عندما تؤدّي طهوريّة الرئيس إلى إعاقة تقدّم بلاده !!
جاء في كتب الاثر، أنّ
مالك بن دينار، وهو من أكابر التابعين الزهّاد، حتّى كادوا يصبغون عليه اوصاف الصحابة، قال كلمته الشهيرة "ويحكم، كلّكم يبكي فمن سرق المصحف" عندما لاحظ انّ مصحفه الذهبي، الذي تعب في نسخه، قد سرق أثناء وعظه للحاضرين عن السرقة وانخراط جميعهم في البكاء.
وياستعارة تصريحيّة من هذه القولة يمكن توجيه القول للساسة الراهنين في تونس: ويحكم، كلّكم يدّعي الطهوريّة السياسيّة وحبّ الوطن ويتباكي على حاله، فمن أضاع البلاد إذن، وبدّد ثرواتها وبلغ بها من التردّي مداه ومن الفشل أقصاه .
إلّا انّي سأقصر الحديث في هذه العجالة عن الرئيس قيس سعيّد الذي أعتبر لدى التونسيين منذ حملته الانتخابيّة -التي يحلو له تسميتها بالتفسيريّة- ظاهرة فريدة خرجت عن السائد. بما جعلهم جميعا أو يكادون، منذ فوزه بكرسي الرئاسة، يلهجون بنظافة يده ونقاوته فضلا عن زهده . فهو النزيه، المنزّه عن الأدناس. وهو الجدير بالتنويه والإشادة بطهوريّته، حتّى كادوا يعتبرونه قدّيسا. وهم يردّدون هذه المعزوفة التمجيديّة التأليهيّة المشروخة - صباحا مساء- بشكل ببّغائي، بمن فيهم أغلب المحلّلين السياسيين الذين يخوضون في كلّ شيء، فيما هم لا يفقهون إلّا السطحي من كلّ شيء. بما لا يفيد المتلقّي العادي، فضلا عن ذوي الاختصاص. والسؤال الإشكالي الذي يفرض نفسه للطرح هنا، إنّما هو حول ما إذا أفادتهم هذه النظافة والطهوريّة الثوريّة والسياسيّة المزعومتين للرجل؟ الذي انخرط هو نفسه في التذكير بها في كلّ مناسبة وفي سياقات غير سياقها، حتّى أصبح يتندّر بها البعض في السرّ والعلن، وباتت من قبيل الحشو اللغوي وفق قواعد الخطاب البلاغي، لا سيّما وهو يفضّل الحديث باللغة العربيّة الفصحى وفي كلّ الاحوال والظروف .علما وأنّ الحشو يفقد الخطاب ميزة الفصاحة لخلوّه من الفائدة. يقول عبد القاهر الجرجاني في هذا الخصوص "... وأمّا الحَشْوُ فإنّما كُرِهَ وَذُمَّ وَأُنْكِرَ وَرُدَّ، لأنه خلا من الفائدة".
لا يجادل أحد في أنّ مزايا اليد النظيفة والطهوريّة والتعفّف مطلوب توفّرها لدى الحاكم. إلّا أنّه لا يجادل أحد كذلك، في أنّها لا تكفي وحدها لتصنع سياسي ناجح. فهي كما يقول الرياضيون "شرط ضروري، لكنّه غير كاف" لقيادة شعب بأكمله والوصول به إلى ساحل النجاة بتحقيق التقدّم الحضاري الذي ينشده. لا سيّما عندما يكون هذا الشعب يعيش أوضاعا صعبة ومآسي بالجملة تتطلّب سرعة المعالجة لأنّها قابلة للاستنساخ والتعقيد والتأزّم يوما بعد يوم، فيما لو يتأجّل إيجاد الحلول الجذريّة لها. لهذه الأسباب، وفي غير ما مواربة - أي بصراحة ووضوح وقناعة ترتقي إلى حدّ الإيمان- فإنّي لا أرى أيّة أهمّيّة لنظافة يد الرئيس التونسي ولا لطهوريّته، بالقياس إلى أهمّيّة المصالح "المقدّسة" للشعب التونسي، بما هي وجوب تحسين ظروفه المعيشية الآنيّة منها وكذا المستقبليّة. كما أنّي لا أرى معنى لأيّة أهميّة للنظافة والطهوريّة المزعومتين في مقابل معاينة الرئيس لانهيار الدولة على طريقة السقوط الحرّ إلى الهاوية، لا بل إلى "الجحيم"- من باب التجوّز في القول طبعا - دون ردّة فعل في الغرض، ولا حتّى تحريك ساكن. ثمّ عطفا على الأزمة الحكوميّة الحاليّة التي تعيش على وقعها تونس اليوم، فانّي لا أرى أيّة أهميّة لنظافة اليد والطهوريّة لرئيس جمهوريّة يعطّل السير العادي- من أجل خدمة الشعب- للمرافق الإدارية الحيويّة للجهاز التنفيذي الذي يشرف عليه رئيس الحكومة وفريقه الوزاري، برفضه المتعنّت، مثول الوزراء الجدد أمامه لأداء اليمين الدستوريّة، إستكمالا لمشوار مسار التعديل الحكومي الأخير بعد المصادقة عليه في البرلمان. وذلك لمجرّد خلاف شخصي بينه وبين كلّ من رئيس الحكومة رئيس البرلمان. وهو ما يمثّل خرقا واضحا وصريحا للدستور، وفق رأي لفيف من جهابذة وأشهر كبار أساتذة القانون الدستوري المشهود لهم دوليّا بكفاءتهم العلميّة. فيما هم في نظر الرئيس- في مسعى واضح لتحقيرهم- أصحاب "دور شعوذة كتب عليها دور إفتاء". و يذكّرني هذا الموقف التحقيري التقزيمي لهذه الكوكبة من الجهابذة المختلفين عنه في الرأي، والذين يتجاوزونه أشواطا في درجاتهم العلميّة وبحوثهم ومؤلّفاتهم، بموقف هتلر من أنشتاين وفرويد -وكلاهما ألماني – لآرائهما، سنة قبل تولّيه الحكم، حول سبل تجنّب الحرب ودعم السلم . وهو الأمر بحرق " "كتب الحثالة". بما جعل أنشتاين يهاجر إلى الولايات المتّحدة الامريكيّة ليتحوّل منزله إثر ذلك إلى معسكر للشباب.
