كيف يجب أن تكون العلاقة الزوجية الناجحة ؟
من أعظم النعم التي امتن بها الله عز وجل على الخلق ، نعمة العلاقة الزوجية مصداقا لقوله تعالى : (( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون )) . ويظهر من سياق هذه الآية الكريمة أن هذه النعمة لا يدرك حقيقتها وكنهها إلا الذين يتفكرون فيها ، ويتدبرون ما أودع فيها الله عز وجل من خير كثير ،جاء التعبير عنه بالآيات في صيغة الجمع ، علما بأن الآية تطلق على المعجزة ، وعلى العبرة ، وعلى الدليل ، وعلى العلامة ، فضلا عن معان أخرى منها الكمال ، والتميز ، ومنها العبارة أوالفاصلة القرآنية.
وبيان هذه الآيات التي دعا الله سبحانه وتعالى إلى التفكر فيها أنه أودع السكينة في العلاقة الزوجية، وهي طمأنينة النفس واستقرارها ، وما يحصل معها من اتزان نفسي لا يكون في علاقة غيرها ، كما أنه جعلها وسيلة تناسل ومحافظة على النوع البشري لتتحقق الغاية من خلقه، وهي عبادة خالقه من خلال طاعته لينال فضله في عاجل يختبر فيه ، وفي آجل يجازى فيه على ما اختبر فيه ، وأنه سبحانه جعل هذه العلاقة بين نفس النوع ليحصل الأنس بين الأزواج لكونهم من نفس النوع ، وهو ما لا يحصل لو كان بينهم اختلاف في النوع، وأنه سبحانه جعل بينهم المودة، وهي نوع من المحبة يحصل بها الوئام والتوافق والتناسب ، والرحمة ، وهي نوع من الرقة والشفقة ، لأنهم قبل الارتباط بهذه العلاقة الزوجية لا تكون بينهم مودة ولا رحمة ،فتنشأ بينهما بعد ارتباطهما بها ، كما أن المودة والرحمة تنتقل منهم إلى ما ينشأ عن علاقتهم الزوجية من نسل ... إلى غير ذلك مما يبلغه التفكير العميق في تلك النعمة العظمى .
ومعلوم أن العلاقة الزوجية عند الأمم والشعوب تبنى وفق معتقداتهم . ولقد سماها الله عز وجل في الإسلام الذي هو الدين عنده ميثاقا غليظا ،وهو عهد بين من يرتبطون بهذه العلاقة وبين خالقهم حتى لا تتعرض العلاقة الزوجية بينهم للعبث لشهادة الله عز وجل عليها .
ولما كان هذا شأن هذه العلاقة في دين الإسلام ، فإنها تبنى على أساس متين ، ويتطلب ذلك من الراغبين في الارتباط بها أن يحسنوا اختيار بعضهم البعض ليتحقق الهدف الذي أراده الله عز وجل منها .
ومعلوم أن نجاح الأزواج في اختيار بعضهم البعض، تنتج عنه علاقة زوجية موفقة قوامها السكينة، والمودة ،والرحمة ، كما أن فشلهم في الاختيار ينتج عنه العكس وهو الاضطراب، والكراهية، والبغض ،والنفور، والقسوة .
ولقد ورد في كتاب الله عز وجل نموذج الاختيار الموفق في علاقة الزواج ، ويتعلق الأمر باقتران نبي الله موسى عليه السلام بإحدى بنتي نبي الله شعيب عليه السلام. ومع أن إرادة الله عز وجل اقتضت أن تجمع بين نبي وبنت نبي، وقد اصطفاهما اصطفاء ، فإنه سبحانه وتعالى جعل لنا في كيفية اختيار الواحد منهما الآخر عبرة ، وقدوة . ولا يوجد أفضل من كيفية بناء علاقة زوجية بين نبي وبنت نبي .
أما نبي الله موسى عليه السلام ، فقد وكّل ربه سبحانه وتعالى بأن يختار له حيث قال كما جاء في كتاب الله عز وجل : (( رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير )) شاكرا بذلك نعم الله عز وجل عليه ، ومستزيدا منها ، ومن النعم التي كان مفتقرا إليها نعمة الزواج، وهي من أعظم النعم التي جعل فيها الله عز وجل السكينة والمودة والرحمة ، وكان نبي الله موسى عليه السلام أحوج ما يكون إلى ذلك، وهو في حالة فرار وخوف من فرعون وملائه . وشاء الله تعالى أن يجمعه ببنتي نبيه شعيب عليه السلام بمدين ،وقد عاينهما ،وهما تذودان لتسقيا أغنامهما، ولا تستطيعان ذلك لازدحام الرعاء حول المورد ، فرقّ لحالهما وأشفق لحالهما ،فسقى لهما ، وكان ذلك أول بذرة رحمة ألقاها الله عز وجل في قلبه ، كما ألقى مثلها في قلبيهما ،فقصتا على أبيهما المعروف الذي أسداه إليهما مع الإشادة بما لمستا فيه من شيم حميدة قوة وأمانة .
