طريقة صيانة القرآن الكريم للفطرة البشرية التي فطر الله تعالى الناس عليها
خلافا لما ظنه كثير من الناس منذ فجر التاريخ البشري ، ولا زالت الكثرة الكاثرة منهم تظنه ، وسيبقى هذا الظن قائما إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها أن الإنسان وجد صدفة في هذا العالم ، وأنه خلق عبثا ، وأنه لا يحشر ، ولا يحاسب ولا يجازى بل يذهب سدا . ومن كان هذا ظنه ، فإنه لا يبالي إن انحرف عن الفطرة التي فطره الله تعالى عليها ، وهو انحراف يجعله شقيا في هذه الحياة الدنيا قبل شقاوة الآخرة .
ومعلوم أن الفطرة البشرية هي الطبيعة السليمة التي لم يشبها عيب ، وهي صنع الخالق جل في علاه الذي أتقن كل شيء . و معلوم أيضا أن لزوم الناس الفطرة التي فطرهم خالقهم سبحانه وتعالى عليها يضمن لهم العيش الكريم في الحياة الدنيا ، والسعادة الأبدية في الآخرة ، كما أن التفريط في صيانتها يجعل عيشهم في حياتهم الدنيا ضنكا ، والشقاوة الأبدية مصيرهم في آخرتهم .
ولما كان الله تعالى قد كتب على نفسه الرحمة ، فإنه تعهد الخلق برحمته في رسالاته التي أرسل بها رسله الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين ضمّنها توجيهاته التي بها تصان فطرتهم التي فطرهم عليها ليسعدوا في الدارين .
ولما اقتضت إرادته سبحانه وتعالى ختم تلك الرسالات بالرسالة الخاتمة المنزلة على أشرف خلقه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وجعلها مصدقة لما بين يديها ومهيمنة عليه، ضمنها ما به تصان الفطرة البشرية من كل انحراف من قبيل ضبط الغرائز المتأصلة في الإنسان علما بأن الطبيعة البشرية قوامها عنصران : عنصر طيني يرمز إلى الجسد، وآخر نوراني ترمز إليه الروح المنفوخة في الجسد . والطبيعة الطينية نزاعة إلى الشهوات على اختلاف أنواعها، والتي تطلب الغرائز إشباعها باستمرار وإلحاح إلى آخر رمق من حياة الإنسان .
وصيانة للفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها فقد هداهم ،وألهمهم سبل تهذيب غرائزهم وإلجام شهواتها الملحة والجامحة .
وعلى رأس الغرائز الملتهبة على الدوام غريزة الجنس ، وقد أودعها الله تعالى في الإنسان لغاية أشرف وأنبل بالرغم من طبيعتها التي قد ينظر إليها كثير من الناس نظرة ازدراء واستخفاف بحكم العادة والثقافة ، وهي غاية المحافظة على النوع البشري ليخضع في ظروف مناسبة إلى ابتلاء في الحياة الدنيا يحاسب عليه في الآخرة ، ويجزى عنه جزاءه الأوفى . ومن صيانة الفطرة البشرية السليمة غير المشوبة بعيب أن يتعامل الإنسان مع هذه الغريزة كما أراد له ذلك خالقه ، وهو مصممها ومبرمجها لتصرف التصريف الصحيح ، وتضبط الضبط اللازم .
ولقد وردت في القرآن الكريم أساليب هذه الصيانة أولا بتنظيم العلاقة الجنسية بين الذكور والإناث بحيث لا يجوز، ولا يسمح إلا بعلاقة الزواج الشرعي المشهود والموثق ، وما عدا ذلك من علاقات جنسية سمها الله تعالى فاحشة الزنى ممنوع ،ومحرم ،ومرفوض ، وهي مما يطالب به اليوم الذين يرومون الانحراف بغريزة الجنس عن مقصدها الشرعي ، ويضفون عليها أسماء ونعوت من قبيل العلاقة الجنسية الرضائية ، أوالعلاقة الجنسية المثلية ،وهم يريدون من وراء ذلك طمس معالم شناعة الفاحشة المستقبحة المهددة للفطرة البشرية السليمة .
