قلة الإنفاق تهدد تعافي الاقتصاد العربي من كورونا
كورونا هي الأزمة الأحدث والأخطر التي حلت على العالم، وتركت الجميع في سيناريوهات مفتوحة للمواجهة، سواء على صعيد الكلفة المالية، أو الخسائر البشرية، ومن نجح في تحجيم الموجة الأولى، يتحسب لتداعيات الموجة الثانية، وتتشاءم المؤسسات المالية الدولية بشأن أداء النمو الاقتصادي العالمي لتذهب إلى توقع حدوث انكماش بنحو سالب 5.2% خلال 2020، مع التأكيد على أن العالم سيظل لسنوات يعاني من التداعيات المالية والاقتصادية لجائحة كورونا.
معظم البلدان العربية تماهت مع موجة عودة انفتاح الاقتصاد، بغض النظر عن طبيعة الوضع الصحي، مخافة المزيد من التداعيات الاقتصادية السلبية لجائحة كورونا، لكن في دراسة حديثة لمنظمة الاسكوا، تبين أن تعافي المنطقة العربية من الجائحة تنقصه الإمكانيات المالية، إذ ذهبت الدراسة إلى نتيجة مؤداها أن التعافي في المنطقة معرض للخطر بسبب نقص الإمكانيات المالية.
ففي الوقت الذي أنفق فيه العالم 9.6 تريليونات دولار كحزم للتحفيز المالي، أنفقت المنطقة العربية 102 مليار دولار، وهو ما يمثل قرابة 1% فقط من قيمة الإنفاق العالمي، وأيضًا على صعيد دعم السيولة في الأسواق والاقتصاديات عامة، بلغ الإنفاق من البنوك المركزية على مستوى العالم لتدابير تعزيز السيولة نحو 4.9 تريليونات دولار، بينما أنفقت البنوك المركزية العربية قرابة 140 مليار دولار، وبما يمثل نسبة 3% من قيمة إنفاق البنوك المركزية لتدابير تعزيز السيولة.
لكن لعل مؤشر قياس ما أُنفق من حزم التحفيز المالي كنسبة من الناتج المحلي يبين أداء المنطقة العربية مقارنة بالعالم، ففي حين بلغت حزم الحوافز المالية على مستوى العالم ما نسبته 11% من الناتج، كمتوسط عالمي، بلغ هذا المؤشر في المنطقة العربية نحو 4%، أي أقل من نصف المتوسط العالمي.
وأكدت الاسكوا أن المنطقة تحتاج إلى ما يقارب 100 مليار دولار إضافية كحوافز مالية لكي يصل الاقتصاد العربي إلى حالة من التعافي. لكن المشكلة أن المنطقة لا يجمعها كيان اقتصادي واحد، ولكنها اقتصاديات مجزأة، ولكل منها مشكلاته التمويلية، كما تختلف أوضاعها التنموية، ما بين دولة فقيرة ومتوسطة النمو، وتقترح دراسة الاسكوا أن يقبل الدائنون الرئيسيون لدول المنطقة بتأجيل مستحقاتهم من أعباء الديون هذا العام، ليمثل جزءا من المعالجة المالية للدول العربية المدينة، وأن هذا الإجراء من شأنه أن يسمح بوجود حوالي 13 مليار دولار للدول العربية المدينة.
حالة دول الخليج
تعد دول الخليج الأفضل من حيث الوضع المالي مقارنة بباقي الدول العربية، ومع ذلك اتخذت الحكومات العربية مجموعة من الإجراءات الضخمة في ما يخص وضعها المالي، من تقليص العديد من النفقات، سواء تلك المتوجهة للاستثمارات، أو الخاصة بالإنفاق الحكومي، ولعل ما تم مع العمالة الوافدة خير دليل على ما اتخذته دول الخليج من إجراءات لتقوية وضعها المالي في ظل أزمة كورونا.
ويمكن القول إن دول الخليج بصفة عامة، استهدفت تقليص إنفاقها العام بنسبة تراوح ما بين 25% و30%، ولعل تصريحات محمد الجدعان، وزير المالية السعودي، في الأشهر الماضية كانت واضحة بشأن تقليص الإنفاق العام بنحو 50 مليار ريال (13.3 مليار دولار) خلال 2020، ومن الممكن أن يعاد فيها النظر مرة أخرى في تقليص الإنفاق، حسب الظروف.
ولا بد أن نأخذ في الاعتبار أن أسعار النفط، على الرغم من تحسنها الطفيف، ما زالت عاجزة عن الوصول باقتصاديات الخليج لحالة من التعافي المالي الذي يمكنها من انتشال أوضاعها الاقتصادية من التداعيات السلبية لأزمة كورونا. ولم تجد دول الخليج -على مدار الأشهر الستة الأولى من 2020- مفرا من اللجوء للاستدانة محليًا وخارجيًا، أو السحب من احتياطياتها من أرصدة النقد الأجنبي، أو تسييل بعض أصولها في أسواق الأوراق المالية الدولية.