وأما إحدى بنتي شعيب عليهما السلام ، فقد عبرت عن رغبتها في أن يستأجر أبوها موسى عليه السلام للخدمة عندهم ، لما ألقى الله عز وجل أيضا في قلبها من رحمة بعابر سبيل قدم لها ولأختها خدمة لوجه الله تعالى دون انتظار أجر منهما على ذلك ، لهذا رأى نبي الله شعيب عليه السلام أن يدعوه ليجزيه على ما قدمه لبنتيه وله من خدمة .
ولقد ذهب نبي الله شعيب عليه السلام إلى أبعد من استئجار نبي الله موسى عليه السلام حيث عرض عليه أن يزوجه إحدى بنتيه ، وكأن الأب النبي الكريم أدرك رغبة بنته في الاقتران بموسى عليه السلام من خلال تعبيرها عن ذلك بطريقة غير مباشرة ، وبما يتطلبه الموقف من حياء البنت الناشئة في بيت النبوة . ولما كان وجود نبي الله الشاب القوي الأمين موسى عليه السلام في بيت نبي الله شعيب عليه السلام وهو الشيخ الكبير ومع بنتين غير ممكن دون ارتباطه بإحداهما ، فقد عاجله باقتراحه أن يقترن بمن يشاء منهما، فوقع اختياره على الحيية التي جاءته تمشي على استحياء وهي البنت الصغرى واسمها صفورة كما جاء في رواية أبي ذر .
ويفهم من هذا أن موسى عليه السلام و صفورة بنت شعيب على أبيها وعليها السلام قد اختار كل منهما الآخر على أساس خلقي ـ بضم الخاء واللام ـ حيث أعجبت بقوته وأمانته ، كما أنه أعجب بحيائها وحسن تربتها ، وهو أساس متين تنشأ عنه علاقة زوجية موفقة . وكلاهما ألقى الله عز وجل في قلبه رحمة بالآخر حيث أشفق نبي الله موسى عليها وعلى أختها لضعفهما ، وأشفقت هي عليه لغربته وكونه عابر سبيل . ولما تم القران بينهما مكّن الله عز وجل قلبيهما مما جعله في العلا قة الزوجية من مودة ورحمة ، فصار يخدم أباها وشقيقتها ويخدمها ، وهي تخدمه أيضا بمودة ورحمة متبادلة بينهما .
إن هذا النموذج من العلاقة الزوجية الموفقة يجب أن يكون غاية كل من يروم الزواج حيث يقتدي المؤمنون بنبي الله موسى عليه السلام في اختيار الزيجات ، وتقتدي المؤمنات بصفورة بنت شعيب عليهما السلام في اختيار الأزواج ، فتكون البداية عبارة عن رحمة يستشعرها بعضهم تجاه بعض ، ثم تتقوى بعد الاقتران ، مصحوبة بالمودة .
فهل يوجد في زماننا هذا من يقتدي بموسى عليه السلام ، فيختار الزوجة المسكينة الضعيفة المحتاجة إلى المساعدة ؟ ألا يحرص الراغب في الزواج اليوم على اختيار الغنية والمستغنية عن المساعدة طمعا فيما تملك من مال وجاه وامتيازات مادية ومعنوية ؟
وهل توجد في زماننا هذا من تقتدي بصفورة بنت شعيب عليهما السلام ، فتختار القوي الأمين الفقير المحتاج إلى المساعدة ؟ ألا تحرص الراغبة في الزواج اليوم على اختيار الغني طمعا فيما عنده من مال وجاه وامتيازات مادية ومعنوية ؟
فكيف يمكن أن تتوج العلاقات الزوجية في زماننا هذا بالنجاح ، وهي مبنية على أسس واهية غير الأسس الثابتة التي بنيت عليها العلاقة الزوجية بين نبي موسى وصفورة بنت نبي الله شعيب عليهم جميعا الصلاة والسلام ؟
وسوم: العدد 803