مرة أخرى.. عاد الكهنوت الرسمي ومعه بعض المشفقين!

[باختصار، من مقال منشور في مجلة الدعوة – العدد 68 – كانون الثاني 1982م]

فيما سلف من سنين كان الشباب المسلم المتبرعم في بعض بلاد العرب يتعرض لحرب إبادة على أيدي الأنظمة، وكان بعض شيوخ المواكب وأصحاب المناصب من رجال الكهنوت الرسمي يهللون ويكبّرون، وكانوا يقدّمون الفتاوى المجانيّة لسحق الشباب المسلم، وكانوا يقولون عن هؤلاء الشباب إنهم غلاة ومتطرّفون وكفرة وخوارج وتنطبق عليهم أحكام الحرابة والخروج على إمام المسلمين، وكانوا يقولون للدنيا إن الإسلام إنما هو إسلام جمال عبد الناصر وإسلام البعث وإسلام الكهنوت الرسمي الذي خرج من رحم الأنظمة واستمرت الحكومات ترضعه وتحميه وتملي عليه ما تريد أن يقول.

آنذاك كان المقصود بالحرب هو الإسلام وجوداً وعقيدة ونظاماً وقيماً ومجتمعاً وأفراداً. وكان المرتزقة ورجال الكهنوت يعرفون ذلك جيداً ولا يملكون سوى أن يقولوا للجماهير ليلَ نهار: إن كل القصة هي قصة الإخوان المسلمين وإرهاب الإخوان المسلمين، وإنه لا بد من إيقاف الإخوان المسلمين عند حدودهم. ومن الإنصاف أن نقول إن الجماهير في أماكن كثيرة ولزمن غير قصير صدقت الرواية المكذوبة.

ثم انقضَت تلك الفترة في مصر واستمرت في سورية. وفي فترة "استرداد الأنفاس" عاد كثيرون يعتذرون. وبعض المعتذرين اعتذروا عن ندم وأوْبة، وبعضهم عن مجاملة للجو الجديد، وعن حياء من الوجوه الطيبة التي خرجت من السجن، وكانوا يحسبون أنها لن تخرج أبداً ولن يحدث هذا الحرج!.

أما في سورية فاستمر سقوط الضحايا وتقديم الشهداء وصفوف بعد صفوف من المسجونين والمشردين والأيامى واليتامى، وباختصار: إن الوضع في مصر والشام وضع جهاد وعزيمة أو ابتلاء وصبر ووضع جد وخطر لا ينفع معه هزل وترف وتهاون وخذلان.

ومرة أخرى عاد الكهنوت الرسمي هنا وهناك يستثمر الوضع ويزيّف الأمور ويصرف الناس عن حقيقة المعركة بين الفجر الإسلامي الصادق الآتي، وبين قوى الظلام الحاكمة. وإذا كان الكهنوت الرسمي في الخمسينيات والستينيات يركز على الإخوان المسلمين ليصرف الأنظار عن الإسلام المقصود بكل الحرب فهو في السبعينيات والثمانينيات يتحدث عما يسمى بـ "التكفير والهجرة" وأشباه هذا الملصق، ليصرف الأنظار مرة أخرى عن الهدف الحقيقي والأكبر، أي الوجود البيولوجي البسيط للإسلام.

غير أن المؤلم في ظروف سجن وقتل وقهر – وقد بلغت القلوب الحناجر- هي مواقف وتنظيرات بعض السائرين في قافلة العمل الإسلامي.

يقولون: كان الأجدر بالشباب المسلم المغامر المسجون والمقتول أن يكون الآن بين الناس يصحح عقائدهم ويربّيهم ويعدّهم للغد الإسلامي. ويقولون: سامح الله القيادات! لقد شحنت الشباب بحماسة أبعدتهم عن الواقع ونأتْ بهم عن الطريق الحق. ويقولون: إنما هي معارك لا تُجدي ولا تنفع. ويقولون: إنما هي الرغائب السياسية من غير بناء في العقيدة متين. ويقولون: قاتلَ اللهُ الطيش فما جاءت منه إلا الحتوف.

يبدو أن من غير المجدي تماماً أن نذكّر إخواننا هؤلاء بأن الشباب المسلم ليس خبزه اليومي هو الحديث المملول عن التكفير والخروج. ويبدو أيضاً أن من غير المجدي أن نسألهم تلك الأسئلة التقليدية: وهل تحسبون الطواغيت اليوم أقل ذكاءً منكم كي يتركوا الإسلام يتبرعم ويقوى في هدوء؟ وهل الشباب المسلم المجاهد في الشام لجأ للنار إلا بعد إكراه وبعد عشرات السنين؟.

ومَن أخبركم – سلّمكم الله- أن القاعدة الشرعية لطواغيت هذا الزمن المعقد داخلياً ودولياً هي نفسها القاعدة التي تربع عليها المأمون أيام أحمد، والمماليك في زمن ابن تيمية؟ وماذا أنتم فاعلون وقد فرضت المعركة نفسها وغدا التراجع فراراً من الزحف؟.

ولكن أليس مؤلماً أن تتصل ملحمة النار والسجن والقتل، وتزلزل الأرض تحت أقدام المسلمين في بعض البلاد، ثم يبقى فريق من شباب الإسلام لا يعنيهم الأمر؟ وإن قالوا شيئاً بالتصريح أو بالتلميح قالوه بلغة الإشفاق فحسب؟ أو قالوا: لو أطاعونا ما قُتلوا وما سُجنوا؟.

بالأمس كان الشباب المسلم المسجون والمشرّد والمقتول يشتكي إلى الله ظلمَ الحكام والكهنوت... واليوم يشتكي إلى الله ظلمَ الحكام والكهنوت وبعض المشفقين القابعين بعيداً عن ميدان المعركة وساحة الصراع.

وما دمتم قد كففتم أيديكم فلا أقل من أن تكفوا ألسنتكم، والله يحكم بيننا وبينكم وإليه المصير.

وسوم: العدد 821