ملخص كتاب أصل الإنسان بين دارون والإنسان

”لا تكن محدوداً ضمن دائرة خيال الآخرين. إذا تبنيت مواقفهم فهذا معناه أنك غير موجود لأنك أغلقت الباب. يمكنك أن تسمع حكمة الآخرين، ولكن عليك أن تقيم العالم بنفسك.“

- ماي جيمسون، مهندسة وطبيبة ورائدة فضاء بشركة ناسا.

}فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ﴿27 يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴿28 فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ﴿29 قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ﴿30 وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴿31 وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴿32 وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴿33 ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ﴿34{ سورة مريم.

لقد تكلم النبي عيسى في المهد بعد أن ولدته أمه مريم العذراء من دون أب! .. ولادة عذرية أنجبت مخلوقاً فيه صفة بيولوجية جديدة. لابد وأن تغييرات للمورثات حصلت في رحم مريم فأنجبت مخلوقاً جديداً متطوراً ناطقاً في المهد .. فكيف حصل هذا؟

*****

يقول الشيخ "د. ياسر قاضي" أحد علماء المسلمين في أمريكا:

«في العشرين سنة الماضية برزت إحدى النظريات لتكون - وفي رأيي المتواضع - أكبر صراع حصل في تاريخ ديننا بين القرآن والعلم. لم يحصل أبداً بين العلم والقرآن أزمة أكبر من التي نشهدها حالياً مع نظرية التطور.

في رأيي المتواضع، لم توجد نظرية تحدت القرآن مثل هذه النظرية، وعلينا أن نكون شجعان بشكل كافٍ لنعترف بذلك، وأن نكون صريحين وصادقين لنتكلم عنها بخلق ناضج، وأن نصغي بانتباه لما يحصل من دون رمي الاتهامات بالكفر والشرك. وهؤلاء الذين يريدون أن يتكلموا في هذه المسألة، عليهم أن يثقفوا أنفسهم في العلوم. للأسف، أكثر المسلمين جهلاء بعلوم هذه النظرية».

أقول، لقد قبل القرآن التحدي، فالجواب موجود بين صفحاته منذ 1400 عام، يمكن رؤيته لو أزحت عن البصر غمامة مخلفات الماضي، ونظرت إلى آياته بعين طفل بريء لا تعكر عقله مكدسات الماضي. وبعون الله تعالى، طَرَحتُ جواب تلك المعضلة مفصلاً داخل صفحات هذا الكتاب مع الدليل والبرهان، عسى ذلك أن يثلج صدور المؤمنين العالمين المتعلمين الذين أرقتهم حقائق نظرية التطور. فالله تعالى لن يترك كتابه عرضةً لتهكم المتهكمين واستهزاء الساخرين، }حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا{ يوسف:110.

هذا هو القرآن، لقد تحدى الناس منذ نزوله وسيبقى يتحداهم حتى آخر الزمان، ولكن آياته تحتاج إلى جهد وعمل شاق حتى تبان حقائقه. فأطلال نظرية التطور ليست في أرض الله فقط، بل متناثرة في صفحات قرآنه منذ 1400 عام بغموض سحيق أشبه بلغز عقيم.

*****

ملخص ما أجمع عليه المفسرون وعلماء المسلمين في خلق آدم هو أن الله تعالى قبض قبضة من طين من جميع أنحاء الأرض وصنع منها تمثالاً أجوفاً بيديه على صورة آدم. فمنهم من قال إن الله خلط التراب والماء ثم عجنه بيديه ليكون طيناً، ثم صنع منه تمثال آدم وتركه ليجف أربعين سنة. ومنهم من قال إن الله تعالى وضع تمثال آدم تحت الشمس ليجف. ثم نُفخت الروح في تمثال آدم فدخلت في رأسه فعطس. فقالت الملائكة، قل: الحمد لله. فقال آدم: الحمد لله، فقال له الله: رحمك ربك. فلما دخلت الروح في عيني آدم، فنظر إلى ثمار الجنة. فلما دخلت الروح في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عجلان إلى ثمار الجنة. ومنهم من قال بأن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته!

