اعتبار علاج النشوز عنفا ضد النساء أو سوء توظيفه لتبرير تعنيفهن كلاهما سوء أدب مع شرع الله عز وجل
بداية لا بد من وقفة مع عبارة " تخليد اليوم العالمي لمحاربة العنف ضد النساء " الذي يحتفل به في الخامس والعشرين من شهر نوفمبر من كل عام ، ذلك أن التخليد لا يناسب إلا ما كان محمودا يحمد ، والعنف ضد النساء مما يذم ،لهذا الأجدر ألا يقال بتخليد هذا اليوم بل يكتفى باعتباره يوما عالميا لإدانة فعل مذموم.
ومعلوم أنه توجد أشكال مختلفة من العنف في العالم لا يلتفت إليها كما يحتفل بالعنف ضد النساء ، ومن تلك الأشكال عنف الصهاينة ضد الفلسطينيين الذي استكمل عقده السابع ولا زال مستمرا ، وكلما أحيى الفلسطينيون ذكرى مجزرة ارتكبت في حقهم واجههم الصهاينة بمجزرة جديدة إحياء لسابقتها واستمرارا لها . ويحصل هذا بمباركة الغرب الصليبي عقيدة والعلماني مممارسة ، وهو لا يعتبر عنف الصهاينة ضد الفلسطينيين أصحاب الأرض عنفا بل يصفهم بما يصفهم به الصهاينة ، وينعتهم بالإرهابيين حين يقاومون من يحتل أرضهم ويعنفهم ويقتلهم . وفي المقابل يحتفل الغرب مع الصهاينة بذكرى المحرقة ، ويعتبر ذلك عنفا ضدا العرق السامي من طرف النازية ، وهو العنف الوحيد الذي يعترف به .
ومن أشكال العنف الذي لا يذكر أيضا عنف القوى العسكرية الغربية ضد شعوب عربية وإسلامية كما حصل في العراق وأفغانستان وغيرهما. ومن أشكاله أيضا عنف أنظمة عربية مستبدة ضد شعوبها كما هو الحال في مصر وسوريا وغيرهما ، وهو عنف يباركه الغرب أيضا كما يبارك عنف الصهاينة ضد الفلسطينيين .
ومن أشكال العنف أيضا عنف ضد الرعايا المسلمين في بعض بلاد الغرب كما هو الحال بالنسبة لعنف فرنسا ضد النساء المسلمات من خلال ممارسة الضغط عليهن من أجل كشف أجسادهن على طريقة المرأة الفرنسية العلمانية ،علما بأن لباس المرأة المسلمة يعتبر جزءا من تدينها ، وأن الأمر لا يتعلق بمجرد لباس لا دلالة دينية له ، وهو حق يدخل ضمن حرية الاعتقاد التي تزعم العلمانية الفرنسية أنها تضمنه وتصونه لمن يعيش فوق ترابها .
ومعلوم أن العنف وهو قهر نقيض الرفق يكون بطرق وأساليب شتى مادية ومعنوية ، وهو ظاهرة بشرية متأصلة في الطبيعة السبعية للإنسان . والتاريخ حافل بقصص وحكايات عنف الإنسان القوي ضد الإنسان الضعيف ، وهو سلوك يحاكي سلوك الحيوان أو ما يسمى بقانون الغاب .
ولما كان الاعتقاد السائد لدى الإنسان منذ أقدم العصور أن الأنثى أضعف من الذكر قياسا على ما هو عليه الأمر في عالم الحيوان ، فإن الأنثى البشرية كانت عبر العصور ضحية عنف الذكر البشري تماما كما كانت أنثى الحيوان ولا زالت ، وستبقى كذلك إلى أن تحشر الوحوش .
ولقد كان من المفروض والأنثى البشرية مساوية في التكريم للذكر في شرع الله عز وجل أن يتميز التعامل معها عما هو عليه في عالم الحيوان ، وقد فضل الله عز وجل الجنس البشري على كثير ممن خلق تفضيلا ، إلا أن البشرية لا زالت لم تستوعب التكريم والتفضيل الإلهيين لها من خلال ما تمارسه من سلوكات عنيفة ضد بعضها البعض لا تختلف عن سلوكات المخلوقات غير المكرمة وغير المفضلة كالحيوان .
ومعلوم أن الاحتفال بيوم عالمي للعنف ضد النساء إنما كانت بدايته في العالم الغربي الذي كانت فيه النساء ضحايا العنف والظلم . ولما كان الغرب منصبا نفسه قائدا للبشرية بحكم قوته العسكرية والاقتصادية التي صنعها بابتزاز خيرات ومقدرات الأمم المستضعفة ، فإن المنطق الذي يحكم سلوكه هو المنطق الفرعوني الذي وردت الإشارة إليه في القرآن الكريم في قوله تعالى على لسان فرعون : (( قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد )) وقد عقب الله تعالى على قوله هذا فقال : (( وأضل فرعون قومه وما هدى )) .
