مقولة صحيح البخاري ليس معصوما ونظرات في المنهج الأصولي ليس الخطأ في الكلي كالخطأ في الجزئي
أولا: تمهيد في عرض الفكر الغربي:
يمثل الصراع بين المعصوم والعقل والرأي، نموذجا غربيا كليا، وتم مناقشة صحيح البخاري وفق هذا النموذج هل صحيح البخاري معصوم، فالجواب لا، إذن هو الرأي والرأي الآخر، ويقبل التشكيك، وينسحب ذلك التشكيك على المذاهب الأربعة، فما تزال تسمع ليسوا معصومين.
وعليه فاجتهادات الفقه الإسلامي هي الرأي والرأي الآخر، ثم يشَيَّع صحيح البخاري والفقه الإسلامي في جنازة مهيبة ومحترمة في نموذج الفكر الغربي الذي يحترم الرأي الآخر، بينما تقام اللطميات في عزاء البخاري من وقت لآخر من قِبَل المشيعين أنفسهم، وإن الجواب على سؤال التشكيك في البخاري وغيره، يكون من خلال النموذج الإسلامي للمعرفة القائمة على رتب العلم الأربعة: اليقين، الظن، الشك، الوهم، ووجوب التحرر من الكلي الغربي للدخول أفواجا في الكلي الإسلامي.
1- النموذج الغربي والوضوء بمياه المجاري:
لا يزال النقاش مفتوحا -مع الأسف حول صحيح البخاري ومدى صحته على نحو غير مسبوق سواء في بعض أفراد الوسط الديني الذين يهيمن عليهم النقد وروح التجديد دون تجديد حقيقي ملموس، وكذلك الفكر اللاديني الذي ورث عن آبائه صراع الكنيسة في أوروبا مع العقل وتأثرت به بعض الأوساط الدينية الإسلامية فيما يسمى بالتجديد في علوم الشريعة سواء في نقد الحديث ونقد الفقه وأصوله، وقد نال صحيح البخاري ما ناله من التشكيك بسبب تأثر الوسط الديني بسبب الرؤية بين العصمة أو الرأي والرأي الآخر، وإن مناقشة الجزئيات الشرعية ضمن هذا النموذج الثنائي يشبه الوضوء بمياه المجاري.
2-تاريخ نموذج الفكر الغربي:
يخضع هذا النموذج لطبيعة الصراع التاريخي بين الدين والعقل، الدين ممثلا في رجل الدين الذي يدعي العصمة واحتكار تفسير الكتاب المقدس، وبين الاتجاهات الفكرية التي جاءت ردا على رجل الدين الذي يزعم أنه المعصوم، وأصبح الصراع بين المعصوم من جهة وحرية التفكير والنقد والرأي والرأي الآخر، وهذا نموذج صراع ثنائي القطب بين الدين والعقل، ورجال الدين والحرية، والعامل وصاحب العمل، والحاكم والمحكوم، والرجل والمرأة، والإنسان والطبيعة.
3-هيمنة النموذج ثنائي القطب في الواقع:
هيمن هذا النموذج ثنائي القطب على المعرفة ومناهج البحث والدراسة في أوروبا، ولم تكن الشعوب التي رزَحَت تحت الاستعمار الأوروبي بمنجاة من ثنائية القطب، وهي الدين والعقل، والمعصوم والرأي والرأي الآخر، فهذا النموذج الثنائي يفترض إما القطع على لسان رجل الدين، أو الرأي والرأي الآخر على لسان رجل اللادين، وأصبحت هذه الثنائية مهيمنة عالميا، فمن جهة معرفية لا تجد من يردها على أعقابها، وأيضا هناك جهة سياسية وإعلامية واقتصادية تسوق لهذا النموذج ثنائي القطب.
4-تأثر الوسط الديني الإسلامي بالنموذج الغربي الثنائي:
لا أتحدث هنا عن حكم مسألة فقهية بعينها، ولا حديث صحيح بعينه، إنما أريد أن أقارن بين النموذجين الغربي والإسلامي، لا سيما وأنني معنيٌّ بنظرية المعرفة الشاملة، وليس في الجزئيات، وعلي أن أبين نماذج من تأثر بعض الوسط الإسلامي بميراث التاريخ الأوروبي الذي بُني على النموذج ثنائي القطب.