وقد سوّق الرئيس هذا الخرق الدستوري باختلاق تعلّات عديدة لا تقوى على الصمود، ثمّ تمترس بصفة خاصّة وراء إتّهام نفر قليل من الوزراء الجدد بالتورّط في ملفّات فساد هي في الأصل- إن وجدت- من أنظار القضاء بمختلف درجات محاكمه، ولا تعود له بالنظر إطلاقا. إلّا أن يكون الرئيس يريد أن يحلّ محلّ الجميع، ويصبح الرجل صاحب السلطة الأوحد في تونس كما هي الحال في الأنظمة الكليانيّة الشموليّة سيّئة الذكر التي تسيّر بمنطق "ما أريكم إلّا ما أرى وما أهديكم إلّا سبيل الرشاد" . بحيث يكون هو الرئيس الذي لا يردّ له قول، وهو القاضي الذي يحكم بأحكامه، وهو الفقيه في القانون ولا أحد له حقّ تأوّله لاستنطاق دلالاته الكامنة سواه، وهو رئيس الحكومة إن لزم الأمر. لأنّ مربط الفرس في الصراع القائم بينه وبين رئيس الحكومة هشام المشّيشي كان منطلقه إعفاء وزير الداخلية و وزراء آخرين محسوبين على الرئيس. بل منطلقه قبل ذلك، منذ إقالته لوزير الثقافة الأسبق. فهو إذن تنازع مصالح، ولا علاقة له بمقاومة الفساد والطهوريّة ونظافة اليد التي اصبحت شمّاعة نعلّق عليها كلّ شيء وشعارا فضفاضا لا معنى له في ظلّ فساد مستشري في جميع مفاصل الدولة، وغياب المقاومة الجدّية لهذا الغول الذي ليس للرئيس أداوات مقاومته، غير الخطب الرنّانة التي مجّتها الإسماع، فضلا عن أنّها لا تسمن ولا تغني من جوع. فالفساد لا تقضي عليه الخطب المنمّقة ولا الكلمات. حتّى وإن كانت بليغة وذات سحر وجمال، كما جاءت في القصيدة الشهيرة "كلمات" لصديقي الشاعر العصامي الموهوب منوّر صمادح.
وأخيرا أيّة أهميّة لنظافة اليد والطهوريّة يمكن أن تشحن المواطن بالأمل في غد أفضل، فيما الرئيس يقف موقف المتفرّج من الأحداث الكبرى لبلاده، التي أصابها الضعف والوهن وانحرفت عن مسارها الصحيح، المؤدّي إلى صلابة إقتصادها وسلامة توازناتها الماليّة و توتّر مختلف قطاعاتها المهنيّة إجتماعيّا.
فلو كانت الصفات الرئاسيّة التي أسلفنا ذكرها كافية لوحدها للنهوض بشعب ما وتحقيق الرفاه له، لأختارت كلّ الدول حكّاما لقيادتها من القدّيسين والأيمّة والشيوخ والفقهاء والملالي أو الرهبان و نحو ذلك من رجال الدين المشهود لهم بالطهوريّة. وقد أتيحت الفرصة لهؤلاء جميعا عبر فترات تاريخيّة مختلفة فأظهروا -دون استثناء- فشلا ذريعا سجّله لهم التاريخ في صفحاته السوداء. فضلا عن أنّ العودة إلى إعادة التجربة لإنتاج الفشل لا تستقيم بعد قرون من الثورة الفرنسيّة العظيمة التي أنارت العقول المتحجّرة بطبقات التكلّس، وتخلّصت نهائيّا ممّن يدّعون إحتكار عباءة الطهوريّة التي لا تنطلي إلّا على من يؤمن بالفلسفة المعصوميّة/ اللاتخطيئية. قناعتي التي لا حياد عنها، أن لا طهوريّة عند البشر، الحامل بين طيّاته لبذرات الخير والشرّ وفق طبيعته التي تحكمها حسب فرويد غريزة الجنس وغريزة العنف .ولا قداسة لأحد إطلاقا. بما يعني أن لا وجود بيننا على الأرض لملاك طاهر، إلّا أن يكون قادم إلينا من كوكب آخر غير كوكبنا الأرضي.
