وتارة يدعى أنه محمد بن عبد الله صاحب البلاد, وخرج يكفر المسلمين, وأن النصيرية على الحق, واحتوى هذا الرجل على عقول كثير من كبار النصيرية الضلال, وعين لكل إنسان منهم تقدمه ألف وبلادا كثيرة ونيابات , وحملوا على مدينة جبلة فدخلوها , وقتلوا خلقا من أهلها , وخرجوا منها يقولون: لا إله إلا على, ولا حجاب إلا محمد, ولا باب إلا سلمان..."
ويقول الذهبي في لسان الميزان في ترجمة إسحاق بن محمد النخعي الأحمر: " كذاب مارق من الغلاة روى عن عبيد الله بن محمد العيشي وإبراهيم بن بشار الرمادي وعنه ابن المرزبان وأبو سهل القطان وجماعة، قال الخطيب سمعت عبد الواحد بن علي الأسدي يقول إسحاق بن محمد النخعي كان خبيث المذهب يقول إن عليا هو الله وكان يطلي برصه بما يغيره فسمي بالأحمر ... قلت (الكلام للذهبي) ولم يذكره في الضعفاء أئمة الجرح في كتبهم وأحسنوا فإن هذا زنديق وذكره ابن الجوزي وقال كان كذابا من الغلاة في الرفض، قلت (الكلام للذهبي) حاشا عتاة الرفض من أن يقولوا علي هو الله، فمن وصل إلى هذا فهو كافر لعين من إخوان النصارى وهذه هي نحلة النصيرية.
تلك شذرات من حقيقة النصيرية ومواقف العلماء منها وطبيعي أن يعمل الشيخ على شاكلة مالك وابن كثير والذهبي وغيرهم ممن يضيق المقام عن حشر كلامه.
وإذا كان هذا حالهم فإن الخروج على سلطانهم إذا تغلبوا هو الأصل، والسكوت خوفا من الفوضى تأويل، تماما كتأويل من رضي بحماية الاستعمار بديلا عن الفوضى، وكتأويل من يقبل رئاسة غير المسلم كواقع إخواننا في لبنان، وطبيعي أن يتغير التأويل بتغير ظروفه وعوامله.
ثم اعتبر الكاتب أن التدافع بين الحاكم والمحكومين قضية طرفاها اثنان هما : مستوى ظلم الظالم والخوف من الفتنة، وأن الترجيح بين الأمرين قد يقع فيه الخلاف في التقدير وهذا كلام صحيح، لكن ما بني عليه من كونه في كل الأحوال لا علاقة له بكون الحاكم كافرا أم ورعا تقيا، غير صحيح إذا كان المقصود معيار الشرع لا مجرد الوقائع التاريخية المجردة، فالكفر أرفع أنواع الظلم، وحديث عبادة بن الصامت في البخاري نص في ذلك حيث قال: "دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله قال إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان" وهذا ما يدحض قول الكاتب، كذلك فإن العلماء عدوا الدين أول الضروريات وقدموه على سائرها ورحم الله محمد العاقب بن ميابى حين قال:
والجور والإسلام في بلادنا ** خير من العدل مع الكفر الجلي
مصلحة الدين على الدنيا يرى ** وجوبها حتما مراعي الأفضل.
هكذا إذن يتبين أن جهاد النصيريين لانتزاع الحكم منهم جهاد شرعي منسجم مع الأصل، فكيف به إذا كان دفاعا عن النفس والمال والعرض فاجتمع إليه جهاد آخر، كما في الحديث عن سعيد بن زيد قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "من قتل دون دينه فهو شهيد ، ومن قتل دون دمه فهو شهيد ، ومن قتل دون ماله فهو شهيد ، ومن قتل دون أهله فهو شهيد" رواه أبو داود والترمذي وصححه وبعضه متفق عليه.
وتساءل الكاتب عن حكم من مع بشار ممن يعتبرون أنفسهم مسلمين، والجواب والله أعلم أن من مع بشار من المسلمين مخطئ في موالاته إياه، ولا نحكم عليه بكفر وأمره إلى الله إن شاء عذبه بقدر ركونه إلى الظالمين ومحاربة المسلمين، وإن شاء عفا عنه، واستشهاد الكاتب بفساد الاعتبار في المسألة كتمثله بالشعر لم يكن موفقا، فقد اقتتل الصحابة ولم يكن القاتل والمقتول منهم في النار، وهذا قادح النقض على ما فيه لدى الجمهور، كما أن الوعيد محمول على عدم الخلود في النار، وذلك هو الشأن في كافة كبائر المعاصي، ولو حمل الحديث على ظاهره لكان مجرد اقتتال المسلمين كفرا مخرجا عن الملة وهذا خلاف منهج أهل السنة بل هو كفر دون كفر.
هكذا إذن تبين أن الشيخ محمد الحسن وغيره من أعلام العصر أصابوا في الدعوة إلى قتال بشار ومن يقف مع بشار، وإنما المخطئ من يهرف بما لا يعرف وليس الشيخ من أولئك مع أنه يؤخذ من قول كل أحد ويرد عليه فالتمسوا له غير هذه.
الأستاذ محمدن بن الرباني
وسوم: العدد 791