أما ملخص قصة خلق حواء الدارجة بين المسلمين تقول، بأن آدم كان وحده في الجنة، ولم يكن له في الجنة من يجالسه ويستأنس به، فألقى الله تعالى عليه النوم فنام. فخلق الله تعالى زوجته حواء من أقصر أضلاع صدره الأيسر، ووضع مكان الضلع لحماً من غير أن يشعر آدم بألم. فلما استيقظ آدم من نومه رآها جالسة إلى جنبه كأحسن ما خلق الله تعالى، فقال لها من أنت؟ فألهمها الله الجواب قائلة أنا زوجتك حواء لتسكن إلى وأسكن إليك.

قصة خلق آدم وحواء المنتشرة بين المسلمين وعلمائهم تعارض صريح آيات القرآن. سأعقب على ذلك بالتفصيل داخل الكتاب بإذنه تعالى.

*****

هل يعارض القرآن نظرية التطور؟ وهل تعارض نظرية التطور القرآن؟

إذا كانت المخلوقات خرجت نتيجة التطور، فهل هذا معناه أن الله لم يخلقها؟ وهل هذا معناه أن الله لم يخلق آدم مباشرة من طين؟

الأدلة العلمية قوية وصريحة بأن المخلوقات خرجت من بعضها البعض بسبب عملية التطور. والقرآن يقول بصراحة، أن الله تعالى خلق الإنسان من تراب وطين وبيديه ثم قال له كن فيكون، فمن أصَدق؟ ولماذا؟ وهل يمكن أن يكون الاثنان صحيحين بآن واحد؟ ألا يقول القرآن، }قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ{ النمل:64؟ والعرب تقول، البينة على من ادعى.

تشير الأبحاث الجديدة إلى أن الإنسان يحمل مورثات المخلوقات التي خرج منها بدءاً من الخلية الأولى. فالخلية الأولى كانت تحوي على بضع عشرات من المورثات فقط، والإنسان يحمل داخل كل خلية في جسمه حوالي 23,000 مورثاً، فمن أين أتت كل هذه المورثات السليمة في جسم الإنسان والتي تحوي على مورثات المخلوقات السابقة التي خرج منها؟ وكيف حصل هذا التغيير؟ }كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ{ الأنعام:133.

تشير الأبحاث الجديدة أيضاً إلى أن المخلوق من النوع الجديد لا يتطور بسبب تغيير يحصل في مورثات خلايا جسمه، بل بسبب تغيير يحصل في مورثات الخلايا التناسلية للمخلوق الذي خرج منه، فكيف يحصل هذا؟ }هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ{ آل-عمران:7.

تشير الأبحاث في علوم التطور إلى أن التغيير الذي يحصل في مورثات الخلايا التناسلية للمخلوق يكون كبيراً وصحيحاً وفجائياً ويحصل خلال جيل واحد، فيخرج من المخلوق القديم مخلوقٌ جديد يحمل صفاتاً جديدة تناسب البيئة، وهذا ما أذهل الباحثين، فمن أين أتى هذا التعديل المفاجئ والصحيح داخل الخلايا التناسلية دفعة واحدة؟ }وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا{ التحريم:12.

القرآن يقول بكل صراحة، }يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً{ النساء:1، أي أن الناس كلهم بمن فيهم آدم وحواء خلقوا من نفس واحدة، لأن آدم وحواء من نوع الناس، ولو كان المقصود بهذه الآية نسل آدم فقط لقال القرآن، (يا بني آدم اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة). فمن هي تلك النفس الواحدة التي خُلق منها الناس كلهم بمن فيهم آدم وحواء؟

وكذلك يقول القرآن، }يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا{ الحج:5، وفي آية أخرى، }إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ{ الإنسان:2، أي أن الناس كلهم سواء كانوا ذكوراً أم إناثاً خلقوا من نطفة، بمن فيهم آدم وحواء وعيسى، ولو كان المقصود نسل آدم فقط لقال القرآن، (إنا خلقنا بني آدم من نطفة). فالاعتقاد السائد بأن حواء خلقت من ضلع آدم، هو اعتقاد خاطئ بنص القرآن. وهنا يطرح سؤال هام يقلب الاعتقادات السائدة رأساً على عقب وهو، كيف تم خلق آدم وحواء وعيسى من نطفة؟

وفي الآية، }فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴿5 خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ﴿6 يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴿7{ سورة الطارق، تجزم بأن خلق الإنسان كان من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب، وهذا يشمل خلق آدم وحواء وعيسى. فما هو المقصود بالماء الدافق؟ ومن أين يخرج؟

وفي الآية، }أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴿36 أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ﴿37{ سورة القيامة، تجزم أن الإنسان خُلق من مني يمنى أي يُصَب في الرحم، وهذا يشمل أصل آدم وحواء وعيسى.