ثانيا: أمثلة على تأثر الوسط الإسلامي بثنائية القطب الغربي:
ظهرت موجات واسعة في العالم الإسلامي بعد الصدمة الحضارية مع الغرب، تنادي بتجديد الدين، وقد مست تلك الموجات ثوابت علمية مسَلَّمة في الصحيحين اللذَين تلقتهما الأمة بالقبول، بالرغم من أن الأصوليين اعتبروا أن ورود الحديث في الصحيحين من المرجحات في الأحكام، للقيمة العلمية لهما باتفاق الأمة على قبولهما والعمل بهما مع أنهما أخبار آحاد لم ترق إلى رتبة القطع.
1-دعوى البخاري غير معصوم:
فعندما تكون في وسط علم شرعي ثم تصدع بقبول الأمة للصحيحين، تجد في بعض المتصدرين لعلوم الشريعة من يقول البخاري ليس معصوما، وعلينا أن نجتهد ونعيد النظر في التراث لتحقيقه، ولا يجوز الحجر على العقل، وباب الاجتهاد لم يغلق، لكنه دائما ينتهي إلى بذرة الشك ولا يصل للإثبات، مع العلم بأن دعوى عصمة البخاري وغيره من الأئمة ليست موجودة في العلوم الشرعية، فلا تجد تفسيرا لدعوى عدم العصمة هذه إلا أنها جاءت من النموذج الغربي ثنائي القطب بين عصمة رجل الدين جهة والرأي والرأي الآخر من جهة أخرى، وهذه الأسئلة ليست نابعة من ديننا أصلا.
2-كلية الشريعة من الكليات الإنسانية وليس العلمية!
بالرغم من أن نظرية المعرفة الشاملة تقسم الحكم إلى عقلي وعادي وشرعي،وتعتبر العلوم الطبيعية ضمن العلم العادي، ولا يتعارض مع الشريعة بوصفها علما، بل الطبيعة علم والشرع علم أيضا، وليست فلسفة ووجهات نظر كما هو الحال في الخلاف الفلسفي بين الاشتراكية والرأسمالية في الاقتصاد مثلا، وعليه فإن وصف الشريعة بأنها كليات إنسانية في مقابل الكليات العلمية ليس صحيحا من حيث المنهج، بل الصواب أن تسمى كليات العلوم الطبيعية، حتى لا تتعارض مع علمية كليات الشريعة، حتى ينسجم تقسيم الكليات مع نظرية المعرفة الشاملة الجامعة بين الشريعة والطبيعة بوصفهما علوما، فالشريعة ليست إنسانية حتى تصنف من الكليات الإنسانية.
3-الفصل بين اللغة والدين لإنتاج الفراغ المعرفي:
فصل الشريعة عن اللغة العربية وجعل اللغة العربية كلية مختلفة عن كلية الشريعة ، راجع إلى ثنائية اللغة في مناهجها الفكرية المناهضة للمقدَّس، وقد تم الفصل بين الشريعة ولغتها فاستعجمت الأحكام، وانفلتت اللغة من عقال الدين، وأصبحت مناهج التفكير الغربية الأدبية لها في العربية مرتع ومترع، بسبب عزل الأصلين (أصول الدين وأصول الفقه) عن اللغة، بينما اضطربت علوم الشريعة بسبب الغفلة عن دراسة اللغة إلا مواد لغوية لا ترقى إلى مستوى الواجب.
4-استخدام مقولات شرعية صحيحة لكن داخل نموذج الفكر الغربي:
ظهرت مقولات صحيحة في محلها، ولا تناقَش من حيث صحتها، لكنها تناقش من حيث إنها قابعة تحت النموذج الغربي، كدعوى: الأئمة الأربعة ليسوا معصومين، ومن ادعى الإجماع فقد كذب، وإن صح الحديث فهو مذهبي، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، وغيرها من المقولات التي كانت للمجتهدين ضمن المذهب الفقهي وأصول الاجتهاد المعتبرة.
ولكنها أصبحت مقابل المذهب تهدمه وتقوم على أنقاضه، مما ترتب عليه وجود صدام بين علوم الشريعة، ومصادرة المذاهب الأربعة لصالح المقولات السابقة التي تم تداولها ضمن النموذج ثنائي القطب، مما ترتب عليها إقصاء العلوم الشرعية الأصيلة بذريعة التجديد وإعادة النظر، وتم نقض اجتهادات الأئمة بمقولات أئمة الاجتهاد نفسها.