ولقد رأى الغرب الذي يرى نفسه وصيا على البشرية جمعاء أن يحتفل بيوم عالمي لمحاربة العنف ضد النساء ، وفرض احتفاله على أمم الأرض المستضعفة ، وإن لم تفعل أدانها ما فرضه عليها ،هددها بالعقوبات والمقاطعة والحصار ... وكل ما يراه عقوبة مناسبة لتعود إلى بيت الطاعة .
ويتلقف الخاضعون له والمستلبون بنمط حياته من العلمانيين في البيئات الإسلامية منه الاحتفال بهذا اليوم العالمي ، ويتحينون فرصته للنيل من الإسلام وما شرعه مما لا يرضي العلمانية الغربية وأذنابها أو طوابيرها الخامسة. ومن ضمن ما ينال به من الإسلام ما شرعه الله عز وجل من تشريعات تخص المرأة المسلمة ، ومن ذلك علاج نشوزها في بيت الزوجية ، وهو علاج يتدرج من الوعظ مرورا بالهجر وانتهاء بالضرب . ويسلك العلمانيون الذين يعيشون بيننا ضرب معالجة النشوز ضمن العنف ضد المرأة ، وليس الأمر كذلك إذ شتان بين عنف لا مبرر له ، وبين ضرب يدخل ضمن علاج النشوز .
ولا بد من التذكير قبل الخوض في موضوع التمييز بين ضرب علاج النشوز والعنف الذي لا مبرر له أن نستحضر أمرا مهما وهو أن اختلاف الاعتقاد ينتج عنه اختلاف الحكم على الأمور. فالذين يؤمنون بالله عز وجل يفرض عليهم إيمانه القناعة بأن ما شرعه الله عز وجل هو عدل مطلق لا عيب فيه ، وإنما العيب قد يصدر عن سوء فهمه أو سوء تنزيله من طرف البشر . ولا يعقل أن يقرأ الإنسان في كتاب الله عز وجل قوله تعالى عن كتابه : (( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد )) ثم يخامره شك في عدالة ما يتضمنه من تشريع ، وفي هذا سوء أدب مع الخالق جل وعلا . وعليه فإن الذين يعتبرون تشريعه في معالجة نشوز المرأة بالضرب عنفا ضدها ما قدروا الله حق قدره ، وقد نقضوا بذلك إيمانهم بنسبة الظلم إلى شرعه إن كانوا ممن يدعون الإيمان والإسلام .
ومعلوم أن النشوز ظاهرة طبيعية في كل المجتمعات البشرية يحصل من الذكور كما يحصل من الإناث بحكم علاقة الزواج، وهي علاقة احتكاك يومي بين الأزواج لا يمكن أن يخلو من سوء تفاهم يكون مرده اختلاف الطباع والأمزجة والثقافة... وغير ذلك مما يحول الخلاف بينهم إلى صراع يأخذ شكل النشوز .
والمجتمعات البشرية تختلف حسب قناعاتها في معالجة النشوز في بيت الزوجية. والمجتمعات الإسلامية التي تخضع حسب اعتقادها لشرع الله عز وجل تعالج هذا النشوز كما أمرت بذلك في القرآن الكريم ، وهو علاج يتدرج من وعظ ويكون عبارة عن تذكير بشرع الله عز وجل، وقد يكون ذلك كافيا لدرء النشوز إلى هجران في المضجع إن لم ينفع الوعظ ثم إلى ضرب في حال لم يجد الوعظ والهجر في معالجة النشوز . ومعلوم أن لكل نوع من النشوز العلاج الخاص به ، وليست الزيجات على شاكلة واحدة في النشوز ، ولا على شاكلة واحدة في العلاج المناسب لنشوزهن ، ولا شك أن علاج النشوز بالضرب خاص بنشوز مزمن ليس بعده سوى الطلاق ، وهو أبغض الحلال إلى الله عز وجل ، وهو أقبح من علاج تزول به علة النشوز وتعود المياه إلى مجاريها في بيت الزوجية الذي قد يكون فيه صغار ضحايا الطلاق لا قدر الله . وقد يكون الطلاق على بغضه عند الله عز وجل علاجا للنشوزأيضا إذا لم يجد علاج الضرب ، وقد يصل الأمر إلى حد طلاق بائن لا تعود المطلقة إلى بيت زوجها الأول إلا بعد زواجها من زوج ثان يطلقها ، وقد لا يحصل هذا الطلاق الأخير إلا بعد استنفاذ كل أشكال علاج النشوز للمرة الثانية مع الزوج الثاني ، وفي هذا دلالة على أن نشوز الزوجة في هذه الحال بالغ الإزمان لا علاج له إلا أن تظل طالقا أو تعود إلى زوجها الأول وتتخلى عن نشوزها .
ولا مقارنة بين طريقة معالجة النشوز في شرع الله عز وجل وبين طرق علاجه في غيره من الشرائع الوضعية ،لأن شرع الله عز وجل منزه عن الظلم بينما غيره من الشرائع لا يؤمن ظلمها بل هو محقق .