ولقد ذهب القرآن الكريم في تجريم فاحشة الزنى إلى حد تخصيص عقوبة قاسية لها تتراوح بين الجلد بالنسبة لغير المحصنين ، والرجم حتى الموت بالنسبة للمحصنين ، وكفى بهذه العقوبة مؤشرا على شناعتها وقبحها . ونظرا لشناعتها وقبحها فقد صان الله تعالى البشر منها عن طريق تحذيرهم من كل ما يمت إليها بصلة أو يفضي إليها بدءا بغض الأبصار ، وانتهاء بحفظ الفروج ، ومرورا بكل ما يدفع في اتجاه إلهاب غريزة الجنس من عري ، أو إبداء للزينة أو تكسر في المشي ، أو خضوع بالقول... إلى غير ذلك من السلوكات المثيرة لها . وما أقدم إنسان على مثل هذه السلوكات إلا وقدح زناد غريزة متفجرة لا قبل له بضبطها بعد قدح زنادها ، وقد سلك بها مسالك الإثارة . ولن يستطيع مع ذلك صيانة الفطرة التي فطره الله تعالى عليها ، وعليه ينطبق قول الشاعر الحكيم :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
وأخطر ما يهدد الفطرة البشرية السليمة السلوك بغريزة الجنس مسالك غير تلك التي أراد لها الخالق سبحانه وتعالى المصمم لها التصميم الدقيق والهادف . وأول فساد يلحق بالفطرة السليمة أن تصرف غريزة الجنس تصريفا شاذا عن التصريف السليم الذي أمر به الله عز وجل بحيث تكون بين طرفين من نفس الجنس ، وهو ما يسمى شذوذا ، ويسميه الشاذون مثلية ، أو تكون بين طرفين من جنسين دون أن تكون بينهما علاقة زواج شرعي ، وهو ما يسمى زنى ، ويسميه الزناة رضائية، أو تصرف بكيفيات غير مسموح بها حتى وإن كانت بين الأزواج المشروعة علاقتهما الزوجية ، وقول الله تعالى : (( نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم )) ، لا يمكن أن يستباح به ما لم يبحه الله عز وجل ، وهو الإتيان من منبت الولد لا غير، وقد دل على ذلك استعمال " أنى " التي تفيد في الآية الكريمة الظرفية الزمانية والمكانية بحيث يمتنع الإتيان في أزمنة معلومة كزمن الصوم ، وزمن أذى المحيض، والنفاس كما تفيد أيضا الهيئة أو الكيفية، وهو ما لم تقيده الآية الكريم خلافا لما كان يزعمه أهل الكتاب من تقييد الإتيان بهيئة واحدة دون غيرها من الهيئات .
ولم يكتف القرآن الكريم بتهذيب غريزة الجنس دون باقي الغرائز التي تقل عنها إلحاحا بل هذبها كلها بما يصون الفطرة السليمة كما هو الشأن على سبيل المثال لا الحصر بالنسبة لغريزة الأكل والشرب حيث أمر الله تعالى بالاقتصاد والتوسط في ذلك بين الإفراط والتفريط حيث يعتبر أمره بالتصرف في الإنفاق بهذا التوسط ، تهذيبا لغريزة الأكل والشرب علما أن الإنفاق متعلق بهما .
وعلى غرار تهذيب الغرائز ذات الطابع المادي الصرف ،هذب القرآن الكريم الغرائز ذات الطابع المعنوي مما يكون سببا في التصرفات الشاذة المهددة للفطرة السليمة من جور ، أو حقد ، أو غضب ، أو حسد ، أوغيبة ، أو قذف ، أو زور ، أو بهتان ، أو خيانة، أو سوء ظن .... ومعلوم أن هذه السلوكات الشاذة كلها مما يفسد الفظرة السوية .
ومن أخطر الشذوذ المهدد للفطرة السليمة السوية الشذوذ الفكري الذي يترب عنه شذوذ التصرفات ، ذلك أن الفكر هو المتحكم في القناعات والاعتقادات ، وهو المسؤول عنها ، وبقدر ما يكون سويا ، تكون هي الأخرى سوية ، وبقدر ما يشذ يكون شذوذها . وما جحد الخلق ،ولا أنكروا وجود خالقهم أو أشركوا به إلا لشذوذ فكرهم الذي يترتب عنه شذوذ قناعاتهم واعتقاداتهم . ولقد عالج القرآن الكريم هذا النوع من الانحراف عن الفطرة حيث خاطب العقول البشرية دون مخاطبة الأهواء ، ورجح كفتها عليها بدعمها بالحجج الدامغة التي لا ينكرها إلا جاحد ومكابر أو جاهل معطل لملكة العقل راكب هواه ، وكلاهما يكون عبد هواه يخضع له خضوع المخلوقات غير العاقلة للإنسان .
والواجب على من أنعم عليه الله عز وجل بنعمة الإيمان والإسلام أن يقتفي في كتاب ربه كل آية من آياته التي تصون الفطرة البشرية السوية ،وهي موزعة بين أوامر أمر بها سبحانه وتعالى ،ونواه نهي عنها ، ومن ائتمر وانتهى، فقد صان فطرته ، وحفظ نفسه من شقاوة الدارين ، وأدرك منزلة (( قد أفلح من زكاها )) وتنكب منزلة (( قد خاب من دسّاها )) .
وسوم: العدد 984