في المقاومة الثقافية
الغزو الثقافي يسبق الغزو العسكري ويمهّد له، ثم يرافقه، ثم يتلوه.
والأمة التي تُغلب ثقافياً تفقد ثقتها بنفسها، ويبهرها الإعجاب بقوة عدوها، فتفتح حصونها ليدخلها ويجوس خلال الديار، وهي بين مذهول ومدهوش وخانع وعاجز ومتألم، ومهزوم لا يلوي على شيء!.
فإذا دخل العدو الأرض قام المتزلّفون يقدمّون له فروض الطاعة، ويحرقون حوله البخّور، ويتمسّحون به، ويُضْفون القداسة على أقواله وعاداته وقيمه...
وبلاد المسلمين اليوم في هذه الأوضاع السيئة، فمنها ما سبق إليه الغزو الثقافي وتبعه الغزو العسكري وما بعده، ومنها ما يعمل فيه الغزو الثقافي، ونرجو ألا يتبعه ما بعده.
ولولا ثقتنا بفضل الله تعالى أولاً، وبوعده في أن يُظهر دينه على الدين كله، وبثُلّة مؤمنة تنمو وتثبّت جذورها في مشارق الأرض ومغاربها... أقول: لولا ذلك لدبَّ اليأس في قلوبنا، ولكنْ: )إنه لا ييئس من رَوح الله إلا القوم الكافرون(. سورة يوسف: 87.
وليس غريباً أن يمارس العدو فينا غزوه في كل المجالات: الثقافي والسياسي والاقتصادي والعسكري... فهو عدوّ! ولكن الغريب المؤسف أن ينساق أبناء جلدتنا فيصبحوا مطبّلين في جوقة هذا الغازي وهم لا يشعرون.
* * *
وحتى لا يبقى الكلام نظرياً، يمكن أن نذكر أمثلة توضّح وقوع بعض المسلمين في هذا الفخّ:
1- حب الحياة
الناس يحبُّون الحياة. ويزداد هذا الحب في قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة )ولتجدنّهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا، يودُّ أحدهم لو يُعَمَّر ألف سنة، وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر. والله بصير بما يعملون( سورة البقرة: 96. )والآخرة خيرٌ وأبقى( سورة الأعلى: 17. )وإن الدار الآخرة لهي الحَيَوان. لو كانوا يعلمون( سورة العنكبوت: 64.
إنهم حريصون على "حياة" أيّ حياة! ولو كانت ذليلة وضيعة، لماذا؟ لأنهم أنكروا الآخرة، أو ضعُف إيمانهم بها فلم يعيروها اهتماماً، ووجّهوا كل همهم إلى الحياة الدنيا، فهم يتمسكون بزخرفها.
بمقابل ذلك كان من الأدبيات التي يتناقلها المسلمون: "جئتكم بقوم يحبُّون الموت كما تحبون الحياة".
وإذاً: ألا يحب المسلم الحياة؟! إن حب الحياة، أو حب البقاء، مغروس في كل نفس، وليس بحاجة إلى من يؤكده له. بل إن الذي يحدث -في غالب الأمر- أنْ يربو هذا الحب ويتورّم ويطغى فيحتاج إلى علاج حتى لا ينغمس صاحبه في حمأة الشهوات والمعاصي، وتقعد به همّته عن التضحية لإعلاء قيم الدين والحق والعدل..
وحين وصف النبي صلى الله عليه وسلم حال المسلمين عندما يصبحون غُثاء كغثاء السيل، فتتداعى عليهم الأمم كما تتداعى الأَكَلَةُ إلى قصعتها.. بيّن أن قلوبهم يومئذ قد قُذف فيها "حب الدنيا وكراهية الموت" والحديث في سنن أبي داود.
المقدار الذي يحتاجه الإنسان من حب الحياة متوافر بشكل دائم، وليس بحاجة إلى توكيد و"تنمية"، بل هو بحاجة إلى تشذيب و"ترشيق". وإذا وجدت حالات نادرة لدى أفراد من المسلمين احتاجوا فيها إلى من يذكّرهم بحب الحياة، فلتعالَجْ حالتهم على انفراد، وبمقدار، لا أن تصبح الدعوة إلى حب الحياة شعاراً نرفعه في أجيال غرقت في حب الحياة وشهواتها، وبخلت بالتضحية لإعلاء راية دينها...
2- الحب نبذله للناس، ولا شيء غير الحبّ!
