الاختناقات المرورية والتحديات الأمنية

د. مصطفى يوسف اللداوي

د. مصطفى يوسف اللداوي

[email protected]

ليس صحيحاً أنها أزمة عالمية، يشكو منها مواطنوا العالم كله، ويقاسون من نتائجها، فلا تجد دولة في العالم لا تعاني من الاختناقات المرورية، وازدحام حركة السير في مختلف شوارعها، فهي أزمة لم تنجُ منها دولة، ولم تستطيع حكومة السيطرة عليها، أو إيجاد حلولٍ ناجعة لها، فنجدها بقوة في شوارع بكين وهونكونج وبانكوك وطهران وأنقرة واستانبول وبيونس آيرس، كما تعاني منها نيودلهي والقاهرة، وبيروت ودمشق ودبي، وغيرها من العواصم العربية والأجنبية، الأمر الذي يجعل منها ظاهرةً عامة، تتسبب فيها المخططاتُ القديمة للشوارع والطرقات، والمدن التاريخية الكبيرة التي تستعصي على إعادة التخطيط والبناء، ما يجعل شوارعها محدودة، وطرقها ضيقة وقديمة، فلا تصلح معها مختلف الحلول والمقترحات.

ولعل كثرة السيارات الخاصة والعامة، في ظل تزايد حالات الرفاهية الشخصية، التي ترافقت مع سيارة خاصة لكل شخص، الأمر الذي يعني أنه قد يكون في الأسرة الواحدة أكثر من سيارة، للزوج والزوجة، والولد والبنت وإن كانوا أكثر، قد زادت كثيراً من حجم الأزمة، وعقدت سبل حلها، وجعلت من الصعب مجاراة الزيادة المضطردة في أعداد السيارات، على الرغم من مشاريع شق طرق جديدة، وبناء جسور، وحفر أنفاق، وإدخال أنظمة المترو، وتوصيلها إلى مختلف أنحاء المدن، وتشجيع استخدام الدراجات النارية والهوائية، ووضع خطط مختلفة لحل الأزمة، كتحديد عدد السيارات بمنع القديم منها، أو فرض أيامٍ محددة لسير العربات، أو فرض ضرائب عالية على استيرادها، في الوقت الذي تخفف فيه نسبة الضرائب على السيارات العامة.

إلا أن مختلف الحلول المنفذة أو المقترحة، لن تتمكن من حل هذه الأزمة، ووضع نهايةٍ عملية لها، لأن السباق بين الحاجات المتزايدة، والقدرات المحدودة سيبقى قائماً، وستكون الغلبة دائماً للتزايد السريع والمفرط في عدد السيارات، وسيبقى الموطنون يصطفون في طوابير طويلة جداً، ينتظرون الساعات، لقطع مسافةٍ قد لا يلزم قطعها بضع دقائق، وقد اعتاد الناس على هذا الواقع وانسجموا معه، ونظموا حياتهم عليه، وتهيأوا لمواجهته بالخروج المبكر، أو إحضار كتاب، أو آي باد، ومع طفرة الهواتف التي أصبحت تقدم خدماتٍ كثيرة وكبيرة، وترتبط بشبكة الانترنت، وتحقق التواصل الاجتماعي بمختلف وسائله، فباتوا يمضون وقتهم، ويبددون قلقهم، باتصالاتٍ ومحادثاتٍ ومشاركاتٍ، الأمر الذي قد ينسى الناس الوقت الضائع، وساعات الانتظار الطويلة.

هذا هو قدر الإنسان في ظل التطور والحداثة، وفي ظل الرفاهية والحقوق الشخصية والفردية، فعليه أن يتحمل تبعات التطور، ونتائج الحرية، لكن الأزمة الكبيرة التي لا يقوى الإنسان على تحملها، ولا يجد المسوغ الدائم لها، هي الأزمات المرورية الخانقة بسبب الإجراءات الأمنية.

فهي أزماتٌ قاتلة، واختناقاتٌ خانقة، لا يقوى المواطن أحياناً على تحملها، أو تبرير أسبابها، والاقتناع بضرورتها، حتى ولو كانت اجراءات أمنية، لمنع التفجيرات، أو إلقاء القبض على مطلوبين، أو ملاحقة ومحاصرة فارين.

