ماذا إذا كان المبدأ خاطئا؟
في مسيرتنا المعرفية لنقض التصور العلمي لأصل الوجود والحياة، وبعد الشك العلمي في الفضاء/الفراغ وفي إمكانية التحليق فيه، وفي خاتمة مقالنا السابق حول ملحمة روزيتا الفضائية – التي يدعي العلماء أنها سبحت، ثم نامت، ثم سبحت في الفضاء سنين عددًا في رحلة لتكشف سر الوجود – قلنا إنّه لا بد من قراءة في «المبدأ».
«المبدأ بسيط»، جملة يفتتح بها الفيلم الوثائقي الذي يحمل الاسم (the principle) (1) مناقشته للسؤال الأساس في سياق خلاصة المشهد الكوني: هل نحن كبشر مخلوقات تائهة على كوكب ضائع في فضاء فارغ لا متناه نتج عن انفجار صدفة، ويتسع بعشوائية مطلقة؟
يرى البعض أن «المبدأ» بسيط: «نحن لا شيء»، كما يَنقُل الفيلمُ عن العالم والكاتب في فلسفة العلوم، كارل ساجان: «نحن نعيش على كوكب غير مهم يتبع نجما عشوائيًا تائهًا في مجّرة تتحرك بسرعة خيالية في زاوية منسيّة من الكون، بعيدًا نحو المجهول، وهناك مجرات كثيرة وبعيدة تفوق عدد البشر»!
هكذا ببساطة هي الفلسفة العلمية لهذا الوجود، والتي لنا حولها عودة ضمن هذه السلسلة المعرفية لاحقًا إن شاء الله.
وفي الحقيقة هو مشهد مرعب مقلق، ولا منطقي ولا دلائل عليه، ولكنه مبدأ بسيط، هو المبدأ الكوبرنكي، أو المبدأ الكوني، الذي يصبّ في معنى فلسفي أساسي: لا تميّز لنا كبشر في هذا الوجود، ولا أحد يهتم بنا أو يأبه بوجودنا. ومن ثم لا أماكن فيه مميزة: لا مركز، ولا فوق، ولا تحت، ولا شيء غير المادة التي تكونت عند نقطة عشوائية انبثق عنها الوجود بعشوائية، فلا غاية ولا رسالة ولا قوة حكيمة خلف هذا الوجود، كما يزعم أرباب علم الطبيعة الغربي.
نعم، هذا هو «المبدأ» الذي يدور حوله التصور العلمي للوجود، كما يناقش عدد من علماء الفيزياء والفلك والرياضيات في فيلم «المبدأ»، من منطلق جدلية العلاقة بين الفلسفة والعلم، ويعلقون على مزاحمة العلم للفكر في الإجابة على الأسئلة الوجودية: من أين أتينا؟ من أين جاء الوجود؟ بينما يتفاخر أحدُهم في الفيلم بغرور: «لدينا الإجابة… لدينا نظرية كل شيء»، في تجسيد لتلك الفوقية المعرفية التي يحاول علماء الغرب فرضها على الجميع، كأنهم أرباب الوجود وحكماء البشرية، لا مجرد باحثين في العلوم الطبيعية، يحاولون الفهم، ولا يجاوزن حد الشك العلمي.
وهذا ما يناقشه فيلم المبدأ الشيّق والمبدع، في حوارات مع علماء ومفكرين غربيين على مدار ساعة ونصف، في طرح منفتح يجمع بين الرأي والرأي الآخر، ويمثل نموذجا من الانفتاح قلّما تجده في الأوساط العلمية العربية التي اختارت مبدأ التسليم بالمبدأ، ولم أسرد أسماء العلماء ولا رتبهم من أجل العودة في ذلك إلى فيلم المبدأ نفسه.
وفي المقابل، يطرح المبدأ زاوية مناقضة لتلك الفكرة الفلسفية: إذا كنّا مميّزين على أرض ذات خصوصية فلا بد أن يكون هناك إرادة حكيمة، ثم يتساءل مستنكرا: إذا كنّا غير مميزين فأين الجميع؟ أين البقية الذين يعمرون أرجاء الكون؟ إذ بعد كل الرصد الفلكي لمئات السنين لا توجد أية إشارة لأي وجود آخر محسوس كوجود البشر، كما تستنبط رياضيات المبدأ.
