غربة الفصحى
«من أغرب ما وقع في تاريخ البشر وصعُب حلّ سره: انتشار اللغة العربية، بدأت فجأة في غاية الكمال، غنية.. كاملة بحيث لم يدخل عليها منذ يومنا هذا أي تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأول أمرها تامة محكمة ولم يمضِ على فتح الأندلس أكثر من خمسين سنة حتى اضطر رجال الكنيسة إلى أن يترجموا صلواتهم بالعربية ليفهمها النصارى».
ذلك النص، يعود إلى الكاتب والمؤرخ الفرنسي أرنست رينو، يتحدث خلاله عن اللغة العربية بهذه الروعة، على الرغم من أنه أحد خصومها.
ويبرز الخليل بن أحمد في كتاب «العين» مدى غنى اللغة العربية وثرائها، فيقول إن عدد أبنية كلام العرب 12 مليون و305 آلاف و412 كلمة.
كما أن اللغة العربية ثرية بتعدد الأسماء فيها، فالأسد له 400 اسم، والسيف له حوالي 300 اسم، والماء له 170، وغير ذلك الكثير. وقد أثبت الأديب كامل الكيلاني، أنه ما من معنى في شعر أو نثر في أدب من الآداب إلا وله شبيه أو نظير في اللغة العربية، ووجد أن هناك 25 صورة من الأدب العربي لا نظير لها في الآداب الغربية.
لكن قبل أن ننتشي فخرا بتلك المعلومات عن لغتنا العربية، ينبغي أن ننظر في واقعنا حتى نرى هل يحق لنا الفخر أم لا، فاللغة العربية التي نتحدث عنها، هي العربية الفصحى التي أصبحت غريبة في بلادها، بعد أن هيمنت اللهجات العامية على كل المجتمعات العربية. أحدهم من غير العرب، يتحدث بالعربية إلى رجل عربي، إلا إن الأخير بالكاد يفهمه، وتمر عليه بعض المفردات لا يستوعب معناها. ليست هذه طرفة، لكنها حقيقة، تحدث أحيانا عندما يكون العربي بعيدا عن اللغة العربية الفصحى، يحدثه رجل غير عربي تعلم اللغة العربية، لأنهم يتعلمون الفصحى لا اللهجات العامية المنتشرة في بلاد العرب. لم يعد للفصحى وجودٌ إلا على منابر الخطباء، ونشرات الأخبار، والمؤتمرات، على ركاكة الأساليب وضعفها. إن العرب قاطبة، يجدون صعوبة في التواصل في ما بينهم باللهجات العامية المحلية بين مكثر ومقلّ، ومدلولات الألفاظ تختلف من بلد لآخر، وربما أوقعت هذه الألفاظ قائلها في مأزق، وقد تكررت حكايات سمعتها عن أناس من العرب سافروا لبعض الدول العربية للعمل، واستخدموا ألفاظا متداولة بلا بأس في أوطانهم، كادت أن تفقدهم حياتهم، لأن لها مدلولا آخر في تلك البلاد يتعلق بالشرف. وإذا قدر لك التعامل مع بعض إخوتنا في بعض البلدان العربية كالمغرب مثلا، ستدرك مقدار الصعوبة التي تواجهها في فهم المتحدثين بها.
ولا أبالغ إن قلت، إن بعض العرب من بلدان مختلفة، يكون التواصل بينهم بالإنكليزية أيسر من التعامل باللهجات العامية المحلية. ولن يمنعني الاتهام بتبني نظرية المؤامرة من الكلام عن مؤامرة حقيقية ارتبطت بالاستعمار والاستشراق والتغريب، على اللغة العربية، لغة القرآن والوحدة العربية، بتشجيع اللهجات العامية، وإحلالها مكان الفصحى، بدأت الدعوة في مصر، ومنها إلى الشام ولبنان، وبقية الدول العربية. يذكر المفكر الراحل أنور الجندي، أن هذا المشروع مرتبط بإعلان اللورد دوفرين في تقرير وضعه عام 1882 عقب الاحتلال البريطاني لمصر، حين دعا إلى معارضة اللغة الفصحى، لغة القرآن، وتشجيع لهجة مصر العامية واعتبارها حجر الزاوية في بناء منهج الثقافة والتعليم والتربية في مصر، وقال في تقريره بالحرف الواحد «إن أمل التقدم ضعيف في مصر طالما أن العامة تتعلم اللغة الفصحى العربية كما هي في الوقت الحاضر». أما المبشر وليام ويلكوكس الذي كان يعمل مهندسا في الاحتلال البريطاني على مصر، فقد صرح في خطاب له في نادي الأزبكية، أن السر في عدم وجود قوة الاختراع لدى المصريين، هو اللغة العربية الفصحى، وأن سبيل إيجادها هو اتخاذ العامية بديلا.
