كرة السلة في الجحيم اللبناني
«قولوا له لا نريد تهنئته، نحن نحاول تنظيف الخراء الذي تسبب فيه هو وباقي السياسيين، من الأفضل أن يبقى فمه مغلقاً».
هذا الكلام قاله نجم منتخب لبنان في كرة السلة، وائل عرقجي، رداً على التهنئة التي وجهها السيد نجيب ميقاتي للمنتخب اللبناني بعد فوزه على الصين.
قال عرقجي كلامه وهو يطير في الملعب، محققاً فوزاً ثميناً وصعباً على المنتخب الأردني، في مباراة مدهشة في نديتها وجمالياتها، غير أن الميقاتي لم يفهم الكلام، فتابع التغريد والتهنئة وكأن له أو لغيره من أفراد المافيا الحاكمة أي يد في الفوز، الذي أوصل لبنان إلى المباراة النهائية مع أستراليا.
لم يتوج لبنان، بعد هزيمته بفارق نقطتين أمام أستراليا، لكن وائل عرقجي نال لقب أفضل لاعب في آسيا، وكأنه أخذ بثأر اللبنانيات واللبنانيين من المافيا الحاكمة، التي حولت لبنان إلى نموذج للفساد والإفلاس.
هذه هي لعبة العصابة الحاكمة، يركبون على ظهور الناس، يرمونهم في الفقر والبهدلة، يسرقون عرق جباههم، ثم يفاخرون بأي إنجاز تحقق رغماً عنهم وعن نظامهم.
الكثير من وسائل الإعلام نقلت كلام عرقجي محرّفاً، فتم استبدال كلمة «خراء» بكلمة «وسخ». هذه العفة ليست ناجمة عن حياء أخلاقي، فأحد عناصر الشهرة اللبنانية في بلاد العرب هو استخدام الشتيمة في الكلام اليومي. هذا النوع من فراغ الكلام هو نتاج خطيئة أصلية ارتكبها رواد عصر النهضة اللغوية، عندما قاموا بإخصاء الفصحى وتطهيرها.
البيوريتانية التي تميزت بها القواميس الحديثة، ابتداء من قاموس «محيط المحيط» للمعلم بطرس البستاني (1883)، طبعت لغتنا، بحيث اختفت منها الكلمات «النابية»، أو تلك التي تسمي «الأماكن الحساسة»، في الجسم، فصارت لغتنا الفصحى تتأتئ ولا تعبّر، بينما احتفظت العامية بفصاحتها وقدرتها على تسمية الأشياء بأسمائها.
الرياضي اللبناني قال ما يقوله الناس كل يوم، وهم يشعرون بأن بلادهم تتلاشى، ومستقبلهم يتدهور في حاضر صار كابوساً يومياً.
غير أن الميقاتي لم يسكت، ولن يسكت، فالطبقة المافيوية الحاكمة لا تملك سوى الكلام المكرر، الذي يشعرها بأنها لا تزال تمسك بزمام الأمور، بينما هي لا تمسك سوى بالخراب.
لقد جمع السيد نجيب ميقاتي اللقبين، فهو رئيس الحكومة اللبنانية المستقيلة ورئيس الحكومة المكلف. والرجل يخوض صراعاً مكشوفاً مع رئيس الجمهورية، الذي تنتهي ولايته بعد ثلاثة أشهر، على التشكيلة الحكومية الجديدة.
صراع تُستخدم فيه جميع الأسلحة المتاحة، لأن الرجلين على اقتناع بأن لبنان سيدخل في فراغ رئاسي مديد، وستتسلم الحكومة صلاحيات رئيس الجمهورية.
والصراع بين الرجلين هو جزء من صراع حيتان المافيا الحاكمة على بقايا السلطة وفتات البلد. صراع يتخذ أشكالاً كوميدية وصلت إلى ذروتها مع اقتحام القاضية غادة عون، المحسوبة على جماعة عون-باسيل المصرف المركزي بهدف اعتقال الحاكم رياض سلامة، تمهيداً لعزل الرجل لأن عون- باسيل يريدان حاكماً من جماعتهما.
