هل عادت الشعوب العربية إلى حظيرة الطاعة؟

ذات يوم استأجر فلاح بسيط شقة ذات غرفة واحدة من إقطاعي، وعاش في تلك الغرفة الصغيرة مع زوجته وأولاده السبعة. وكانوا يعانون معاناة شديدة من صغر الغرفة. وبعد مدة جاءه الإقطاعي وقال له يا فلاح: عندي عنزتان وديك وقرد لا أجد لهم مكاناً، وأريد منك أن تُسكنهم معك في الغرفة، فاضطر الفلاح إلى قبول الطلب مرغماً، فزادت معاناة العائلة أضعافاً مضاعفة من العنزتين والديك والقرد المزعج الذين حولوا الغرفة إلى كارثة. وبعد مدة عاد الإقطاعي وأخذ العنزتين والقرد والديك، ثم اتصل بالفلاح بعد أيام ليسأله عن حاله: فقال الفلاح: حالنا عال العال، ممتاز، فنحن في نعمة، والبيت كبير ومريح ولا ينقصنا من هذه الدنيا شيء». هذا ما فعلوه مع السوريين والمصريين والليبيين والتونسيين واليمنيين والعراقيين بعد أن ثاروا. لقد سلطوا عليهم كل صنوف العذاب والشقاء والقهر والفقر كي يحنوا إلى أيام الطغيان الخوالي.

نعيد تكرار هذه القصة مرة بعد أخرى كي نفهم ما حصل وما يحصل الآن في العالم العربي التعيس. والسؤال هنا بعد كل ما شاهدناه في سوريا واليمن وليبيا والعراق ولبنان والسودان والجزائر وتونس ومصر وغيرها، هل نجحت لعبة الإقطاعي والفلاح في ترويض الشعوب وإعادتها إلى زريبة الطاعة؟ للأسف حتى وإن لم تنجح أو من المبكر الحكم على نجاحها أو فشلها، إلا أن الأنظمة العربية ومشغليها الدوليين سجلوا العديد من الأهداف القاتلة في مرمى الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، فسوريا التي كانت قد انتهت، وأصبح أكثر من نصف شعبها خارج البلاد، ومن غير المرجح أن يعود اللاجئون إلى بلدهم بعد أن تذوقوا طعم الحياة الحقيقي في بلاد المهجر. وحتى لو عاد السوريون المساكين من لبنان أو الأردن فإنهم سيعودون مطأطئي الرؤوس وسيقبلون بشروط النظام وحلفائه لأن لا خيار آخر لهم. أما من تبقى من السوريين في الداخل وبعضهم من مؤيدي النظام فيكتفون هذه الأيام بتوجيه اللوم والشتائم إلى الحكومة، ثم يهتفون للسيئ الرئيس «بالروح بالدم نفديك يا بشار» على اعتبار أن الرئيس ممتاز، لكن المشكلة ببطانته الفاسدة، مع العلم أن كل السوريين في الداخل والخارج يعلمون أن بشار هو كبير الفاسدين في سوريا. وكما أعطى النظام الدولي للنظام السوري كامل الصلاحية لتدمير سوريا فوق رؤوس أهلها وتشريد القسم الأعظم من سكانها، فهو لن يحاسبه مطلقاً إذا استخدم نفس الأسلوب مع مؤيديه فيما لو ثاروا عليه بسبب الوضع المعيشي الكارثي. النظام كغيره من الأنظمة يعمل بوظيفة كلب صيد، والصياد راض عن أدائه وسيسمح له بالانقضاض على مزيد من الفرائس.

هل الوضع أفضل في العراق؟ بالطبع لا. لقد ثار العراقيون أكثر من مرة وضحوا بالغالي والنفيس لتحسين شروط العبودية، لكنهم فشلوا وصار العراق مضرباً للمثل في الانهيار، لا بل إن الأمم المتحدة صنفت بغداد على أنها «أوسخ عاصمة في العالم». ولا ننسى أن الكثير من العراقيين بين لاجئ ونازح أيضاً، ومن غادر لن يعود. وفي أحسن الأحوال سيتم تقسيم العراق على أسس طائفية مع استمرار التدهور والتخلف والانهيار داخل الدويلات العراقية القادمة.

كم مرة ثار اللبنانيون؟ مرات ومرات، لكنهم لم يحصدوا سوى الخيبة، وليس أمامهم سوى الموت جوعاً وقهراً في بلدهم، أو الهروب من بلاد الأرز.