ثم يصل الفيلم إلى القول: إنها لحظة الحقيقة للعلم، لقد جربوا كل الأجوبة وهي لا تصلح، وما اكتشفوه لا شيء، فكيف يصمد هذا المبدأ، بل كيف يصمد هذا المشهد؟ وخصوصًا أمام الملاحظات الحديثة التي تشكّل تحدّيات للفرضيات الأساسية لهذا التصور العلمي للوجود القائم على المبدأ الكوبرنيكي؟
ثم يذكر أحدهم: إن علم الكوزمولوجي الذي يُعنى بدراسة الكون قائم على الفرضيات المتصورة ذهنيا وليس له أساس تجريبي ولا دلائل عليه. وهذا في الحقيقة ما يستوجب وقفة صاعقة من قبل كل أولئك الذين استسلموا لمخرجات العلوم الطبيعية وأسلموا لها حتى اعتبروها حَكَما على غيرها من المعارف ولو كان مصدرها الوحي!
ويروي فيه أحدُ الضيوف أساس المعضلة التي يصعب على الكثيرين الاعتراف بها عندما يقول: في بعض الأحيان الفيزياء الحديثة لا تكون منطقية. نعم لا منطقية، وهنا مكمن الأمر، ومربط الفرس، وخصوصًا عند الاستسلام لنهج تلقي الرواية العلمية، كما بيّنا في مقال سابق، دون ممارسة التفكير الناقد، فها هم علماء الفيزياء أنفسهم يُقررون بغياب المنطق العقلي عن مخرجات الفيزياء أحيانا، فكيف يمكن أن نجعلها حكمًا على معتقداتنا؟
ويصرّح أحد العلماء في الفيلم قائلا: نحن أمام طرح علمي فيزيائي للوجود ليس منطقيا. نعم، هو فعلا كذلك، ولا يهضمه العقل، ولكنه تحت سطوة العلم أصبح غير قابل للنقد ولا مفتوح للدحض!
ثم يطرح الفيلمُ السؤالَ الجريء والذي يمثّل حجر الأساس في رحلة الشك العلمي التي نخوضها: إذا كان المبدأ خاطئًا فإن كل شيء تعلمناه حول الكون كان خاطئًا.
هكذا إذًا، كل التصور العلمي للوجود يمكن أن يكون خاطئًا، من الانفجار الكبير حتى المجرات والمجموعات الشمسية، والسباحة في هذا الفضاء الفارغ.
هكذا ينفتح أولئك العلماء على إمكانية أن يكون التصور العلمي للوجود خاطئًا، فكيف يراه البسطاء والعلماء عندنا أساسًا للتفكير، بل يعتبرونه الحَكَم على فهم آيات الرحمن، ويدفعهم أحيانًا لحرف تلك الآيات عن ظاهرها بالتأويل تحت سيف العلم الذي يمكن أن يكون خاطئًا تمامًا! وكيف تصبح خزعبلات جون أعلى مرتبة في فهم القرآن من تُرجمانه ابن عباس!
وبشكل رئيس، يطرح الفيلم النظرة القديمة حول مركزية الأرض ودوران الإجرام حولها ويبين كيف أن ذلك التصور البسيط قد مكّن البشر قديمًا من وضع التقويمات الزمنية الصالحة (نعم، الصالحة إذا كانت الصلاحية دليلًا على الصحة) وذلك طيلة قرون طويلة، إلى أن جاء كوبرنيكوس، الذي بدأ مشواره كأحد حراس ذلك المبدأ القديم حول مركزية الأرض، ولكنه كره المفهوم – حسب ما يطرح الفيلم – وأراد أن ينقلب عليه، فتفتق عن فكرة تحرّك الأرض وأنها ليست مركز الوجود، ثم صار ذلك الطرح أساس التصور العلمي للوجود، وسرنا فيه قطعانا بشرية تائهة بلا تفكير ناقد، ومن خلاله صرنا بشرا غير مميزين في هذا الوجود، وصار متقبلًا في العلم أن الكون لا محدود وبلا إله وراء وجوده!
وعلى موعد في المقال التالي لنتابع قراءتنا في فيلم المبدأ.
مصدر (1): تسجيل مترجم لفيلم المبدأ
وسوم: العدد 821