من هو العميل؟
وصلت التباسات السياسة اللبنانية إلى ذروتها مع حكاية عودة آمر معتقل الخيام العميل عامر الفاخوري إلى لبنان بجواز سفر أمريكي. الرجل الذي كان أحد أبرز جزاري الاحتلال الإسرائيلي، سلّح نفسه بمجموعة من الصور التي جمعته إلى جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إضافة إلى صور في السفارة اللبنانية في واشنطن، صُنعت كي تقوم بتبييض صفحته، أهمها صورته مع قائد الجيش اللبناني.
الضجة التي أثيرت في مواقع التواصل الاجتماعي قبل أن تنتقل إلى الصحافة، قادت إلى اعتقال الرجل، لكنها كشفت التباسات السلطة اللبنانية، وتركيبتها الهجينة، وتناقضاتها التي يجري التستر عليها كي لا يختلّ ميزان السلطة القائمة على التحالف بين التيار العوني وحزب الله مع نكهة حريرية خفيفة لا تغيّر شيئاً في المعادلة.
والطريف أن حكاية العميل الإسرائيلي فاخوري تزامنت مع الاحتفالات بالذكرى السنوية لاغتيال بشير الجميل، الذي كان انتخابه ذروة الاحتلال الإسرائيلي عام 1982.
السلطة التي احتفلت بالحكم بإعدام الشرتوني، ممثلة بالسيد جبران باسيل، هي السلطة نفسها التي تعاون قائدها مع بشير الجميل خلال عمله في الجيش طوال الحرب الأهلية، هذه السلطة صارت حليف المقاومة الإسلامية، وتحوم شائعات اليوم حول احتمال تعرض بعض قادتها للعقوبات الأمريكية. وهي اليوم المتهم الأول في حكاية دخول جزّار الخيام إلى بيروت.
إن أي متفرج من الخارج لهذا الواقع الهجين وغير المألوف سوف يخال نفسه في مسرحية سوريالية، أو في مصح عقلي فقد أطباؤه السيطرة على المرضى فيه.
كيف يكون ما كان وما سيكون؟
كيف دافع العماد عون، حين انتخب نائباً للمرة الأولى، عن ضرورة عودة اللبنانيين الذين ذهبوا مع جيش الاحتلال إلى إسرائيل؟
وكيف يدان العملاء اليوم، ثم يسمح للفاخوري بالعودة قبل أن تستفيق الأجهزة الأمنية على هول الفضيحة وتعتقله؟
لقد أضاف التحالف العوني مع حزب الله نكهته الخاصة على الأعجوبة اللبنانية، جاعلاً من الكلام صابوناً مهمته أن ينزلق ويتلاشى لحظة النطق به. فبينما يعلن السيد نصر الله، الفخور بانتصاره على ركام الشعب السوري، بأن الجيش الذي يقوده هو جزء من كلّ عسكري-سياسي-ديني تقوده طهران، يصرّ العونيون على الاحتفاظ بخطابهم عن السيادة والاستقلال الذي تحوّل إلى مجرد مشروع طائفي صغير، مثَله الأعلى هو أن يتحول الصهر المدلّل إلى بشير جميل جديد.
إنها لعبة كلمات متقاطعة، لا يمكن فكّ رموزها إلا إذا وضعناها في سياقات صراعات القوى الطائفية على السلطة، وهي صراعات تأخذ حجماً كبيراً حين تكون القيادات الطائفية عميلة أو حليفة لقوى إقليمية ودولية.
لم يكن من الممكن انتخاب بشير عام 1982 إلا لأن الدبابات الإسرائيلية كانت في بيروت.
ولا يمكن فهم انتخاب الهراوي ولحود والتمديد لهما إلا في إطار الهيمنة السورية على لبنان.
يجب احترام التاريخ، لا أحد يستطيع أن يُنكر دور المقاومة الإسلامية، لكن أن يُنسخ التاريخ وتتحول المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي إلى مقاومة طائفية هو الجريمة التي تُرتكب في حق وجداننا وتاريخنا.
ولا يمكن فهم صعود الحريرية إلا عبر فهم تمدد الحقبة السعودية قبل أن تكشف عن ضعفها وخوائها.