من أراد أن يتصيّد نصاً من هنا أو هناك، ليدلّل به على أن قلب المسلم لا يمتلئ إلا بالحب.. فسوف يجد ما يريد، لكنه يكون قد جافى الحقيقة الشرعية التي تبيّن أن هذا القلب، كما يحب اللهَ ورسولَه ودينه وأولياءه... يكره الكفر والفسوق والعصيان وأهلها!.
إن من يضخم "قيمة" ما، ويغفُل عن القيم المقابلة لها، يعمل على تشويه الحقيقة.
هل نحن بحاجة إلى أن نذكر شواهد على أن قلب المؤمن يعمر بالحب وبالكره: الحب للحق وأهله، والكره للباطل وأهله؟! لا بأس!
قال الله تعالى: )لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون مَنْ حاد الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم...( سورة المجادلة: 22.
وقال سبحانه: )يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبُّوا الكفر على الإيمان( سورة التوبة: 23.
وقال سبحانه: ).. ولكنّ الله حبَّبَ إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم، وكرَّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان. أولئك هم الراشدون( سورة الحجرات: 7.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحبّ" متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار" متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أوثق عرى الإيمان أن تُحب في الله، وتبغض في الله" رواه الإمام أحمد.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من أَحَبَّ لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومَنَعَ لله، فقد استكمل الإيمان" رواه أبو داود والترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم: "وهل الدين إلا الحب والبغض في الله" رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد.
* * *
إن قلب المؤمن يجب أن يكون عامراً بالحب فعلاً: الحب لله ورسوله ودينه وأوليائه، والحب لقيم الحق والفضيلة والصدق والوفاء والشجاعة، والحب لهذا الكون الذي أبدعه الله، ومخلوقاته الجميلة البريئة... ولكن يجب أن تكون فيه، بالمقابل، مشاعر الكره للطواغيت والظالمين والفاسدين، وللقيم التي يمثّلونها: قيم الظلم والجبن والكذب والغدر... وبذلك يتحقق التوازن المطلوب.
3- الدعاء على الظالمين
نشأنا ونحن نقرأ ونسمع الدعاء على الظالمين. وهو أمر في غاية البداهة، فالمظلوم يلجأ إلى الله تعالى يسأله أن ينتقم له ممن ظلمه. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "واتَّقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب". من حديث رواه البخاري ومسلم. لكننا صرنا نسمع دعوة وافدة تتزيى بزي الدين، يقول أصحاب هذه الدعوة: لماذا تدعون على الظالمين بالهلاك؟! أليس الصواب أن تدعوا لهم بالهداية والصلاح؟!
إن الرغبة في هداية الناس يجب ألا تفارق حسّ المؤمن. ويجب أن يكون اهتداء عدوّه إلى الإسلام والحق والعدل، أحبَّ إليه من بقائه على الكفر وتعرَُّضه لسخط الله تعالى. هذه مسلّمة. ولكن الدعوة على الظالم بالهلاك، وإنزال عذاب الله عليه، والنصر عليه... أمر مفهوم كذلك، وشرعيّ، وقد ثبت هذا الدعاء في القرآن الكريم على ألسنة عدد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
)وقال نوح: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً( سورة نوح: 26.
ودعا موسى عليه السلام: )ربنا اطمسْ على أموالهم واشدُدْ على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يرَوا العذاب الأليم( سورة يونس: 88.
ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم أبى أن يدعو على قومه في بعض المواقف، ودعا عليهم في مواقف أخرى، ففي الصحيح عن أنس قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحابه ببئر معونة ثلاثين صباحاً، يدعو في صلاة الفجر على رِِعْل وذكوان ولَحْيان وعُصَيَّه..." رواه البخاري.
فإذا كان المسلمون اليوم يتلقَّون الأذى في دينهم وفي أنفسهم وأموالهم وأعراضهم... فلا أقلَّ من أن يدعوا الله تعالى على من ظلمهم!! ولا تثريب عليهم في ذلك.
* * *
وبعد، فهذه نماذج قليلة من بين عشرات الأمثلة، أو مئاتها، مما تسلل إلى نفوسنا وعقولنا من آثار الغزو الثقافي، وربما تشرّبته قلوبنا من غير أن نعرضه على كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لنقبل منه أو نرفض، وفق معيار ما يرضي الله تعالى.
الأَولى بالمسلم أن ينهل من الكتاب والسنة، وأن يمكّن في قلبه أحكامهما وتوجيهاتهما حتى تتحقق فيه المناعة من القيم الوافدة الزائفة، وحتى تنمو عنده الذائقة التي تميز الخبيث من الطيب.
اللهم أرِنا الحق حقاً وارزقنا اتّباعه، وحبّبنا فيه، وأرِنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، وكرّهنا فيه.
وسوم: العدد 994