وفي الآية، }وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ﴿45 مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ﴿46{ سورة النجم، تجزم بأن كل إنسان سواء كان ذكراً أم أنثى قد خُلق من نطفة تُصبُ في الرحم.

ويقول القرآن، }يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ{ الحجرات:13. فهذا ينطوي عليه أن آدم وحواء وعيسى خُلقوا من ذكر وأنثى، لأن آدم وحواء وعيسى هم من نوع الناس، فكيف يقول القرآن أن عيسى خُلق من أم دون أب؟ ويقول المفسرون بأن آدم خُلق من دون أب وأم، وأن حواء خلقت من ضلع آدم؟ مع العلم أنه لا يوجد آية في القرآن تجزم بأن آدم وحواء خلقا من دون أب وأم. ولا يوجد آية في القرآن أو حديث عن رسول الله يجزم بأن حواء خلقت من ضلع آدم، أي من أحد عظام صدره، بل الحديث قال من (ضلع) ولم يفصل.

القرآن كتاب قول الله صرح بأن عيسى الناطق في المهد قد خرج من مخلوق ناطق يشبهه ولكنه غير ناطق في المهد. أما في كتاب صنع الله في الأرض، فإن الحقائق الدامغة فيه والتي ليس فيها أي شك، تشير بأن الإنسان قد خرج من مخلوق يشبهه ولكنه غير ناطق. فلماذا نصدق الأولى وننكر الثانية؟ أليس هناك تشابه بين الحادثتين؟

وفي الآية، }إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ﴿71 فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴿72{ سورة ص، تشير إلى أن آدم خرج من مخلوق قبله سماه الله بالبشر بعد أن سواه ونفخ فيه من روحه، فمن هو البشر؟ ونحن نعلم أن الإنسان يطلق عليه اسم البشر، وعيسى عليه السلام يطلق عليه اسم البشر أيضاً، رغم أنه هناك خلاف بينه وبين آدم هو النطق في المهد. فهل كانت هناك مخلوقات من البشر غير مستوية خرج منها آدم؟ وهل كانت ناطقة؟

لقد أقر القرآن بأن عيسى هو ابن مريم، فلا بد وأنه هناك صلة بيولوجية بين عيسى وأمه، وبمعنى آخر لابد وأن عيسى خُلق من بويضة مريم، }ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ{ الأحزاب:5. فكيف يقول القرآن بأن عيسى خُلق من تراب ثم قال له الله كن فيكون؟

حسب القرآن، فإن عيسى البشر الناطق في المهد خرج من جراء نفخة من روح الله في فرج أمه مريم، وآدم البشر الناطق خرج من جراء نفخة من روح الله في مخلوق البشر بعد أن سواه الله، فما هو وجه التشابه بين الحالتين؟ وما هو سر هذه النفخة من روح الله التي أخرجت آدم الإنسان الناطق من مخلوق البشر، وأخرجت عيسى الناطق في المهد من مخلوق البشر الناطق (أي الإنسان)؟

هذا ما سأبحثه في صفحات هذا الكتاب. ففي البحث في تفاصيل آيات الله بعمق وعلم في الأرض وفي القرآن سيأتي الجواب. ونتيجة هذا البحث، أن الخَلق والتطور حصلا مع بعضهما البعض، خَلق تبعه تطور. فلا تطور من دون خلق. والتطور الذي حصل للمخلوقات الحيوانية بما فيها الإنسان، كان بسبب خَلق خلايا تناسلية تحمل مورثات جديدة، وليس بسبب طفرات تحدث بشكل عشوائي في مورثات الخلايا التناسلية.

