طرد "فلاحات القدس" من شوارعها.. تهويد أبسط تفاصيل المدينة
القدس : تكتب المصورة المقدسية لطيفة عبد اللطيف أثناء نشرها لمجموعة صور متنوعة قائلة “من أكثر الأشياء اللي بحب أصورها بالقدس هي فلاّحات القدس وبسطاتهم المليانة من خيرات أرض بلادنا، الألوان والتنوع بغريك إنك توقّف عندهم لو ما بدك تشتري، والبسمة على وجوههم بتجبرك تصبّح عليهم لو ما بتعرفهم”.
وتضيف: “طبعا هالبسمة اللي سرعان ما تختفي وتتحول لملامح غضب عند أول محاولة لأي شخص لتصويرهم أو رصد حركتهم”.
ومع ذلك تنشر المصورة لطيفة مجموعة من الصور الملتقطة بهاتف المحمول لهؤلاء الفلاحات في محاولة منها للاحتفاء بالبساطة والجمال معا، وتقول إنها “صور جميلة أخذت خلسة حيث ترفض كثير من الفلاحات التصوير”.
إنهن فلسطينيات كبيرات السن يأتين من مدن وقرى فلسطينية مجاورة بشكل يومي من أجل بيع ما تيسر لهن من خيرات أراضيهن الصغيرة، وهن بهذه المهنة اليومية يفتحن بيوتهن ويربين أطفالهن ويدخلن أبنائهن الجامعات.
وتضيف المصورة لطيفة: “بس مرات ضحكة هون ومزحة هناك.. بتليّن قلبهم للصور”، وتدعو “الله يخلي للقدس بركاتها وأهلها وناسها ووجوه القدس اللي ما بتكمل شوارعها بدونهم”.
فسيفساء القدس
إنهن “فلاحات القدس” اللواتي يفترشن بمنتجاتهن من الخضار والفواكة والمنتجات التقليدية في شارع صلاح الدين الأيوبي مرورا بشارع السلطان سليمان ووصولا إلى باب العامود، كما تتواجد بعضهن في طريق الواد وسوق خان الزيت في البلدة القديمة في القدس المحتلة.
ولا تكتمل فسيفساء المشهد في مدينة القدس من دون هؤلاء الفلاحات القادمات من مدن فلسطينية قريبة (بيت لحم، ورام الله) محملات “ببقجات” (أكياس) الخضار والمنتجات اليدوية الطبيعية، إنهن جزء من شوارع القدس وأبنيتها.
لكن صباح الثلاثاء الماضي كان مختلفا على الفلاحات المثابرات، حيث شن مفتشو بلدية القدس حملة اعتداء وحشية عليهن وتحديدا الجالسات في شارع صلاح الدين بالقدس حيث قاموا بمصادرة بضاعتهن ورمي أجزاء منها على الشارع.
وقامت عشرات النسوة بالفرار من شرطة البلدية الذين تهجموا على بعضهن ولاحقوهن لمسافات ثم صادروا بضاعتهن فيما قذف بعضهم بها إلى الشارع.
ولا تفلح صرخات النساء “هذه لي.. يقطع عمرك، لا لا لا”، ولا تدخلات شبان مقدسيين حاولوا منع شرطة البلدية من تنفيذ قراراهم بالمصادرة والطرد.
ومن أمام “مطحنة صندوقة” في شارع صلاح الدين شردت فلاحات كثيرات ونثرت بضاعتهن بالشارع وسحبت كميات من الخضار إلى سيارة البلدية فيما شبان صرخوا على شرطة البلدية قائلين “جايين تتشاطروا عليهن”، “لم يفعلن شيء لكم”، و”لا يؤثرن على أحد” لكن من دون جدوى.
وعلت أصوات شبان ورجال تواجدوا في المكان على شرطة البلدية الذين كانوا يردون أنهم ينفذون التعليمات.
ومصادرة البضاعة ورميها على الشارع تعني بالنسبة لهؤلاء الفلاحات البسيطات أن يعدن إلى قراهن ومنازلهن من دون أي مبلغ مالي يعينهن على تحمل تكاليف الحياة.
مع ساعات الفجر
وتشتهر القدس القديمة ببسطات الفلاحين والباعة التي تزين ساحاتها وشوارعها، وتشكل مصدر رزق للعائلات.
ويطلق على النسوة اللواتي يبعن بالقدس اسم “فلاحات القدس” أو “فلاحات باب العامود” وهنّ نسوة يُكافحن من أجل أن يكسبن قوت يومهنّ بعرق جبينهنّ.
تخرج فلاحات القدس مع ساعات الفجر الأولى من منازلهنّ في الضفة الغربية المحتلة وتحديدا القريبة من القدس، وكي تتاح لهن فرصة افتراش أرصفة البلدة القديمة فإن عليهن اجتياز حواجز إسرائيلية كثيرة في ظل أنهن يحملن الهوية الفلسطينية الخضراء التي لا تؤهلهن للدخول لمناطق القدس المحتلة، فأغلبهن لا يمتلكن تصاريح دخول للمدينة رغم قرب المسافة في بعض القرى لكنهن يبقين يتحايلن على دوريات الشرطة من أجل اقتناص فرصة الدخول في تحدي يومي مستمر.
بعض النساء يتعرضن لمطاردة من قوات الاحتلال عبر الطرق الالتفافية المؤدية إلى القدس، وبعضهن يتعرضن للاحتجاز والتحقيق وتحرير المخالفات مرارا، أما الفلاحات اللواتي يصبح عمرهن فوق الـ50 عاما فهن محظوظات لقدرتهن على الدخول عبر الحواجز من دون تصاريح خاصة.