الديون والتعايش مع الجائحة
وجدت دول الخليج ما تتخذه من الإجراءات التقشفية والحصول على القروض وتقليص الإنفاق العام كسياسة لمواجهة التداعيات المالية لأزمة كورونا، وكذلك ما يمكن اعتباره خطتها للوصول إلى تعافي اقتصادياتها، لكن باقي الدول العربية لم تتوفر لها تلك المساحات، بل تُعد بعض الدول العربية متضررة من الإجراءات الخليجية.
ومن صور هذا الضرر العمالة العربية التي تم تسريحها من قبل دول الخليج، أو تم تخفيض رواتبها، فهذه العمالة ستضاف إلى صفوف العاطلين في ظل حالة الركود التي تسود معظم اقتصاديات الدول العربية المصدرة للعمالة، ومن جانب آخر سوف تتأثر دول العمالة العائدة من الخليج، من جهة أخرى من خلال نقص موارد النقد الأجنبي، الذي كان يتدفق عبر تحويلات هؤلاء العاملين لأسرهم.
ولكن دولاً أخرى مثل مصر وجدت في زيادة مديونياتها الخارجية والمحلية منفذا للتخفيف من حدة التداعيات السلبية لأزمة كورونا، ولكن من غير الواضح ما إذا كانت هذه الديون سيمكنها تعويض الاقتصاد المصري عن التراجع المتحقق في عوائد السياحة وإيرادات قناة السويس وتراجع الصادرات السلعية، وغيرها من الموارد الخارجية.
كما لم يتضح بعد مدى نجاعة ما تتخذه الحكومة المصرية من قرارات وسياسات في تحريك النشاط الاقتصادي، الذي كان يعاني من ركود قبل أزمة كورونا، وجاءت الأزمة لتعميق هذا الركود. وعلى نهج مصر كانت معالجات كل من الأردن وتونس والمغرب والسودان وغيرها.
والخطر في الوضع بالنسبة للدول العربية غير الخليجية، أنها اتخذت قرارًا بالتعايش مع الأزمة وفتح اقتصادياتها، وهو أمر غير مأمون العواقب، في ظل تراجع إمكانيات هذه الدول في مجال الرعاية الصحية، وبخاصة أن شرائح معتبرة من سكان تلك الدول لا تملك ما تنفقه على تكاليف الوقاية في ظل الاختلاط والسعي للحصول على الرزق.
غياب التعافي الجمعي
حسب دراسة الاسكوا، فإن المفوضية الأوروبية أعلنت عن أداة تعافٍ جديدة، باسم "الجيل القادم من الاتحاد الأوروبي". تبلغ قيمة تمويل هذه المبادرة 750 مليار يورو، لدعم دول الاتحاد الأوروبي بالاستثمارات وحوافز الاستثمارات. بينما الدول العربية، بعد مضي ستة أشهر من الأزمة، لم تتخذ أي خطوة عبر جامعة الدول العربية أو مؤسسات العمل العربي المشترك لمواجهة التداعيات السلبية لجائحة كورونا.
إن الأرقام الخاصة بالحوافز المالية العربية تشير إلى أن حصة دول الخليج من هذه الحوافز بلغت 80 مليار دولار، وبما يمثل 78% من إجمالي حزم الحوافز المالية العربية، أي أن المنفق خارج دول الخليج الست في إطار حزم التحفيز المالي، مبالغ هزيلة لا يمكنها مساندة اقتصاديات تعاني من مشكلات اقتصادية مزمنة، فضلًا عن أن تواجه ما تضيفه جائحة كورونا.
تحتاج المنطقة العربية، في ظل جائحة كورونا، وبعدها، حالة من المكاشفة الاقتصادية والاجتماعية، لترتيب أولوياتها وحسن إدارة مواردها بعيدًا عن الحروب والإنفاق على التسليح والسعي للحفاظ على حياة الناس عبر الإنفاق على الرعاية الصحية والحماية الاجتماعية.
وأن يحظى الاقتصاد بإعادة هيكلة تخرج الدول العربية من حالة العوز والديون والتبعية للخارج وإهدار الموارد إلى دول ذات اقتصاديات إنتاجية وأيد عاملة ماهرة، ولن يكون ذلك إلا إذا عاد الاستقرار السياسي والأمني للمنطقة بشكل شامل، وأن تنتهي المؤامرات الإقليمية والدولية.
وسوم: العدد887