الأبحاث الجديدة أثبتت أن التطور لا يحدث بسبب تعديل في مورثات خلايا جسم المخلوق، بل بسبب تعديل وتغيير يحدث في مورثات الخلايا التناسلية للمخلوق. وعندما يحصل التلقيح لتلك الخلايا التناسلية داخل الرحم، فتحمل الأنثى مولوداً فيه خصائص جديدة لم تكن موجودة في أبويه، وتورث هذه الخصائص لذريتها جيلاً بعد جيل، }هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ{ آل عمران:7.

يقول القرآن، }وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ{ العنكبوت:43. لقد ضرب القرآن مثلاً رائعاً عن عملية الخلق والتطور من خلال قصة مريم، وحملها لابنها عيسى الذي نطق في المهد. وبذلك جعل الله تعالى مريم وابنها عيسى آية للعالمين في مسألة الخلق والتطور، }وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ{ الأنبياء:91. فعيسى عليه السلام كان مخلوقاً من نوع جديد تطور من نوع الإنسان، وخرج من نسل الإنسان محملاً بمورثات بيولوجية جديدة لم تكن موجودة عند أمه مريم الإنسان، جعلت منه غلاماً زكياً نطق في المهد. وعندما تمثل روح الله لمريم، فإنه وضح لها سبب منحها المولود الجديد، ووصفه بأنه غلاماً زكياً، }قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا{ مريم:19. وكلمة زكياً تعني الزيادة في الشيء، وتأتي بمعنى صفوة الشيء، فعيسى هو مرحلة متطورة من الإنسان، وكان فيه زيادة في الخَلق والخُلق عمن سبقه، }يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ{ فاطر:1. فمن أين أتت تلك المورثات الجديدة في رحم مريم والتي أدخلت زيادة في خلق عيسى؟ هل هي بسبب الطفرات العشوائية؟ أم بسبب عملية الخَلق التي سببت تطور الإنسان إلى مخلوق جديد نطق في المهد؟

إن خروج المخلوق الجديد، يكون إما بسبب خلق الخلية التناسلية الذكرية (النطفة)، أو بسبب خلق الخلية التناسلية الأنثوية (البويضة)، أو خلق الاثنتين معا. ثم نفخ الناتج في فرج أنثى المخلوق الذي سبقه عن طريق روح الله جبريل، كما حصل في حالة عيسى وأمه مريم، }وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا{ التحريم:12، وهكذا خرج مخلوق جديد متطور عن سابقه اسمه عيسى الإنسان الناطق في المهد. هذا المخلوق الجديد تطور من مخلوق سابق يشبهه ولكنه غير ناطق في المهد، فلقد حصل فيه تطور بيولوجي جديد لم يكن موجوداً في المخلوق الذي خرج منه.

لقد نَسب القرآن عيسى لأمه مريم، }ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ{ مريم:34. وهذا فيه دلالة على أن بويضة مريم التي تحوي على مورثات الإنسان استخدمت في عملية التطور. إذاً، فالذي نُفِخ في فرج مريم هو خلية تناسلية ذكرية (نطفة) جديدة خلقها الله تعالى. لقحت هذه الخلية التناسلية الذكرية التي تحوي على مورثات جديدة بويضة مريم، وبذلك حملت مريم بالمخلوق الجديد عيسى، }فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا{ سورة مريم:22. وهكذا كان خلق عيسى من تراب، ومن أم دون أب، فهو خلق للخلية التناسلية الذكرية من تراب والتي تحمل مورثات عيسى الجديدة التي صنعته في رحم أمه.

وحسب القرآن، فإن خَلق آدم يشابه خَلق عيسى، }إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ{ آل-عمران:59، وبنفس المنهج، فقد تم تطوير آدم من مخلوق قبله سماه الله بالبشر، بسبب نفخة من روح الله في فرج أُمِّه التي لم تستطع نطق لغة الكلام. الخلية التناسلية الذكرية الجديدة التي نُفِخَت في فرج أم آدم كانت مخلوقة من تراب، وتحمل مورثات جديدة صَنعت آدم في رحم أمه، وجعلت منه مخلوقاً ناطقاً، }إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ﴿71 فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴿72{ سورة ص. فأمُ آدم كانت من نوع مخلوق البشر الذي تم تسويته عبر أجيال عديدة عن طريق الخلق والتطوير لكل جيل، إلى أن خرج مخلوق البشر الذي يشبه الإنسان الحالي ولكنه لم يكن ناطقاً. ثم نفخت خلية تناسلية جديدة مخلوقة تحمل مورثات آدم في أنثى ذلك المخلوق البشري عن طريق روح الله جبريل، فخرج آدم، }وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا{ نوح:14. لقد نشأ آدم من ذرية قوم يختلف عنهم بميزة النطق، كما نشأ عيسى من ذرية قوم يختلف عنهم بميزة النطق في المهد، }كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ{ الأنعام:133، فالآية صريحة بأن الله تعالى أخرجنا من ذرية قوم آخرين لم تستطع النطق، كما أخرج الله تعالى عيسى من ذرية قوم آخرين لم تستطع النطق في المهد، }عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ{ الواقعة:61.