كرنفال الألوان
وتتغير ملامح وألوان بسطات الفلاحات بحسب الحضراوات والفواكة الطازجة التي يجلينها بحسب الفصل، ففي فصل الصيف يبعن “الباذنجان البتّيري” (نسبة لقرية بتير في بيت لحم)، والفاصولياء والخيار والفقوس وورق العنب، أما في فصل الشتاء حيث تكتسي باللون الأخضر حيث يبيعن الخبيزة والبصل الأخضر والسبانخ والزعتر والبقدونس والفجل وغيرها.
وتحفل البسطات الفقيرة بالميرمية والزعتر والزبيب بالإضافة إلى زيت الزيتون ومجموعة كبيرة من المنتجات التقليدية مثل المكابيس (المخللات)، والملبن والدبس…الخ.
وترتبط النسوة بعلاقات طيبة مع العائلات المقدسية حيث نشأت علاقات صداقة وتعارف طويلة ولا سيما وأن بعضهن تعمل في هذا المجال منذ أكثر من 20 عاما. كما تتجاوز بعضهن العلاقة بالمدينة فكرة بيع المنتجات بالمدينة حيث علاقة وجدانية أصيلة تجمعهن.
ولم يكن الحال قبل الانتفاضة الثانية عام 2000 على هذا النحو، حيث كان يمكن لهؤلاء الفلاحات الدخول إلى القدس بسهولة.
وقبل عشرين عاما كان يتوافر للفلاحاتِ سوق خاص، سمّي على اسمهن حيث كان يمتدّ من “باب العامود” وحتى “باب الجديد”، كانت قد نظمته بلدية الاحتلال في وسيلة منها لتنظيم حركة المرور والتجارة في مدينة القدس، وإحكام السيطرة على الفلاحات.
إذلال وتغيير المشهد
الباحث زياد الحموري، مدير مركز القدس للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، يرى أن سلوك الاحتلال إزاء الفلاحات مرتبط بالرغبة العارمة لدى الاحتلال بإذلال الناس وإهانتهم وإشعارهم بأعلى درجات السيطرة والقوة.
الحموري لا ينظر للمسألة على أنها اقتصادية بحتة، “أنه يسمح لهن طوال شهر كامل بالعمل لكنه في يوم يحدده هو (الاحتلال) ويأت بكل القوة لمصادرة ما لدي الفلاحات من منتجات وهو أمر يترك عليهن أثرا كبير لكونهن نساء يعملن من أجل إعالة عائلات”.
ويتابع الحموري: “سلوك الاحتلال هنا هدفه إذلال الفلسطيني والضغط عليه ودفعه للمغادرة وهو إشارة لأن المكان ليس ملكك، نرى ذلك أيضا في مشاهد الاعتقالات وطرق التفتيش ومعابر دخول العمال للداخل الفلسطيني المحتل، كلها سياسات هدفها السيطرة والإذلال، وإحساس الناس بفقدان الكرامة، وهو أمر يمتد من المواطنين إلى التعامل مع السلطة الفلسطينية”.
وفي معرض تحليله لهذا السلوك الاحتلالي يقول الحموري أن القدس تاريخيا كانت محط أنظار كل المدن الفلسطينية، كانت سوقا لكل المنتجات ومكانا يأتيه كل الفلسطينيين من أجل التبضع والتسوق، والفلاحات هن جزء من هذا المشهد وتحديدا في منطقة باب العمود الذي كان منطقة تجمع ومعلم أساسي من المدينة.
أما مسألة منع الفلاحات فهي بحسب الحموري جزء من سياسة منع الناس من التواجد، والتدخل في تفاصيل حياة المقدسيين، إنها سياسة تهدف إلى تغيير المشهد المقدسي كله، وما حصل في شهر أيار الماضي حيث هبة باب العمود كانت تعبيرا عن رفض المقدسيين لتغيير المشهد المقدسي وتحويله إلى مشهد يهودي.
ويختم قائلا: “الاحتلال لعب في جغرافيا المكان، وهذا واضح تماما حتى في باب العمود الذي لم يكن تاريخيا على شكل درج بل كان عبارة عن ساحات مفتوحة، لكنه اليوم يريد التدخل في الديمغرافيا المقدسية، بحيث تتحول الأماكن إلى يهودية الطابع رويدا رويدا. أبرز مثال على ذلك بحسب الحموري هو “باب الخليل” الذي أصبح المشهد فيه يهوديا من خلال شراء الفنادق والسيطرة على ساحة الأرمن..الخ.
كتب الشاعر تميم البرغوثي في قصيدته الشهيرة “في القدس”: في القدسِ، بائعُ خضرةٍ من جورجيا برمٌ بزوجته يفكرُ في قضاءِ إجازةٍ أو في طلاءِ البيتْ”، وهذا البيت تحديدا مع إجراءات بلدية الاحتلال في المدينة ما يقدم المفارقة، فاستيطان والتهويد يدق رماحه في أبسط تفاصيل الحياة، حيث لا تكتمل تلك المفارقة مع بقاء فلاحات القدس في أماكنهن المعهودة مع منتجاتهن الفلسطينية الأصيلة الخارجة من حدائقهن الصغيرة من أمام ساحات بيوتهن.
وسوم: العدد 956