ما بعد «سيف القدس»… شعب عظيم وقيادات بائسة
ليس سرا أن الشعب الفلسطيني متقدم على قيادته، وما من مرة ترك ليواجه الأزمات من دون أوامر من أحد، بل بمبادرات وإبداعات محلية، إلا وخرج منها بنتائج عظيمة، لأنه يحسن استخدام الوسائل المتاحة للنضال. يستخدم مراكز قوته ضد مراكز ضعف عدوه، وتكون النتائج خسائر في صفوف العدو لا يستطيع تحملها، فيضطر للمراوغة والتحايل، وتقديم بعض التنازلات، ثم الالتفاف على المطالب الشعبية عن طريق قيادات رخوة تساوم على المطالب من أجل مصالحها. وهذا ما حدث في الانتفاضة الأولى يوم التفت عليها القيادة، واختصرت مطالبها الأساسية في إنهاء الاحتلال، ووقف الاستيطان، وصولا إلى الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وقبلت إقامة سلطة هزيلة تخدم أمن الاحتلال، تحت شعارات وهمية حول الدولة المستقلة. ولننظر أين نحن الآن من تلك الوعود قبل ثلاثين سنة.
لقد انطلقت المواجهات الأخيرة في القدس والشيخ جراح أولا، وبدون إذن من أحد. ثم انتصرت المقاومة في غزة للقدس، وبعدها تحرك الشعب الفلسطيني كله في أماكن وجوده كافة، في ملحمة نضالية لم ير شعبنا مثيلا لها منذ عام 1948. لم يأخذ أبناء فلسطين التاريخية إذنا من أحد، ولا أبناء الضفة الذين انضموا للمواجهات بعدما شاهدوا ما يحدث في اللد والناصرة وأم الفحم وكفر كنا وحيفا، وغيرها من المدن الفلسطينية، ثم اتسعت رقعة المواجهة مع الصهاينة وأنصارهم لتشمل الكون بأسره، ولتصبح القدس وغزة والشيخ جراح «كلمات السر» التي يلتف حولها الشرفاء والمناضلون وكارهو الظلم وأنصار العدالة في كل مكان. لكن ماذا حدث بعد توقف العدوان، وبعد أن مُرِغ أنف إسرائيل في التراب؟
غياب سلطة رام الله
الغائب الأكبر في كل تلك المواجهات سلطة رام الله، التي قفزت إلى الواجهة عند الحديث عن الإعمار وأموال الإعمار والعودة إلى المفاوضات وتفعيل الرباعية. وبدا رئيس السلطة محمود عباس، يتصرف وكأنه المنتصر الأكبر، وهو الذي لم يتحدث ولو بكلمة عن المقاومة والشهداء والبيوت المهدمة والـ67 طفلا الذين قتلوا، ونُشرت صورهم على الصفحات الأولى في جريدتي «هآرتس» و»نيويورك تايمز». تلقى بفرح عظيم مكالمة الرئيس الأمريكي جو بايدن، وزيارة وزير الخارجية أنتوني بلينكن الذي سماه «كلينتون». كانت فرصة ذهبية للرئيس ليرتقي إلى مستوى الحدث العظيم الذي لا يحمل إلا عنوانا واحدا هو «المقاومة» والمواجهة. كان بإمكانه أن يطلب من الشعب الفلسطيني أن يخرج في مسيرات سلمية بمئات الألوف إلى الشوارع، نساء ورجالا وطلابا وعمالا ورجال أمن وشرطة، ليلتحقوا بالمشهد العظيم الذي يسطره الشعب الفلسطيني في كل مكان، إلا أن الفشل جاء مكملا لرحلة خيبات