محاولة إعادة احتلال قطاع غزة وصفة مثالية لانتحار إسرائيل نستبعد أن تقدم عليها
في لقائه مع هيئة البث الإسرائيلية " كان 11 " قال عفيف كوخافي رئيس أركان الجيش الإسرائيلي إن هذا الجيش قادر على اجتياح قطاع غزة بفعالية أكبر من اجتياحه للضفة في عملية " السور الواقي " في أبريل 2002 ، وأن الاجتياح يتوقف على قرار المستوى السياسي للدولة . ما قاله كوخافي ليس جديدا ، فمنذ انسحاب إسرائيل مكرهة من قطاع غزة في 12 سبتمبر 2005 والحديث في داخلها لا يتوقف عن هذا الاحتلال مع تفاوت الآراء حول جدواه ، الواعون لحقائق الأمور يرونه لا جدوى منه ، وأن مشكلة إسرائيل مع غزة سياسية ، وحلها سياسي لا عسكري ، والجهلة المتهورون يرونه مفيدا ، ويزعمون أن الانسحاب كان خطأ استراتيجيا قاد إلى اشتداد قوة المقاومة في القطاع التي تجلت في الحروب الأربع التي شنتها إسرائيل عليه ، وكان تجليها في الحرب الرابعة واضحا وصادما لإسرائيل .
ويدرك المستويان العسكري والسياسي الحاليان في إسرائيل أن إعادة احتلال قطاع غزة لن تكون بالسهولة التي يتصورها الجهلة والمتهورون ، وأن عواقبها ، في حال نجاحها عسكريا ، ستكون وبالا مخيفا على دولتهم ووصفة مثالية لانتحارها ولو ببطء . وما قاله كوخافي عن قدرة جيشه على الوصول إلى أي مكان ليس أكثر من جرعة نفسية لتقوية معنويات مستوطني دولته الذين اهتزت ثقتهم في قدرة هذا الجيش على جلب الأمن الذي يحلمون به في أجواء الرًهاب من محور المقاومة العربية والإسلامية المتألف من حزب الله وسوريا وإيران والمقاومة الفلسطينية وجماعة أنصار الله اليمنية ، وهؤلاء الحالمون يتوقون إلى انتصارات عسكرية سريعة من صنف انتصار 1967 ، وما تلاه من عنفوان عسكري إسرائيلي وغرور قومي بأن إسرائيل صارت دولة عظمى مرهوبة الجانب ، وأن جيشها مقتدر على فعل المعجزات في ساحات القتال ، وكان من عبارات عنفوانهم وغرورهم قولهم إنهم لن يلتقوا مع الفلسطينيين إلا في ساحات القتال . ولى زمن الانتصارات العسكرية الإسرائيلية والعالمية السريعة التي يصنعها الأقوى عسكريا ، وما نراه في اليمن وأوكرانيا من بين الشواهد على هذا التولي ، وقبلهما شهدت عليه حروب إسرائيل في لبنان وفي قطاع غزة . ونجاح إسرائيل في اجتياح الضفة في عملية " السور الواقي " قلل عواقبه السيئة عليها عودة التنسيق الأمني بينها وبين السلطة الفلسطينية بعد الاجتياح ، وهو ما تعترف به إسرائيل نفسها ، وتصاعد هذا التنسيق بعد رحيل عرفات ، وهو الآن في ذروته ، ويؤدي دورا عظيما في حماية مستوطني إسرائيل وجنودها .
