الحكاية الكندية: من اللجوء إلى المنفى
اعتصام مجموعة من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان الذي تكرر للمرة الثانية في الأسبوع الماضي أمام السفارة الكندية في بيروت، للمطالبة بالهجرة إلى كندا، مثير ويستحق القراءة والفهم.
ليس الموضوع مجرد رغبة عابرة أبداها بعض اللاجئين في الهجرة هرباً من قساوة العيش، نحن لسنا أمام حالة بحث عن حلول مادية فردية لمسألة الفقر الذي يعانيه اللاجئون كحال الهجرة الفلسطينية الكثيفة إلى الخليج في الماضي. نحن أمام هجرة أخرى، هجرة الماضي كانت بهدف العمل تمهيداً للعودة، أما هجرة اليوم فهي تمهيد لشيء آخر اسمه المنفى.
لماذا كندا؟
في طفولتي سمعت عن كندا مرتين:
المرة الأولى حين هاجر جارنا السرياني، الذي كان يعمل ساعاتياً، أي يصلّح ساعات، إلى كندا. وكان ذلك، إذا لم تخني ذاكرة الطفولة، بعيد الحرب الأهلية عام 1958. قيل إن الرجل الذي شهد في طفولته مذبحة السريان في تركيا أصيب بالخوف، فحمل ساعاته ورحل.
يومها كانت كندا بعيدة وباردة، اللبنانيون والسوريون الذين هاجروا إلى أمريكا الشمالية في القرن التاسع عشر، لم يصلوا إلى أرض الصقيع الكندي. لكن الأمور تغيرت مع الوقت، فهجرة اللبنانيين، وخصوصاً خلال الحرب الأهلية، جعلت من مطاعم مونتريال اللبنانية أحد عناوين المدينة، وأدخلت الكثير من اللبنانيين في حمى الهجرة إلى بلاد تقع في أمريكا لكنها ليست أمريكا.
المرة الثانية حين انتشر في بيروت مشروب غازي اسمه «كندا دراي»، وكان محاولة للتنافس مع «الكوكا كولا»، بتنويعاته المختلفة التي شملت أيضاً البرتقال والليمون وإلى آخره…
لا الساعاتي السرياني ولا مشروب «كندا دراي»، شكلا حافزاً جدياً للهجرة إلى تلك البلاد البعيدة، لكن انهيار لبنان أولاً ثم انهيار المنطقة، جعلا من كندا حلماً لمن ضاقت بهم بلادهم وطردتهم إلى المجهول.
أما الحكاية الفلسطينية مع الهجرة فمختلفة، صحيح أن الفلسطينيين كانوا جزءاً من هجرة القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلى الأمريكتين، وشكلوا جاليات كبرى فيها، غير أن النكبة جعلت من الكلام عن الهجرة، التي لم تتوقف، أشبه بالمحرّم الوطني. فالفلسطينيون ناضلوا كثيراً منذ طردهم من بلادهم ضد المشاريع الغربية لتوطينهم في البلاد العربية. رفض التوطين لم يكن شعاراً لبنانياً اخترعه التيار الوطني الحر، بل هو في الأساس شعار سياسي فلسطيني، كان جزءا أساسيا في تكوين الهوية الوطنية الفلسطينية التي تجددت مع منظمة التحرير.
لكن ماذا يجري اليوم في مخيمات اللجوء في لبنان؟
حكايات شبكات تهريب اللاجئين إلى أوروبا منتشرة في كل المخيمات، كأن سكان المخيمات، وبعد ربع قرن على اتفاق أوسلو الذي تركهم لمصيرهم، اكتشفوا أنهم صاروا شعباً بلا قيادة سياسية أو اجتماعية. كمّ من البشر يعيش في غيتوات مقفلة، يحوط بها الجيش اللبناني من الخارج، وتهيمن عليها منظمات أو فصائل مسلحة فقدت شرعيتها السياسية، وشعب لاجئ لا يملك الحق في العمل والكرامة.
من البؤس الذي صنعته «فتح الإسلام» في نهر البارد، إلى الصدامات المسلحة وتجار الحشيش وعصابات الأصوليين، كأن المخيمات التي صنعت منها الثورة مدرسة للنضال، تآكلت وهرمت وصارت مجرد ضواحي للبؤس، يتكدّس فيها الناس بلا أفق أو أمل.
لم يعد هناك مجال لمناشدة المنظمات أو السلطة الفلسطينية بتغيير الحال، فالمخيمات الفلسطينية التي دُمر معظمها في سوريا، وتحولت في لبنان إلى سجون مفتوحة على الخوف، هي المؤشر الأكبر على أن هناك مرحلة تاريخية انتهت.
المخيمات المهملة في النقاش السياسي الفلسطيني هي المؤشر الذي من خلاله نستطيع أن نقرأ واقع الهزيمة الشاملة، التي يقود عدم الاعتراف بها إلى العار.
الهزيمة بشعة وثقيلة ومؤلمة، لكن العار هو أن لا نعترف بها، لأن الاعتراف هو شرط الخروج منها. لكننا نجد، للأسف، كيف تتلطى قيادات فلسطينية خلف لغة جاهزة ومبتذلة تخبئ فيها بُكمها، هذه الخيول الهرمة صارت في حاجة إلى الرثاء، وإلى من يسدل عليها ستار النهاية.
هناك كثير من الأقاويل عن أن مشروع تهجير الفلسطينيين هو جزء من صفقة القرن، وأن هناك رغبة كندية في المساهمة في حل أو إنهاء مسألة اللاجئين، والحق أني أتمنى ذلك، لأن وقف سيل الهجرة يكون في هذه الحالة ممكناً وبسهولة. يكفي أن تقرر «قوى الممانعة ومحور المقاومة» تغيير المعطيات القانونية التي تحكم الوجود الفلسطيني في لبنان، أو يبدأ مشروع جدي لإعادة إعمار اليرموك، أو يتوقف اضطهاد الفلسطينيين في العراق، كي تبدأ مقاومة جدية للهجرة.
لكن المسألة أكثر تعقيداً، على الفلسطينيين أن ينتظروا لأنهم ليسوا أولوية أحد من العرب أو القوى الإقليمية، فالأنظمة التي تناوبت على قتلهم واضطهادهم مع حلفائها ليست معنية بهم الآن أو غداً.
يكرهون الفلسطينيين ويرفعون شعارات التحرير! وعلى الفلسطينين أن يصمتوا.
فلسطينيو المخيمات يعلمون بحدسهم أن مرحلة جديدة اسمها المنفى قد بدأت، المسألة ليست صفقة القرن بمشاريع رشوتها السخيفة، ولا في اندماج النظام العربي في جوقة ترامب وإسرائيل، المسألة هي أن مشروع إنشاء دولة فلسطينية قد دُفن تحت المستوطنات والتواطؤ العربي والعجز الفلسطيني، وأن الواقع يدخل مرحلة جديدة غامضة.
هذه المرحلة اسمها المنفى، صارت فلسطين منفى لأهلها الذي صار مجرد بقائهم في أرضهم المحتلة هو عنوان نضالهم.
لقد بدأت مرحلة سياسية واجتماعية وثقافية جديدة، وعلينا أن نقرأها بتمعن كي نكتشف من خلالها كيف يستطيع المنفيون الجدد المساهمة في إعادة تأسيس فكرة فلسطين انطلاقاً من مشروع مقاومة الأبرتهايد الإسرائيلي.
وسوم: العدد 841