وإذا كانت المرأة المسلمة التي يلزمها إسلامها بالتسليم بعدالة شرع الله عز وجل ترضى علاجا اختاره الله تعالى لنشوزها ، فإنها لا يمكن أن تقبل بعلاج غيره مما يوجد في غير شرعه من الشرائع الوضعية .
وبناء على هذا لا يمكن القبول بالقول أن علاج النشوز بالضرب هو عنف ضد المرأة . وإذا ما قال ذلك من لا يدين بدين الإسلام أو من يدعي التدين به وواقع حاله خلاف ذلك لا نستغربه منه لأنه وفق اعتقاده وقناعة المخالفين لما يعتقده المسلمون لا يمكن إلا أن يسميه عنفا أو ما شاء مما تمليه عليه قناعته .
ومقابل مقولة من لا يدينون بدين الإسلام في علاج النشوز بالضرب ، نجد بعض من يدعون التدين بدين الإسلام أو بالأحرى ينتسبون إليه أو يحسبون عليه يبررون تعنيفهم النساء بعلاج النشوز بالضرب ، وهم بذلك يجعلون الفرصة سانحة أمام من لا يدينون بدين الإسلام للطعن فيه . والفريقان معا يسيئون الأدب مع شرع الله عز وجل ، ومن ثم يسيئون الأدب معه تعالى علوا كبيرا عما يصفون.
ويجدر بكل زوج مسلمة وكل زوجة مسلمة أن يتنكبا كل أسباب الخلاف المفضية إلى النشوز ، وإلى ما يقتضيه من علاج . وعليهما إذا كان لا مفر من وقوع النشوز، وهو واقع لا محالة في كل حياة زوجية طبيعية ألا يتجاوز علاجه حد الوعظ أو الهجر ألى الضرب .
ولا يمكن أن يفهم من هذا أنه رضوخ أو إذعان لرغبة من يريدون شطب علاج النشوز بالضرب من كتاب الله عز وجل كما يريدون شطب أمور أخرى بذريعة تغيّر الواقع أو تطوره ، وهؤلاء ممن تسول لهم أنفسهم إعمال الأقلام الحمراء لتصحيح كلام الله عز وجل على حد زعمهم وإنما هو دعوة لإصلاح العلاقة الزوجية في البيت المسلم لأن الله عز وجل قبل ذكر علاج النشوز أشاد بالزيجات اللواتي يربأن بأنفسهن عنه كما يتبين ذلك من قوله تعالى : (( الرجال قوّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغون عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا )) ، فصلاح الزيجات وقنوتهن وحفظن الغيب بما حفظ الله عز وجل يغنيهن عن النشوز وعن علاجه بوعظ أو هجر أو ضرب أو حتى طلاق .
ومما تجدر الإشارة إليه أن بعضهم ممن يؤثر فيه ما يصدر عن البعض من اعتبار علاج النشوز بالضرب عنفا ضد النساء يتمحّلون في شرح الضرب حتى لا تذهب الأذهان إلى دلالته الحقيقية ، وتذهب إلى دلالاته المجازية لتفسير قول الله عز وجل تفسيرا يصدر عن مجرد هوى ، وقد سوّقوا لذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، وجعلوا الناس يتعاطون ما يسوقونه ويتبادلونه فيما بينهم ، وتلك حيلة ماكرة الغرض منها صرف الناس عن الدلالة الحقيقية للكلمة وإبطالها على أساس أنه أسيء فهمها ،فقالوا من دلالات هذه الكلمة : التحرك لقولهم : ضرب القلب إذا تحرك ،والشدة لقولهم : ضرب الجرح أو الضرس إذا اشتد ألمه ، والاختلاج لقولهم :اختلج العرق إذا انتفض ، والسباحة لقولهم : ضرب في الماء إذا سبح ، والإفساد لقولهم: ضرب بين الناس إذا أفسدهم ، والتسليط لقولهم : ضرب الله قلوب بعضهم ببعض إذا سلط بعضهم على بعض ، والنوم لقولهم : ضرب النوم على أذنه ، والسفر لقولهم: ضرب في الأرض ،والقتل لقولهم : ضرب عنفه ، والكتابة لقولهم: ضرب على الآلة الكاتبة ، والعزف لقولهم : ضرب على الآلة الموسيقية ،والوقاع لقولهم: ضرب الفحل الناقة إذا واقعها ... إلى غير ذلك من الدلالات المجازية لفعل الضرب . ونظرا لكثرة تلك الدلالات يريد هؤلاء حمل دلالة ضرب علاج النشوز على إحدى تلك الدلالات المجازية ليّا لعنق الآية الكريمة لإرضاء من لا ترضيهم دلالته الحقيقية .
ولا ندري أية دلالة من هذه الدلالات المجازية مما مر بنا ستسد مسد ضرب علاج النشوز بالنسبة لهؤلاء؟
وسوم: العدد 855