وفي مصر تبدو الأمور الآن هادئة وهناك محاولات للنهوض بالبلاد عمرانياً، لكن هذا لا ينفي مطلقاً أن الثورة لم تحقق المطلوب، لا بل إن الكثيرين يتحسرون على العهد السابق في مجال الحريات.

وفي السودان تم استبدال نظام عسكري بآخر، والأوضاع تسير من سيئ إلى أسوأ.

ولطالما تفاخر الجزائريون بعدد الأسابيع والشهور التي تظاهروا فيها، لكن هل تغير أي شيء في البلاد؟ بالطبع لا، فالنظام يزداد قوة وجبروتاً، وكل الإصلاحات مجرد ضحك على الذقون بمباركة دولية لا تخطئها عين.

ومن ناحيته نجح النظام المغربي في امتصاص موجة ما سمي بالربيع العربي، وهو في موقع يؤهله الآن ليخوّف المغاربة بالتجربة السورية واليمنية والليبية. وقد استخدم النظام الإسلاميين لأمرين مهمين وتاريخيين الأول: أوقف من خلالهم وصول الربيع العربي إلى المغرب، وامتص غضب الشارع

والثاني: مرر من خلالهم ما يسمى التطبيع، وفي النهاية قال لهم: كش مات، وعادت الأمور إلى المربع الأول.

وحدث ولا حرج عن اليمن الذي انتهى إلى غير رجعة حتى بشكله المتخلف القديم. وبات اليمنيون يتندرون على تعاسته وتحوله إلى ساحة لحروب الآخرين.

وعلى سبيل السخرية يوجه معلق يمني رسالة إلى باكستان والهند والسودان والجزائر ويقول: «لا تدمروا بلادكم بالحروب. تعالوا وتقاتلوا في اليمن. تنظيم القاعدة جاء ليحارب أمريكا في اليمن. شرفتمونا وأنستمونا. يا مرحبا. والحوثي جاء ليحارب إسرائيل وأمريكا في اليمن. يا مرحبتين. والتحالف جاء ليحارب إيران في اليمن. وأمريكا أقبلت تحارب إيران في اليمن. يا أهلاً وسهلاً بكم. باقي أن تأتي الهند وتحارب باكستان في اليمن. ولا بأس أن تأتي كوريا الشمالية لتحارب الجنوبية على أرض اليمن. يعني باختصار، بطولة كأس العالم للحروب تجري على أرضنا والحمد لله».

هل يبشر الوضع الليبي بدوره بخير أم إنه يراوح في المجهول؟

ولنختم هذه المرثية بوضع تونس الآن التي ظن البعض أنها نجت من فخ الربيع العربي، لكن كل الظن أثم في الحالة التونسية، فها هي تونس تلحق بركب شقيقاتها التعيسات وتعود إلى المربع الأول. لقد حدث الانقلاب بشكل جلي على الثورة وعلى الشعب تحت حجج واهية، وبات الناس الآن يترحمون على ديكتاتورية العهد الفاطس، فقد عادت الدولة الأمنية لتنكل بالشعب بطريقة ممنهجة، وآخر تجلياتها منع الكثير من التونسيين من السفر كما يقول الإعلامي التونسي الزميل محمد كريشان. تذهب إلى المطار فيقولون لك: لا تستطيع السفر، أنت ممنوع من السفر دون الكشف عن الأسباب. لقد تبخرت كل إنجازات الثورة على صعيد الحريات، وعادت تونس إلى حتى ما قبل المربع الأول.

والسؤال الآن على ضوء هذه الأوضاع المأساوية الكارثية: هل عادت الشعوب إلى حظيرة الطاعة؟ ألم يصبح لسان حال بعضها يلهج بما لهج به الفلاح المسكين بعد تجربته المريرة مع ديك وعنزتي وقرد الإقطاعي؟ نعم صحيح، لكن هذا الانتصار للثورات المضادة سيبقى قصيراً مهما طال. وهنا نستذكر مقولة الزعيم التشيكي الشهير دوبتشك عندما قال بعد أن أوقفت الدبابات السوفياتية ثورة ربيع براغ: «بإمكانكم أن تسحقوا الأزهار، لكنكم لن توقفوا الربيع». أرجو ألا أكون مخطئاً.

وسوم: العدد 947