ثالثا: النموذج الإسلامي رباعي القطب هو الجواب:
إن التحرر من النموذج الثنائي إلى النموذج الإسلامي أمر ضروري، فهو يقسم المعرفة على رتبة أربع: اليقين، الظن الراجح، الشك، الوهم.
1-هناك احتمال ثالث:
جوابا على ما قيل في أن البخاري ليس معصوما وكذلك أئمة الاجتهاد، نجيب: لا تفرض علينا نموذجك الغربي ثنائي القطب، بل نقول لك هناك احتمال ثالث، وهو رتبة الظن الراجح، فليس البخاري معصوما وليس صحيحه من قبيل الرأي والرأي الآخر أيضا، ورتبة الظن الراجح يجب العمل بها.
2-وجوب العمل بالظني متفق عليه عند البشر:
فقد قرر المجتهدون إن خبر الواحد لا يفيد القطع، ولكنه يجب العمل به، والعمل به محل اتفاق إنساني، مثل وصفة الطبيب وعمل الصيدلاني ودراسات الجدوى الاقتصادية، وأحكام المحاكم فهي واجبة التنفيذ مع أنها ليست قطعية في مطابقة الواقع، لأنها قائمة على منهجية علمية، فما قيل في هذه الأخبار الظنية من الطبيب والصيدلاني والقاضي، كذلك صحيح البخاري فهو ظني يجب العمل به، وهنا نحرر الجزئي الإسلامي من ثنائية التناقض الغربية، التي تهدم كل علومنا الشرعية، وتتناقض مع بدهيات الإنسانية التي بينها.
3-الرد على جميع مقولات التشكيك واحد:
كل مقالات التشكيك في البخاري وغيره هي نفسها ستتكرر في الاجتهادات الفقهية المعتبرة، فإن كانت دلالات القرآن والسنة ظنية، واجتهادات الفقهاء ظنية ثم عرضت في النموذج ثنائي القطب فهذا يعني تحول الدين إلى قناعة ووجهة نظر، ويؤدي لإسقاط الشريعة، لأننا نبحث في جزئيات الشريعة ولكن مع الأسف تحت سقف النموذج ثنائي القطب الذي سيهدم صحيح البخاري وما وراءه من مصادر السنن من باب أولى، ودلالة القرآن واجتهادات الفقهاء.
4-لا يبقى من أدلة الشريعة إلا ما وافق النموذج الغربي:
عندما يصبح السؤال هل كانت دولة النبي صلى الله عليه وسلم مدنية أم دينية، وهل أنت مع العقل أم النقل فهذا كاف لمعرفة حجم تأثير المنهج الغربي ثنائي القطب، الذي تم فيه ترحيل أدلة الشريعة من نموذجها الثلاثي إلى النموذج الغربي الثنائي فتصبح أدلة الشريعة صالحة للديمقرطية والمواطنة في نموذجها اللاديني والمواريث وحقوق المرأة والولاية والحجاب ولكنها تتنكر للحدود الشرعية ومنها الرجم والردة، وأحاديث الصحيحية بإعادة النظر في تفسير النص الشرعي بما يتوافق مع الفلسفة الغربية والذي أثر سلبا على الغيبيات لتتوافق من النموذج ثنائي القطب مع الأسف.
رابعا: بل نقذف بالكلي الحق على الكلي الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق:
إن حلول النموذج الثنائي في أرضنا كان بسبب عدم العناية الكافية في علوم الشرعية الأصلية: وهما الأصلان: أصول الفقه وأصول الدين، واللغة، لأن علاج حالة الشك المزمن لا تكون عبر الجزئيات كل جزئية على حدة، بل لا بد من العناية بالنموذج الكلي في نظرية المعرفة الشاملة، وتصحيح الروابط بين العلوم لتحقيق تكاملها في ضمن نظرية المعرفة الشاملة، والعودة إلى نموذجنا الكلي، بل نقذب بالكلي الحق على الكلي الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
هذا ما حضر وما غاب أكثر
وسوم: العدد 879