أوسلو، التي بُلي بها الشعب الفلسطيني وما زال. والأغرب من ذلك أن بعض أبواق القيادة راح يتغنى ببطولات القيادة، لدرجة أن أحدهم ادعى أن الرئيس كان «كأنه يقاتل وحده في الميدان». وقد أثار هذا الموقف ومسلسل التراجعات والهزائم العديدة التي لحقت بالقضية الفلسطينية، حفيظة عدد مهم جدا من المثقفين والأكاديميين والكتاب والفنانين والصحافيين، فأصدروا بيانا يطالبون فيه بتغييرات جذرية وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، بمن فيها القيادات العليا، وبدل أن تتم دراسة البيان، وتقبل النقد، والعمل مع كل أطياف الشعب الفلسطيني لتغيير نهج أوسلو، انطلقت الأصوات تتهم الموقعين على البيان بالتآمر والارتباط مع قوى خارجية، والعمل على تفتيت الشعب الفلسطيني، الملتف حول قيادته العظيمة التي هي فوق النقد وفوق القانون وفوق المساءلة وأهم من الوطن. وقد ظهرت نتيجة هذا الالتفاف، عندما ألغي اجتماع القاهرة لـ18 فصيلا (كانت 14 قبل عملية سيف القدس) لأن المطلوب التوافق على الاتفاقيات الموقعة ومنها أوسلو طبعا، أي بدل الصعود إلى الأعلى للالتقاء بالمقاومة كان المطلوب من المقاومة أن تهبط إلى مستوى أوسلو وطاولة المفاوضات والرباعية، إذ أن القيادة أعدت فريق التفاوض بناء على مبادرة من الرئيس الأمريكي جو بايدن «لتحسين العلاقات مع إسرائيل، وتقوية السلطة الفلسطينية» كما جاء على لسان القناة العبرية 12 ونقلته صحيفة «يديعوت أحرونوت» الأربعاء 16 يونيو الحالي.
ولكي يعرف هؤلاء مدى التفاف الشعب الفلسطيني حولهم، ما عليهم إلا مراجعة استطلاعات الرأي، التي نشرها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، للفترة 9 -12 يونيو الحالي، أي بعد عملية «سيف القدس». فقد جاء في الاستطلاع أن 77% من الشعب الفلسطيني يعتبرون أن حماس انتصرت في المواجهات الأخيرة، وأن 72% يعتقدون أن إطلاق الصواريخ جاء للدفاع عن القدس والشيخ جراح. وعن أداء عشرة أطراف فلسطينية وإقليمية خلال المواجهات، تصدر سكان القدس وشبابها القائمة بنسبة 89% يليهم أداء فلسطينيي الداخل بنسبة 86% وحركة حماس بنسبة 76%، أما أداء حركة فتح فانخفض إلى 13% والسلطة الفلسطينية 11%، أما أداء الرئيس عباس فكان 8%. وهذه رسالة بليغة. كما أن 53% قالوا إن حماس أكثر جدارة لقيادة الشعب الفلسطيني، بينما اعتقد 14% فقط بأن حركة فتح برئاسة عباس هي الأجدر للقيادة. وعن تأجيل الانتخابات التشريعية والرئاسية قال 65% من المستطلعة آراؤهم، إنهم ضد التأجيل وإن ثلثي الشعب الفلسطيني يعتقدون أن الرئيس عباس أجل الانتخابات خشية من نتائجها، وأن 66% من سكان الضفة يريدون إجراء الانتخابات وترتفع النسبة إلى 80% في قطاع غزة.