بهذه الأوصاف المبالغ فيها التي تصبغ على الحكّام، تصنع الشعوب المتخلّفة- للأسف- من رؤسائها أصناما ثمّ تعبدها كما الآلهة، في محاكاة لما كان يجري في الأزمان الغابرة. ولنا في تاريخنا العربي القريب أمثلة كثيرة على ذلك . نقتصر منها على العقيد القدّافي الذي، نتيجة لتمجيده على مدى 40 سنة، قال في استعلاء على شعبه من منطلق تضخّم الذات، قولته الشهيرة » :من أنتم؟! « . وهي صيغة تحقيريّة يدركها الجميع. وفي صيغة مشابهة قال بورقيبة» : من غبار أفراد صنعت شعب مواطنين «! (D’une poussière d’individus, j’ai fait un peuple de citoyens)
يشهد عليّ الله، ويعلم أقرب الأصدقاء، أنّي لا اروم الكتابة في السياسة ولا أفعل ذلك إلّا مضطرّا وفي حالة إنفعال و توتّر بلغت أقصى مداها. إثر إستفزازي بحدث سياسي مختلف عن السائد، مثل ما يجري في تونس اليوم من إنسداد أفق الحلّ السياسي لما عرف بأزمة اليمين الدستوريّة التي أسلفنا فيها القول والتي تتواصل منذ عدّة أسابيع وتؤشّر بالتأكيد على التصحّر السياسي لمختلف الفاعلين السياسيين الحاليين، وفي مقدّمتهم الرئيس. فهم لم يبلغوا بعد حتّى مرحلة المراهقة السياسيّة لمن سبقوهم. ولا استثني منهم أحدا. حيث أنّهم ارتكبوا جميعا أخطاء جسيمة لا تغتفر في حقّ الشعب التونسي منذ فجر الإستقلال. و لعلّ التاريخ سيحاسبهم عن ذلك مهما سعوا للتستّر عنها ومحاولة تزييفهم للحقائق، بكتابتهم للتاريخ في قائم حياتهم. إلّا أن المجال الآن ليس مجال تعدادها، وقد تكون موضوعا مستقلّا بذاته في قادم الأيّام.
ما دعاني إلى إستحضار التاريخ، هو أنّ تونس ما بعد الثورة ،التي بشّرت التونسيين بالحرّية والرفاه وعلّقت عليها آمالا كبيرة لتحقيق ذلك، يمرّ إقتصادها اليوم بأحلك فتراته عبر التاريخ المديد، قديمه وحديثه. حيث سجّلت خلال سنة 2020 نموّا ب(8,8-) بما يعني فقدان حوالي 150 الف موطن شغل وغلق عشرات المؤسّسات. وذلك جرّاء تراكم نتائج السياسات غير الناجعة المتّبعة مع الإتّحاد الأوروبّي إنطلاقا من سنة 1995. والتي إستفحلت بعد الثورة نتيجة لانهيار القيم ومنها قيمة العمل، وللمطلبيّة القطاعيّة المشطّة التي تميّزها العقليّة القبليّة المقيتة، والاستقواء على الدولة على حساب الإستثمار و المصالح الوطنيّة الملحّة، وعلى حساب بعض الفئات الهشّة ذات الأصوات الخافتة وغير المسموعة. وأمام هذا الوضع الإقتصادي الخطير يسمح رئيس الدولة لنفسه باحتكار تأويل الدستور وفق المزاج و بتوظيفه لموقعه، معيقا تنصيب الحكومة الجديدة ومعطّلا السير العادي لنشاطها.لا بل ورافضا للحوار مع كلّ من رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب فضلا عن مماطلته للشروع في الحوار الوطني الذي إقترحه الإتحاد العام التونسي للشغل في محاولة للانتهاء إلى بلورة مخرجات إيجابيّة لعلّها تأتي أكلها وتحقّق بعض الإنفراج مهما كان ضئيلا. وهو ما لا يعني بالنتيجة إلّا الرفض. إنّي أتساءل في استغراب وإنكار هل هذا هو دور رئيس الجمهوريّة المفترض؟ وهل هذه مصلحة الشعب التونسي الذي إنتخبه من أجل الدفاع عنها؟ إن كان ذلك كذلك، فإنّي أعترف أنّه لم يعد بوسعي إستيعاب الأحداث السياسيّة العبثيّة من هذا القبيل. فهي أقرب إلى ما يدور في مسرح العبث لصمويل بيكيت. لا بل هي أقرب إلى السرياليّة، بما هي ما فوق الواقع.
وسوم: العدد 924