مسألة تكالب رجال المافيا على السلطة التي انهارت، تستحق الدراسة. اذ لم يشهد العالم مجموعة حاكمة، أوصلت البلاد إلى الإفلاس، ترفض التنحي وتتابع لعبة نهب ما تيسر، وتصر على البقاء في السلطة بحجة أنها حامية الطوائف.
فاذا أخذنا محاولة غادة عون القفز فوق القوانين والأصول من أجل اعتقال رياض سلامة، نكتشف أن جميع اللاعبين مدانون، ويتصرفون كالدمى المتحركة التي كسرت كل الأعراف والقوانين، وباتت تعيش على بقايا اللغو الذي يقول كي لا يقول.
أما حكاية «المساعدات» التي جلبها المطران الماروني موسى الحاج من اللبنانيين المقيمين في إسرائيل، فكانت مناسبة لإعادة إشعال الكلام الطائفي. وكأن الانقسام اللبناني هو الجدار الأخير الذي يسمح للمافيا بأن تتابع لعبتها المبتذلة.
يتصارعون على الفتات، بينما يقع الموضوع في مكان آخر، فالموضوع أيها السادة ليس رئاسة الجمهورية، ولا لعبة الصلاحيات، ولا حقوق الطوائف.
الموضوع له اسمان:
الانهيار الاقتصادي الذي يجب تدفيع مسببيه من الحكومات المتعاقبة إلى إدارات المصارف ثمنه، عبر إحالتهم إلى القضاء، وإبعادهم عن السلطة.
والسيادة الوطنية التي لا تتأسس دون إعادة نظر جذرية في موقع لبنان ومواقفه، في منطقة تتدهور إلى تطبيع يحوّل دولة الاحتلال إلى متسيّد على المنطقة. السؤال هو: كيف نؤسس وطناً سيداً يتمسك بالعدالة في فلسطين، ويلعب دوراً طليعياً على مستوى الدفاع عن الحرية وسط هذه العتمة العربية الحالكة.
من هنا تبدو كل اللعبة السياسية وكأنها خارج الموضوع، حتى الترسيم الذي يجب أن يكون قضية إجماع وطني، يتعرض اليوم لامتحان المحاور الإقليمية.
وسط هذه المناخات، غنّى رئيس الحكومة المكلف معتقداً أنه يضفي طابعاً هزلياً على المأساة، كأنه لا يعلم أن كل شيء هزُل، حتى الضحك صار مفتعلاً وكئيباً.
في ذلك اليوم، واحتفاء بالسياحة، (نسمي زيارات المغتربين الذين هربوا من الجحيم سياحة!) وخلال احتفال في مركز التدريب والمؤتمرات التابع لشركة طيران الشرق الأوسط في مطار رفيق الحريري، امتطى دولته المنبر مهنئاً وزير السياحة على الشعارات التي أطلقتها وزارته في هذا الموسم، والذي توجّه شعار أغنية صباح «أهلا بهالطلة». وأراد دولته إضحاك الناس فقال: «نتمنى منكم جميعاً أن تدعوا معي إذا استمررنا في اختيار الأغاني كشعارات، ألا نصل إلى أغنية (عَ العصفورية خدني يا بيي ع العصفورية)».
وهنا غنى الرئيس، وتوقع أن تشاركه القاعة الغناء! لكنه وجد نفسه وحيداً، فتوقف عن الغناء وعاد إلى وقاره الرئاسي الذي أكد عليه حين غرّد رداً على وائل عرقجي متهماً إياه من دون أن يسميه بأنه صوت نشاز.
واليوم ونحن على أبواب الذكرى الثانية لجريمة انفجار المرفأ التي لم تتوقفوا لحظة عن تغطيتها وتغطية مرتكبيها، نقول لكم إن الأصوات النشاز هي أصواتكم يا صاحب الدولة، فاستحوا واخرسوا.
وسوم: العدد 990