حماس والتخبط السياسي
لقد كتبت أكثر من مرة عن جهل حماس بقواعد اللعبة السياسية، وقد تعززت لديّ هذه الفكرة أكثر بعد عملية «سيف القدس» والأداء الهزيل لحماس. وأود أن أذكّر حماس أن الشعب الفلسطيني قبل وبعد عملية «سيف القدس» ما زال يخضع للاحتلال والحصار ونظام الأبرتهايد. الشعب الفلسطيني في غزة دفع ثمنا باهظا للعدوان المجرم على غزة، وعلى كل أرجاء فلسطين، وكان على قيادات حماس بدل استعراض الصواريخ في شوارع غزة، أن تقيم المعارض والمنصات للضحايا، خاصة من الأطفال. على حماس وفصائل المقاومة أن تتمسك بخطاب الضحية والمظلوم والمحاصر والمقهور خاصة للعالم، بدل خطاب الانتصار حتى لو حدث الانتصار فعلا. عليها أن تبرز ليل نهار مدى الجرائم التي ارتكبها ويرتكبها الكيان الصهيوني ضد المدنيين والعائلات والبنايات والبنى التحتية. يجب أن تبقى إسرائيل محاصرة إعلاميا في العالم بسبب ما ارتكبته من جرائم. وأود أن أسأل حركة حماس بعض الأسئلة:
– هل كان من الضروري أن يتم استعراض الصواريخ في شوارع غزة؟
– هل كان من الضروري الإعلان عن الأنفاق وطولها ومحدودية الخراب الذي لحق بها؟ من هذا العبقري الذي أعلن أن لديهم 500 كلم من الأنفاق بدل الصراخ لعدم وجود ملاجئ لحماية المدنيين، خاصة الأطفال؟ فقد نبه السنوار إلى أن «الضرر الموجود في شبكة الأنفاق لم يصل إلى 5%، وسيعالج خلال أيام معدودة» مؤكدا أن «ورش التصنيع، ومخازن الأسلحة، وغرف إدارة العمليات، تعمل بكفاءة تزيد على 95%». هل هذه التصريحات ضرورية؟
– هل كان من الضروري أن تقوم حماس بتوزيع بطاقات الشكر لإيران، حتى لو أن إيران نقلت كل ترسانتها لغزة؟ المتحدث باسم الحرس الثوري الإيراني كان أكثر عقلانية عندما قال، إننا نقلنا لهم الخبرة منذ زمن وقاموا هم بتصنيع جميع تلك الأسلحة محليا، بل ذهب الأمر بأسامة حمدان ليثني على الرئيس بشار الأسد، وأنا واثق أن ذلك ليس مطلوبا منه، بل تطوع لذلك، علما أن تصريحا كهذا سيغضب ملاييين السوريين. وهل كان من الضروري أن يقوم ممثل حركة حماس في اليمن، معاذ أبو شمالة، بتكريم محمد علي الحوثي، أحد القادة الحوثيين؟ كم دفع الشعب الفلسطيني ثمنا من سياسة المحاور وليتذكروا ما حدث لشعبنا الفلسطيني في الكويت عام 1990.
– لكن حماس لاذت بالصمت، حيث كان يجب أن تتكلم، الكل ينتظر منها أن تصدر بيانا قويا ضد منصور عباس رئيس القائمة الموحدة ذي الخلفية الإسلامية، الذي أعلن تأييده لحكومة بينيت – لبيد المجرمة، التي أعلنت عن برنامجها لتوسيع الاستيطان وضم المنطقة جيم من الضفة الغربية، والتأكد من عدم قيام دولة فلسطينية. لماذا لم تعلن حماس قيام منصور عباس بطعن شعبه من الخلف؟ كل ما سمعناه أن أحد الحمساويين قال إن هذا رأيه الشخصي؟ وهو تفسير أقبح من الصمت.
– وهل من الضروري أن تتصرف حماس بنوع من الاستعلائية والفوقية حتى مع رفاق السلاح؟ حيث قال السنوار «إن منظمة التحرير الفلسطينية من غير حماس والجهاد وقوتهما العسكرية، لا تمثل سوى صالون ثقافي وسياسي».
– والأدهى وأمرّ تصريح السنوار الغريب، الذي يصب لصالح سردية العدو عندما أعلن أن هناك أسلحة مخزنة بين المدنيين، يتم نقلها تدريجيا إلى مناطق بعيدة عن المدنيين، ولم يبق إلا جزء بسيط منها. وقد وضعت وزارة الحرب الصهيونية هذا التصريح على موقعها وترجمته ووزعته على العالم.
متى تتعلم حماس السياسة وترتقي بأدائها السياسي ليواكب أداءها الميداني العظيم، الذي حظي بتأييد واسع من فئات الشعب الفلسطيني والعربي كافة؟
وسوم: العدد 934