وأخيراً، لا يمكن فهم انتخاب عون إلا إذا فهمنا ميزان القوى في المنطقة الذي مال لمصلحة إيران، بعد نجاح التدخل الإيراني الروسي في سحق انتفاضة السوريين من أجل حريتهم وكرامتهم.
القوى الإقليمية تلعب في السياسة والنفوذ، والقوى الطائفية تتلاعب بالحرب الأهلية أو بالتلويح بها من أجل زيادة مغانمها في لعبة السلطة اللبنانية التي لا سلطة لها.
هذا هو جوهر اللعبة السياسية اللبنانية. حفلة مغانم لا يمكن الوصول إليها إلا إذا وضعت هذه القوى نفسها في خدمة سيد قوي.
وهذا يعني أمراً واحداً، هو العجز عن بناء نسق أخلاقي يكون يمثابة مرجع وطني.
لا تستطيع أي طائفة التفرد بالسلطة، وعليها تالياً أن تقيم تحالفات داخلية خارج أي موقف مبدئي، والنموذجان الصارخان هما الموقف من عملاء إسرائيل من جهة، والموقف من التدخل اللبناني في المقتلة السورية، من جهة ثانية.
المسألة الأولى تحتاج إلى اتفاق وطني بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً، لأنه يتضمن حسماً ثقافياً وسياسياً جوهره أن تكون المصلحة الوطنية اللبنانية فوق المصالح الطائفية.
أما المسألة الثانية، فلم توضع خارج النقاش بسبب القوة العسكرية التي يتمتع بها حزب الله فقط، بل أيضاً لأن خطيئة دعم النظام المستبد وخرق سيادة لبنان عبر الإلغاء العملي للحدود اللبنانية، تعبّرعن لحظة صعود طائفية في المنطقة، وضعت في الممارسة العملية مسألة تحالف الأقليات.
وسط تحالف ملتبس بين قوتين، قوة تستند إلى مشروع إقليمي إيراني، وقوة تسعى إلى استعادة الموقع المسيحي الطائفي في السلطة كأن اتفاق الطائف لم يكن، يلعب العونيون لعبة التمادي في استغلال الغطاء الدولتي الذي يحتاجه حزب الله.
من قبر شمون إلى الخطاب العنصري الطائفي الذي يوحي بأن السلطة عادت إلى أصحابها القدماء، لكن هذا التمادي يصطدم بالاستحالة والحمق. ولقد وصلت الأمور إلى ذروتها التي لا تُحتمل عبر محاولة التغطية على عودة جزّار الخيام، من خلال تهريب الفاخوري في المطار، التي لم تنجح جزئياً، فصار الطموح هو إطلاق سراحه وطرده من لبنان باعتباره مواطناً أمريكياً.
مصير هذا المجرم يطرح سؤالاً عميقاً يمس مسألتين:
المسألة الأولى هي عجز نظام فيدرالية الطوائف عن بناء توافق وطني في ظل استقطاب حاد تعيشه المنطقة الغارقة في الحروب والمجازر.
المسألة الثانية هي ضرورة إخراج تاريخ المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي من مستنقع اللغة الطائفية. هناك حفلة تزوير شاركت فيها جميع القوى الطائفية قامت بتشويه تاريخ هذه المقاومة، التي تشكلت في البداية من مناضلين علمانيين ديموقراطيين ويساريين. هذه المقاومة لعبت الدور الأول في التحرير قبل أن يُستباح دمها من قبل النظام السوري وحلفائه المحليين.
يجب احترام التاريخ، لا أحد يستطيع أن يُنكر دور المقاومة الإسلامية، لكن أن يُنسخ التاريخ وتتحول المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي إلى مقاومة طائفية هو الجريمة التي تُرتكب في حق وجداننا وتاريخنا.
هزيمة المقاومة الوطنية، التي لها أسباب متعددة لا يمكن اختصارها بالقمع فقط، لا تعني محو تاريخنا، لأنها شكلت محاولة نادرة لكتابة تاريخ وطني خارج عصفورية الطوائف التي تقود لبنان إلى التهلكة.
الموقف من العميل عامر فاخوري يجب أن ينطلق من هذه الحقيقة وإلا فقد معناه.
وسوم: العدد 842