عندما يختلف إخوة العقيدة
أن يختلف رجلان أو حزبان أو دولتان، ويبلغ الاختلاف بينهما درجات سيئة، فمن السهل أن نرُدّ ذلك إلى صراع المصالح، ثم إلى غياب الرادع من دين وخُلق. ولكن أن يختلف إخوة العقيدة، من أبناء مذهبين، أو تنظيمين... وأحياناً من أبناء تنظيم واحد، أو من تلاميذ شيخ واحد، حتى يحقد أحدهما على الآخر ويكيد له، ويعامله بغلظة وجفاء، وقد ينسب إليه الجرائم ويصدّق فيه قولَ العدوّ... وتسألُ أحدهما عن اختلافه مع أخيه فيأتيك بأدلّة، فيها الحقائق، وفيها الظنون (وقد يكون فيها الأكاذيب)، ثم تسأل الآخر فيأتيك بمثْل ما أتى به الأول من حقائق وظنون... فماذا تفعل؟!.
تقول لأحدهما: عليك أن تتحلى بالصبر وبالصفح وبإحسان الظن وبالتسامح... فهذا الذي يليق بأخوين مؤمنين، فيقول لك: لكنّ صاحبي يقابل ذلك بالعناد والعنت والتصلب، ويظن بي الضعف وقلة الحيلة، ويستغل سماحتي وصفحي بأن يحقق المكاسب ويظهر أمام المجتمع أنه صاحب الحق...
وتُقدّمُ هذا النصح لصاحبه فيجيبك بمثل ما أجاب الأول!!.
ولسنا نتحدث هنا عمن يبلُغ بهما الاختلاف أن يخوّن أحدهما الآخر، أو يكفّره، أو يستبيح دمه... إنما نتحدث عمن هم أعقل من ذلك!!.
ومما يدعو إلى الأسف، بل إلى السخرية المُرّة أن يكون هذان المتخاصمان ممن يزعم كل منهما أنه ممن يهتم بتزكية النفوس، أو أن يكونا ممن يعملون على استعادة مجد الإسلام وتحكيمه في حياة الناس، أو ممن يزعمون لأنفسهم حُسنَ التأسّي برسول الله صلى الله عليه وسلم. وتزداد السخرية مرارةً أن يستشهد أحدهما بقول الله تعالى: (وقولوا للناس حُسناً). {سورة البقرة: 83}. وكأن أخاه الذي يخاصمه ليس من الناس الذين يتوجب عليه أن يقول لهم حسناً!!.
ويبلغ الأسف ذروته أن العدو يتربّص بهما جميعاً، ويفرح لخصومتهما ويتمنى لو ضرب أحدُهما الآخر، بل: لو قتل أحدهما الآخر.
* * *
وأحسبُ أن هذه المشكلة لم تعُد أمراً نادراً في حياة المسلمين، بل تكاد تمثّل ظاهرة!. ولعل لدى كل منا شواهد يستطيع أن يستحضرها متأسّفاً، ثم يقف متحيّراً بين المتخاصمين، أو يقف متحيّزاً لأحدهما.
فهل من حل؟. إنه لو وقفتِ المسألة على مال يطالب به أحدُهما الآخر، لأمكن التوسّط بينهما على مقدار يقطع النزاع، أو لأمكن أن يتدخل طرف ثالث فيحمل المبلغ كله على عاتقه. أما والقضية قضية قلوب ونفوس وشهوات ورغبة في المغالبة وطلب الرئاسة... فلا يسعُنا إلا أن نذكّر، (فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين). {سورة الطور: 55}.
1- لقد كاد إخوة يوسف لأخيهم حتى قال قائلهم، كما ذكر لنا ربنا سبحانه: (اقتُلوا يوسفَ أو اطرحوه أرضاً)، ثم مكّن الله ليوسف في الأرض، وجاءه إخوته فعَرَفَهم وهم لهم منكرون، فما كان من خُلقه إلا أن قال لهم: (لا تثريب عليكم اليوم، يغفرُ الله لكم، وهو أرحم الراحمين). {سورة يوسف: 92}.
2- بيّن لنا ربنا سبحانه أن الشيطان ينزغ بين عباد الله، وأن المخرج من ذلك هو كما قال سبحانه: (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسنُ، إن الشيطان ينزغ بينهم). {سورة الإسراء 53}.
3- وتتتابع الآيات تحذّر من التنازع، وتأمر بالمصالحة وتهدي إلى طريق الألفة والمحبة:
(واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا. واذكُروا نعمةَ الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً). {سورة آل عمران: 103}.
(ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم). {سورة الأنفال: 46}.
(ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم). {سورة فصلت: 34}.
4- وتأتي توجيهات النبي الحكيم الكريم، صلى الله عليه وسلم، لتضع البلسم على الجرح:
"والكلمة الطيبة صدقة". متفق عليه.
"المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسْلمه". متفق عليه.
إنها دعوة لكل مسلم أن يتحلى بأخلاق الإسلام: حِلماً وسماحةً وصفحاً وصبراً وخفض جناح للأخ، وأن يكون شديداً على الكفار، رحيماً بإخوانه.
وفي أخبار السلف الصالح الكثير من هذه الأخلاق. وما أجمل قول الإمام الشافعي:
من نــال منّي أو عَـلِــقتُ بذمّته ســــامـــــحــتُه لله، راجــيَ مِـــنّته
كي لا أعوّق مسلماً يوم الجزا ءِ، ولا أسيءَ محمداً في أمته
وسوم: العدد 810