*****

المكونات البيولوجية المجهرية لأي خلية حية تتشكل دائماً في الطبيعة من التراب والطين والماء بسبب عوامل البيئة. وتجربة ستانلي ميلر، والأبحاث التي حصلت بعدها أثبتت ذلك. هذه الأجزاء البيولوجية للخلية تجمعت بشكل فجائي لتشكل الخلية التناسلية الجديدة، وفيها المورثات الجديدة اللازمة لتطوير المخلوق الجديد. تَم جَمع أجزاء الخلية التناسلية من مكونات الطبيعة بشكل لحظي بيدي الله تعالى وبأمر منه. نُقِلت الخلية التناسلية بواسطة روح الله جبريل، ونفخت في فرج أنثى المخلوق الذي سيحصل عليه التطور.

يدا الله تمسك كل شيء، }وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ{ الزمر:67. ليس معنى الآية أن الأرض قبضته تعالى يوم القيامة فقط، فكل شيء في الكون سواء كان كبيراً أم صغيراً هو قبضة الله تعالى. كيفية هذه القبضة للأشياء غير معروفة، ولكن نشعر بها من تأثيرها على الأشياء. قبضة الله للأشياء هي التي تسبب الجاذبية في الأجسام الكبيرة، كالكواكب والنجوم. وتكسب تماسكاً قوياً للذرات وأجزائها. فيدا الله تعالى تسبب مجموعتين من القوانين في الكون، المجموعة الأولى تعمل على الأجسام الكبيرة، والمجموعة الثانية تعمل على الذرات. هاتان المجموعتان من القوانين لا تتداخلان مع بعضهما البعض. فكل الأشياء مقبوض عليها بيدي الله بشكل لا نعرفه، وتتحرك بأمره سبحانه. فعندما يأتي أمر الله تعالى لأجزاء الخلية وذراتها الموجودة في الطبيعة، فلا خيار لها إلا أن تطيع ذلك الأمر، فهي قبضة من قبضات الله تعالى. فأمر الله تعالى ويداه هم سبب تجميع أجزاء الخلية التناسلية الجديدة من مكونات الطبيعة بشكل لحظي، }قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ{ ص:75.

*****

نظرية تطور المخلوقات من بعضها البعض أثبتت صحتها عبر الاكتشافات المستمرة التي حصلت داخل الأرض منذ زمن دارون، وكذلك من خلال الأبحاث الحديثة في علم المورثات في عصرنا. ولكن الشيء الذي لم يجد له الباحثون جواباً شافياً وقاطعاً منذ زمن دارون هو ميكانيكية التطور أو آلية التطور أو سبب التطور. فكل ما قدمه الباحثون عن آلية التطور هو نظريات وافتراضيات ليس لها برهان. لقد تصور دارون أن آلية التطور تحدث بسبب تغييرات صغيرة عشوائية تحصل داخل المخلوق، تتجمع هذه التغييرات في ذرية المخلوق جيلاً بعد جيل عبر ملايين السنين، حتى يخرج المخلوق الجديد بشكله النهائي. وخلال عملية التطور الطويلة يبقى المخلوق الأصلح للبيئة والباقي يفنى من خلال عملية الانتقاء الطبيعي التي اقترحها دارون دون برهان. لم يحدد دارون سبب التغيير الذي يحصل داخل المخلوق ولم يشرح كيفية حصوله. وعندما خرج علم المورثات، افترض العلماء أن التطور يحدث بسبب طفرات عشوائية تحدث في مورثات المخلوق وذريته على فترات طويله من الزمن. وبعد ذلك أثبتت التجارب أن الطفرات يجب أن تحدث في الخلايا التناسلية للمخلوق حتى يتم توريث التغيير للأجيال القادمة. والمخلوق الذي يكسب طفرة تناسب البيئة يبقى، والباقي ينقرض. لذلك افترض الباحثون، أنه خلال أجيال كثيرة ولفترة طويلة من الزمن، تتجمع الطفرات الجيدة فقط في نسل نوع المخلوق جيلاً بعد جيل، إلى أن يخرج المخلوق الجديد بالكامل. حتى الآن لم يثبت أن الطفرات العشوائية تكسب الحيوانات صفات إيجابية، بل تكسبها تشوهات، لأن الطفرة هي خطأ يحدث في معلومات السلسلة الوراثية.