ولا أمل لإسرائيل في تكراره في قطاع غزة لاختلاف الحالين بين المكانين ، وإذا حاولت تكراره فسيقتل ويجرح لها مئات الجنود ، وبعد الاحتلال ، على فرض حدوثه ، لن يكون صورة من احتلالها للقطاع في 5 يونيو 1967 ، وهي الصورة التي يتوهمها الجهلة المتهورون في إسرائيل ويتوقون إليها في هوس عاطفي مرضي . وسأقصر حديثي لبيان استحالة تكرار تلك الصورة على ذكر الفوارق بين حال قطاع غزة في ذلك العام وبين حاله اليوم مع إشارة سريعة إلى حال إسرائيل ، وأخرى إلى حال العالم :
أولا : في ذلك العام كان عدد سكان اقطاع 400 ألف نسمة ، وهم اليوم مليونان ونصف وربما أكثر ، وعقب الاحتلال نزح منه قرابة 50 ألفا ، وتوالى خروج عشرات الآلاف للدراسة أو العمل في الخارج خاصة في الدول العربية ، وكان هؤلاء يعودون إليه بين عام وآخر، وحرمت إسرائيل النازحين من العودة إليه مثلما حرمت من كانوا يدرسون أو يعملون في الخارج وقت احتلالها له . وفتحت بناء على توجيه من ديان وزير دفاعها الباب لمن يريد أن يعمل فيها من أبناء القطاع ،فصرفهم العمل عن مقاومة احتلالها مثلما صرفت الدراسة والعمل في الخارج الذين درسوا وعملوا فيه . وما سبق سهل ذلك الاحتلال وقلل أعباءه ومخاطره عليها حتى انفجرت الانتفاضة الأولى في 7 ديسمبر 1987 ، وحديثها موصوف معروف .
ثانيا : كان القطاع شبه أعزل من السلاح في 1967 ، ولم يكن به سوى ثلاث كتائب فلسطينية كبار ضباطها مصريون ، وتسليحها خفيف مع قليل من المدفعية التي أدخلت على عجل قبل الحرب بأيام ، وكانت القيادة العسكرية المصرية تصنف قطاع غزة منطقة ساقطة عسكريا ، ولا أمل في الدفاع عنها . وفي القطاع اليوم مقاومة من عشرات الآلاف من الشباب المدربين المفعمين ثقة بقدرتهم على التصدي لجيش إسرائيل تصديا يوجعه ، ويقاتلون هذا الجيش بعقيدة قرآنية تجعلهم يتوقون للشهادة توقا صادقا حارا ، وسلاحهم قادر على محدودية عدده وفاعليته على إيلام جيش إسرائيل ومستوطنيها الذين لم تطلق عليهم رصاصة واحدة في 1967، وصاروا الآن كعب أخيل الذي يرمز في الأساطير اليونانية إلى نقطة الضعف . ويستحيل اليوم السيطرة على قطاع غزة بعد احتلاله بكثافته السكانية والعمرانية والوفرة النسبية للسلاح فيه ، ووجود الآلاف من الشبان القادرين على استعماله بكفاءة قاتلة لجنود الاحتلال . ومبعث سخرية مزرية تخطيط إسرائيل لإقامة معسكرات اعتقال لآلاف الفلسطينيين من القطاع بعد احتلاله وهي التي تعاني كل ألوان المرارة وطلوع الروح من عدة آلاف من المعتقلين القدامى منهم في داخلها .
ثالثا : في 1967 كان الوهم عظيما بأن الجيوش العربية ستحرر فلسطين ، واليوم لا وجود لهذا الوهم ، وحل محله الاعتماد على النفس لمقاتلة العدو بأسلوب يمزج بين حرب العصابات في أكثره ، ومن حرب الجيش النظامي في أقله ، والاعتماد على النفس يحض على الاستبسال في المقاومة لمعرفة المقاومين أنهم لن ينجدهم أحد ، وأظهرت الحرب الرابعة في مايو من العام الفائت 2021 قدرة عالية مدهشة للمقاومة على إدارة قتالها مع الجيش الإسرائيلي ، وأحبطت خطته التضليلية التي استهدف منها دخول كثيرين من رجالها في الأنفاق لقصفها جويا وقتلهم .
رابعا : تطور وسائل بث الأخبار والصور والبيانات عن أحداث الحرب تطورا واسعا سهل نقلها إلى كل العالم ، وأي اعتداء واحتلال سيفضح ما يقع فيهما من جرائم فورا ، ويثير غضب العالم ، وهذا لصالح المعتدى عليهم وضد المعتدي المجرم . بعد احتلال القطاع بشهر في 1967 بادرت مجموعات صغيرة من كتائب جيش التحرير الفلسطيني الثلاث إلى مقاومة الاحتلال ، واستطاعت الحد من تحركات قواته ليلا ، وكتب المراسل البريطاني توم ليتل أن غزة محتلة نهارا محررة ليلا ، فطردته إسرائيل من غزة . الآن أي حامل جوال يمكنه أن يكون مراسلا يفضح جرائم الاحتلال فور وقوعها .
