تطهيرات عرقية: من فلسطين إلى سورية
صبحي حديدي
ذات يوم، قبل ربع قرن، ذاع صيت المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس لأنه سُجن ثلاثة أسابيع بسبب رفضه أداء الخدمة الاحتياطية ضمن وحدات الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية. وفور خروجه من السجن صار عضواً مؤسساً في حركة ‘المؤرخين الجدد’ الإسرائيليين، التي ضمّت أمثال إيلان بابيه وتوم سيغيف وآفي شلايم؛ ولعله كان أوّل مَن نحت التعبير، واستخدمه في توصيف اتجاه سعى إلى إعادة قراءة تاريخ إسرائيل، وخاصة سنوات التأسيس، من زاوية ‘النكبة’ والرواية الفلسطينية الموازية. في سنة 2008، واتكاءً على رفض الفلسطينيين لمقترحات السلام التي طرحها الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون، ثمّ انطلاق الانتفاضة الثانية؛ تبدّلت قناعات موريس، جذرياً في مسائل كثيرة، فغادر صفوف الحركة.
ومنذئذ، صار ‘المؤرخون الجدد’ طريدة موريس المفضّلة، والدائمة أيضاً؛ وتحوّل رجل مثل بابيه، الزميل السابق، إلى ‘كاذب في إهاب بطل’، كما جاء في مقال مسهب نشره الأوّل في مجلة ‘نيو ريببليك’ الأمريكية، يراجع فيه ثلاثة من أعمال الثاني. ولم يعد ذنب بابيه، في ناظر موريس، يقتصر على إنصاف السردية الفلسطينية، والذهاب أبعد في إدانة التطهير العرقي الذي تمارسه إسرائيل ضدّ الفلسطينيين، وفضح القيود الناعمة التي تعاني منها الحياة الأكاديمية الإسرائيلية؛ بل توفّر، اليوم، ‘إثم’ جديد: مسانـــدة ‘الجهاديين’ و’الإرهابيين’ المناهضين لنظام بشار الأسد! وأن يكون المرء مع حقّ السوريين في الانتفاض ضدّ نظام استبداد وفساد، انزلق نحو الفاشية القصوى والهمجية المطلقة، من أجل دولة الحقّ والقانون والمساواة والكرامة، في سورية ديمقراطية تعددية؛ أمر يعني، أيضاً، وبصفة ميكانيكية، أنّ المرء ذاته يؤيد الإسلام المتشدد الجهادي، ولا توسّط البتة!
لكنّ حملات التأثيم المتعاقبة هذه، والتي تتفاوت شراستها أو بذاءتها طبقاً لميزان دقيق هو مقدار الإضرار بمصالح إسرائيل، لا تفلح كثيراً في إيذاء صورة بابيه كما استقرّت طيلة عقود، وكما ترسخها أعماله ومواقفه. الرجل يواصل تقديم البرهان تلو الآخر على أنه لا يستحقّ مكانة ‘أشجع مؤرّخي إسرائيل، وأكثرهم مبدئية، وأقواهم حجّة’، كما يصفه الكاتب والمعلّق السياسي الأسترالي المعروف جون بيلجر، فحسب؛ بل أنه الطامح، دون كلل إلى بلوغ ذلك الشرف الرفيع الذي يحلم به ايّ مؤرخ نزيه: نبش الحقيقة، من باطن ركام الأكاذيب. ومن المبهج أنّ أحد أهمّ أعماله صدر مؤخراً بالعربية (تحت عنوان ‘الفلسطينيون المنسيون: تاريخ فلسطينيي 1948′، ترجمة هالة سنّو، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر).
وبعد أبحاث لامعة، مثل ‘تاريخ فلسطين الحديثة’، و’القضية الإسرائيلية ـ الفلسطينية’، و’الشرق الأوسط الحديث’؛ كان بابيه قد أنجز درّة أعماله، في تقديري الشخصي، أي ‘التطهير العرقي فيفلسطين’، 2007. الكتاب يعيد فتح ملفات النكبة من هذه الزاوية المحددة، حيث يساجل بأنه لا مفردة أخرى غير ‘التطهير العرقي’ يمكن أن تنوب عن تلك الممارسات التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في فلسطين آنذاك: أكثر من مليون فلسطيني شُرّدوا، بحدّ السلاح، عن بلداتهم وقراهم وبيوتهم؛ وجرى، عن سابق قصد وتصميم، تنفيذ مجازر جماعية؛ كما تمّ تهديم عشرات القرى الفلسطينية، ضمن مخطط متكامل. ورغم الجهود المنهجية التي بذلتها مختلف المؤسسات الصهيونية لطمس الوقائع الصارخة، مستندة في هذا إلى سطوة واسعة ونفوذ هائل، فإنّ حقائق تلك الجرائم أخذت تتكشف تباعاً، ولا بدّ لها أن تظهر كاملة، غير منقوصة، في أقصى وحشيتها.
وعلى غرار معظم دراسات ‘المؤرخين الجدد’، يناقش بابيه خيوط رواية صهيونية زيّفت التاريخ الإسرائيلي بصفة عامة، وحقائق الصراع العربي ـ الإسرائيلي بصفة خاصة؛ وعلى منوالهم، يذهب إلى تصوير الصهيونية كـ’خطيئة أصلية’ تكمن في أساس تاريخ العنف الذي اجتاح المنطقة بأسرها، ولا يختلف كثيراً مع زملاء له يميلون إلى الحكم على الصهيونية بأنها بقايا مُماتة Archaic من الاستعمار الغربي، سوف تنقرض عاجلاً أم آجلاً. وعن حرب 1948 يحاول المؤرّخون الجدد تهديم عدد من ‘الأساطير’ الثابتة في الرواية الصهيونية الرسمية، وبينها أنّ حرب 1948 كانت دفاع داود (اليهودي الضعيف) ضدّ جوليات (العربي العملاق)، وأنّ الفلسطينيين هاجروا استجابة لدعوة الجيوش العربية، والمنظمات الصهيونية الإرهابية لم تمارس سياسات منهجية لتهجير الفلسطينيين عن طريق إرهابهم وتهديم قراهم وطردهم، الأمر الذي تطوّر إلى مستوى الـ’ترانسفير’ الصريح.
وفي عواقب ممارسات النظام السوري العنفية القصوى الهادفة إلى كسر الانتفاضة الشعبية، ثمة تلك الممارسات التي أسفرت عن كثير من أنماط التطهير، المناطقي والطائفي والإثني، أو حرّضت عليها؛ سواء بوسيلة استخدام أسلحة التدمير الجماعي، أو ارتكاب المجازر ذات الأغراض الطائفية بقصد استدراج مجازر مضادة تتوسل الأغراض ذاتها. وإنّ ملايين المهجّرين بعيداً عن قراهم وبلداتهم ومدنهم، سواء داخل سورية بين منطقة وأخرى، أو خارجها إلى دول الجوار وأربع رياح الأرض؛ هم المؤشر الأكثر إفصاحاً عن تلك الأنماط التطهيرية، وهم أيضاً شكل ومحتوى كلّ مقارنة، مشروعة تماماً، مع مختلف أنماط التطهير التي شهدها العالم الحديث: من أندونيسيا ويوغوسلافيا وكينيا ورواندا، إلى فلسطين والصومال والسودان والعراق.
ولا عجب أنهم يأخذون على بابيه انحيازه الأخلاقي إلى صفّ الشعب السوري، ضدّ واحد من أبشع الأنظمة التي تمارس التطهير، بعد الإبادة الجماعية والمجازر البربرية والمذابح الهولوكوستية.