*****

في عام 1972 وجد البرفسور "ستيفن جِاي غوولد Stephen Jay Gould" من جامعة هارفرد مع بعض الباحثين من خلال الأبحاث في طبقات الأرض، أن التطور في المخلوقات يحصل خلال فترة بسيطة تقدر بجيل، وذلك عندما تنعزل مجموعة من أفراد النوع في منطقة بعيدة لسبب ما، فيحصل التطور عليهم بشكل فجائي، وبشكل يناسب البيئة. يبقى النوع الجديد في المنطقة المعزولة يتناسل فيها إلى فترة من الزمن حتى تكثر أفراده، وقد لا يخرج منها. وإذا خرج منها لسبب ما واختلط مع أفراد النوع السابق له، فإنه لا يتزاوج معهم لأنه يراهم نوع مختلف عنه، وهكذا يحافظ النوع الجديد على جنسه. هذا ما حصل لآدم وزوجه، فلقد أمرهم الله تعالى أن ينعزلا في الجنة، حتى يكثر نسلهما بعيداً عن الأنواع الأخرى من البشر. وعندما خرج آدم وذريته من الجنة بعد فترة طويلة من الزمن، رأت ذريته الأنواع الأخرى من البشر لأول مرة، فابتعدوا عنهم ولم يختلطوا معهم، فهم نوع مختلف عنهم. فهم ينطقون، والأنواع الأخرى لا تنطق. ولو اختلطوا معهم وتزاوجوا منهم لفقد الإنسان مقدرته البيولوجية على النطق عبر الزمن، }وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ{ البقرة:35.

أطلق غوولد على اكتشافاته نظرية "التوازن المتقطع Punctuated Equilibrium". أي أن التطور يحصل على المخلوق بشكل فجائي وكبير فيخرج منه المخلوق الجديد بشكله الكامل والصحيح، ثم يقف التطور لفترة طويلة من الزمن. حير غوولد المجتمع العلمي بهذه النظرية لأنه تحدى فيها المغزى الأساسي لنظرية دارون في التطور، وهو أن التغيرات التي تحصل على المخلوق تكون صغيرة وتتم خلال فترة طويلة مستمرة من الزمن إلى أن يخرج المخلوق الجديد بشكله النهائي. اعتبرت هذه النظرية أكبر ثورة في عالم التطور منذ زمن دارون. ولكن الشيء الذي حير العلماء في هذه النظرية، أنه من أين أتى التعديل الكبير والمنظم والصحيح للمورثات فجأة في الخلايا التناسلية للمخلوق القديم، فخرج من ذريته مخلوقٌ جديدٌ خلال جيل واحد وبشكل صحيح ويلائم البيئة؟ حسب علمي، لا أحد من الباحثين يملك جواباً شافياً لهذا السؤال حتى الآن، ولم توضع له افتراضية مقنعة بعد.

نظرية غوولد في التوازن المتقطع تشير وبلا شك أنه لا بد من مؤثر خارجي يعلم ماذا يفعل أحدث تغييراً كبيراً منظماً صحيحاً في مورثات الخلايا الجنسية للمخلوق. هذا يدل وبلا شك، أن هذه العملية لم تكن بسبب طفرات عشوائية.