حيث تطول طوابير السيارات وتمتد إلى مئات الأمتار، وتضيق بها الشوارع بمساراتٍ قد تزيد وتتضاعف، في الوقت الذي لا يسمح فيه بالمرور لأكثر من سيارةٍ واحدة، بعد أن تقف وتدقق فيها العناصر الأمنية التي تقف على الحاجز، وقد تطلب من ركابها النزول، لتفحص بطاقاتهم الشخصية، وأوراق السيارة الرسمية، بعد تفقدها والتأكد من خلوها من المتفجرات أو أي موادٍ أخرى ممنوعة.

الأمر الذي يستغرق وقتاً طويلاً، ويستنزف الطاقة، ويوتر الأعصاب، ويتعب النفوس، ويقلق الناس، ويعرقل حياتهم، ويتسبب في مشاكل كثيرة، ليس أقلها إطلاق أبواق السيارات بصورة جماعية في آنٍ واحد، لإجبار العناصر الأمنية على الإسراع في إجراءاتهم، وتمرير أعدادٍ أكثر من السيارات.

الناس تحب الأمن، وتحرص عليه، وتحترم العناصر الأمنية، وتسهل إجراءاتها، ولا تعترض على عملها، لأنها تقوم بالواجب، وتؤدي خدمةً كبيرة لصالح المواطنين، وهي تعرض نفسها وحياتها للخطر، وتضحي بحياتها أحياناً، وقد سجلت مراكز تفتيشٍ عديدة في أكثر من دولة، اعتداءاتٍ على العناصر الأمنية المتواجدة في المكان، ما تسبب في مقتل بعضهم أو إصابة آخرين.

يعتقد المواطنون أن الإجراءات الأمنية تشعر المواطن بالثقة والأمان، وتزيح عن نفسه هواجس التفجيرات والاعتداءات، إذ من شأنها أن تحد من الخروقات الأمنية، وأن تقلل من الاعتداءات المختلفة، فضلاً عن أنها تخيف المجرمين، وتربك المخططين أو المنفذين للعمليات الأمنية.

لكن المعنيين بالأمن، والمشرفين على برامج الحماية، يستغرقون كثيراً في الإجراءات، ويعيشون المهمة حتى النهاية، بأداءٍ بطيئ، وروتين قاتلٍ، دون أدنى إحساس بحالة المواطن، ولا تقدير للظروف المفاجئة، والحالات الطارئة، ولا مراعاة للمرضى والأطفال والمسنين والنساء الحوامل وغيرهم.

إذ يجب على الجميع أن ينتظر لساعاتٍ طويلة، ويسير بانتظامٍ في الطوابير حتى يأتي دوره، ولو كان مريضاً أو في  حرجة، فإن أحداً لا يسمح له بالمرور، كما أن الظرف والحال لا يسمح له بالتجاوز والوصول إلى الحاجز، ليعبر بسرعة نظراً لظرفه.

أعتقد أنه يمكن إيجاد حلول سريعة وعملية، مرضية وآمنة، تسهل على الناس، وتخفف من معاناتهم، ومنها وضع مساراتٍ خاصة لطلاب المدارس والجامعات والمرضى والنساء، بعد التدقيق في حافلاتهم وسياراتهم، والإطمئنان إليها أمنياً، لكن تخصيص مساراتٍ خاصة بها، تسهل على الطلبة الوصول إلى مدارسهم وجامعاتهم بسهولةٍ ويسر، وضمن الوقت المحدد، بدلاً من الخروج المبكر، والوصول المتأخر.

كما يمكن تحسين المسارات، وزيادة نقاط العبور، وتحديد مداخل خاصة لأنواع معينة من السيارات، فضلاً عن إجراءاتٍ ميدانية كثيرة من شأنها التخفيف والتسهيل، وإلا فإن المواطنين سيضجون بالإجراءات الأمنية، وسيثورون ضدها، ولن يتمكنوا من الصبر طويلاً عليها، أو تفهمها والقبول بها، وسيكون لتنامي هذا الإحساس آثارٌ اجتماعية غير مريحة، خاصة إذا طالت الأزمة، وتعقدت الإجراءات الأمنية، وتأخر المسؤولون في إيجاد حلولٍ وبدائل آمنة ومريحة.