ومن هنا ندرك مدى ارتباط الدعوة إلى تهميش ونبذ الفصحى بالاستعمار، ورغبته في شق وحدة اللسان العربي، وهيمنة اللهجات العامية التي يتميز بها كل بلد، حتى غدت كأنها لغات منفصلة. ومن بين المحاولات التي تمت للقضاء على الفصحى، خطة الكتابة بالحروف اللاتينية على غرار ما حدث في تركيا بعد إلغاء الخلافة العثمانية، وقدمت عدة مشروعات بهذا الشأن، إلا أن حماة اللغة دافعوا عنها وأحبطوا المحاولات. لقد أحدث النأي عن الفصحى دخول لغات أجنبية عدة على اللسان العربي، خاصة المصري والشامي والمغربي، وتجد اختلاطا وامتزاجا بين هذه الألسنة وحشدا كبيرا من مفردات اللغات الأجنبية التي ترجع لأيام الاحتلال. لقد أصبح هناك بين العرب وبين الفصحى حاجز شاهق، فأصبح الحديث بالفصحى شيئا ثقيلا على الآذان والنفوس، وصل إلى حد تنكّر قطاعات عريضة من الجماهير في الكتابة بالأحرف العربية والاستعاضة عنها بما يعرف بالفرانكو، وتجد ذلك واضحا بقوة على مواقع التواصل الاجتماعي. ومن أسوأ نتائج غربة الفصحى، أن أصبح العرب في شبه عزلة عن تراثهم الإسلامي العربي، ولم يعد هضمه والإبحار فيه شأنا عاما، بل أصبح شأن المتخصصين، وكأن التراث قد أصبح طلاسم تحتاج إلى فك رموزها. لقد شبه البعض ما يحدث بشأن غربة الفصحى وتأثيره في التراث، أن أصبح عشرات الآلاف من كتب التراث بالعربية في مختلف مجالات الشريعة والأدب والحضارة والفكر والفن، عبارة عن توابيت في دار الآثار والمتاحف.
اللغة العربية لصيقة بالقرآن الكريم، وقد أوضح المستشرق بول كراوس هذه العلاقة صراحة بقوله: «لا لغة عربية من دون قرآن»، ومنذ أن ارتبطت بالقرآن، لم تعد لغة العرب وحدهم، وإنما أصبحت لغة ثقافة تخص ما يقرب من ملياري مسلم، وإنك لتجد في المؤسسات الدينية العريقة كالأزهر في مصر، الآلاف من الدارسين من شتى بقاع الأرض، خاصة البلاد الآسيوية، التابعين لبلدان ليست عربية. عارٌ أن تصبح الفصحى خارج الوطن العربي أكثر انتشارا، حيث أن هذه البلاد غير العربية، عندما يتعلمون اللغة العربية فإنهم يتعلمون الفصحى، فتراهم إذا تحدثوا كان حديثهم بالفصحى، بينما لا يعرف كثير من العرب كيف يتحدث بها لدقيقتين. إن لم يكن هناك من وسيلة لكسر غربة الفصحى على الأصعدة الرسمية والمؤسساتية، فبإمكان المهتمين من المثقفين والناشطين خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، نشر ثقافة الاهتمام بالفصحى، والدعوة في الجروبات إلى تفعيل التواصل بها، كما يمكن أن يلعب الناشطون ممن لهم باع في اللغة، سواء كانوا كُتابا أو معلمين أو مدققين ونحوهم، دورا بارزا على مواقع التواصل الاجتماعي بنشر الفوائد اللغوية، وإبراز جمال اللغة، فهذا أقل ما يمكن تقديمه على الصعيد الجماهيري لكسر غربة الفصحى، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 989