أدخلت نظرية غوولد غموضاً في آلية التطور أكثر مما كانت عليه، وحيرت علماء التطور. لقد جلا القرآن هذا الغموض من خلال المثل الذي ضربه عن خلق النبي "عيسى"، بأن التغيير حصل في مورثات الخلية التناسلية الذكرية المخلوقة، والتي شكلت عيسى بصفاته الجديدة في رحم أمه مريم، فخرج المخلوق الجديد "عيسى" وهو يحمل صفات بيولوجية جديدة سليمة لم تكن موجودة في أمه مريم أكسبته صفة النطق في المهد. فهو تغيير وتعديل في صفات نوع المخلوق حصل خلال جيل واحد، وهذا ما تؤيده أبحاث نظرية التوازن المتقطع. فما ذكره الله تعالى في كتابه منذ 1400 عام عن آلية التطور، اكتشفه الباحثون منذ بضعة أعوام. فكتاب الله يكمل كتاب صنعه في كونه.

*****

لقد ذكر الإنجيل في العهد القديم قصة لمولود اسمه شمشون، تشابه طريقة ولادته ولادة عيسى عليه السلام، وحدثت عن طريق تدخل ملاك، أكسبت المولود الجديد صفة بيولوجية جديدة لم يسبقه لها إنسان، وهي القوة الجسمية الفائقة. ولِدَ شمشون من أم متزوجة من رجل عقيم لم تستطع الإنجاب منه. وكذلك ورد في أخبار بعض الأساطير ذِكر قصص لولادة عذرية، عُزي سببها إلى تزاوج الآلهة من بنات الأرض، كما هو في الأساطير الإغريقية، والأطفال الذين خرجوا من تلك الولادات كانت لهم ميزات زائدة تختلف عن أبناء البشر، واعتبروا أبناء الآلهة كما حصل لعيسى. فهل تلك القصص كانت من نسج الخيال؟ أم فيها حقيقة لم تكن مفهومة لأن تفاصيلها تغيرت مع الزمن؟ لذلك نجد القرآن لم ينكر الأساطير ولم يُثبتها. ألا يدل هذا على أن التطور البيولوجي على الإنسان كان مستمراً خلال التاريخ بسبب تدخل القدرة الإلهية؟

يذكر "إنجيل الطفولة العربي"، الغير معترف به من قبل الكنيسة، وهو أحد أناجيل الطفولة التي ذَكرت طفولة عيسى المسيح، أن عيسى تكلم في المهد.

*****

إن روح الله أو الوحي لم يكن فقط الوسيلة للتطور البيولوجي للمخلوقات لنقلها إلى نوع آخر، بل كان سبباً في التطور الفكري عن طريق تعليم آدم اللغة، }وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا{ البقرة:31. وروح الله كان سبباً في التطور العقائدي والفكري كذلك، فلقد نقل أفكار الناس إلى عبادة الله عن طريق نقل رسالة السماء لهم. لقد صاحب التطور الفكري تطور أخلاقي عن طريق الرسل والأنبياء فلقد قال عليه الصلاة والسلام: {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق}. وهناك إثباتات من التاريخ القديم أن نزول الوحي على الرسل من البشر كان له دور آخر وهو نشر العلوم في المجتمعات القديمة من تكنولوجيا وفلك وزراعة. فنقل العلوم للناس عن طريق روح الله كان سبباً في بزوغ الحضارات على الأرض في تلك الحقبة من الزمن. مثل حضارة المصريين القدماء، وحضارة اليونانيين، وحضارة المايا في أمريكا. والرسل من البشر الذين نشروا تلك الحضارات بعد أن أتتهم العلوم عن طريق روح الله اعتبروا فيما بعد آلهة أو أبناء آلهة.

*****

فنظرية التطور لم تلغِ دور الإله، بل أثبتت أن هناك قوة غامضة تحرك عملية التطور بالاتجاه الصحيح عجز عن تحديدها العلماء. هذه القوة الغامضة وضحها القرآن من خلال ما ذكره عن خلق وتطور آدم وعيسى. ألا يثبت هذا وجود الإله وأنه سبحانه هو المسؤول والمنظم لميكانيكية التطور؟ فالتطور ليس صخرة في طريق الإيمان بالله كما هو معتقد، بل هو مدعاة للإيمان به.

هذا هو ملخص البحث، والبرهان سيأتي داخل صفحات الكتاب بالتفصيل بإذن الله .. فالبينة على من ادعى، }وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا{ النمل:93

وسوم: العدد 871