خامسا : وفي غزة اليوم قوى سياسية منظمة تنظيما متماسكا تستطيع من خلاله مقاومة الاحتلال على المستوى الشعبي المحلى والمستوى العربي والإسلامي والعالمي ، وهذا لم يكن له وجود في 1967 .
وفي إشارة سريعة إلى إسرائيل تبرز السلبيات الآتية ضدها :
أولا : كانت حرب 1967 حرب حياة أو موت لها ، ورغم تمسكها بهذا المفهوم لحروبها بعد تلك الحرب إلا أنه أصابه ضعف واضح ، وفيها اليوم انقسام حول جدوى احتلالها للضفة ، وهو أشد في حال غزة ، وأكثر من ذلك فيها يأس من جدوى الحرب في حل مشكلاتها الوجودية مع الفلسطينيين .
ثانيا : إذا احتلت القطاع ستكون ملزمة بتوفير مقومات العيش والعمل والصحة والتعليم لشعب من مليونين ونصف مليون نسمة ، وستضطر لفتح باب العمل داخلها لحوالي مائتي ألف منهم ، وسيعرض هذا أمنها لخطر حتمي لما قد يقدم عليه مئات منهم على الأقل من أعمال مقاومة قاتلة في داخلها ، وقبل الانتفاضة قال إسحاق رابين الذي ولي وزارة دفاعها مرة ورئاسة وزرائها مرة إنه سيخرج غزة من إسرائيل ، وكان في قوله سابقا على خطة شارون للانسحاب منها .
ثالثا : أي خطوة عدوانية تقدم عليها إسرائيل ضد قطاع غزة ستهيج عليها فلسطينيي الداخل الناقمين عليها نقمة أشد من كل نقماتهم القديمة ، وستهيج فلسطينيي الضفة والقدس الهائجين أصلا ، وستجد نفسها في صراع معقد مرعب مع ثلاث كتل بشرية فلسطينية .
رابعا : لن يتركها محور المقاومة العربية والإسلامية تنفرد بقطاع غزة ، وسيجتهد للإضرار بها بوسائل لم يكن لها وجود في 1967 .
وفي حال العالم تواجهها السلبيات التالية :
أولا : يعلم كثيرون في العالم سوء حال قطاع غزة ودور إسرائيل في هذا السوء من خلال حصارها له منذ 15 عاما ، وأي عدوان تقوم به سيؤجج نقمتهم عليها .
ثانيا : تلاشت صورتها التي كانت عليها في 1967 ، صورة الدولة الصغيرة التي يريد ملايين من أعدائها العرب القضاء عليها . صورتها الآن صورة دولة عنصرية معتدية تضطهد الشعب الفلسطيني ، وتسرق ما تبقى من وطنه بعد سرقة جزئه الأكبر في 1948 ، وهذه الصورة شائعة ومكروهة في أوروبا وأميركا وبين يهودهما ، ويتواصل شيوعها وكرهها ، وكثرت الموازنة بعد الحرب الروسية _ الأوكرانية بين إدانة أميركا والدول الأوروبية والأمم المتحدة لروسيا وسكوتها عن جرائم إسرائيل في الأراضي الفلسطينية .
ثالثا : تطبيع عدة دول عربية علاقاتها مع إسرائيل لم يكسبها أي قبول لدى شعوب هذه الدول ، وظلت لا ترى فيها إلا عدوا ممقوتا لا سبيل للتقارب معه . وأبناء هذه الشعوب لن يقلوا بسالة وروح تضحية عن الفلسطينيين لو منحوا سانحة لقتال إسرائيل ، وأي عدوان لها على قطاع غزة ستقابله هذه الشعوب بالغضب والاستياء من حكامها الذين طبعوا علاقاتهم معها خارجين على إرادة هذه الشعوب . والأحوال الثلاث ، حال قطاع غزة ، وحال إسرائيل ، وحال العالم ، تجعل أي محاولة لها لإعادة احتلال غزة انتحارا لها ولو ببطء من خلال تفاعلاته وارتداداته السلبية عليها في كل هذه الساحات ، ولديها من العسكريين والسياسيين من يعون هذه الحقيقة ، ومن ثم نستبعد إقدامهم على هذه الخطوة المميتة لدولتهم .
وسوم: العدد 972