حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بين النبوّة والقيادة

يدخل في مفهوم "السنة" أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وصفاته. وهذا عند علماء الحديث، إذ إن اختصاصهم هو جمع كل ما أُثر عنه، صلى الله عليه وسلم، وتمحيص ذلك، وبيان مدى صحته... ليضعوه بين أيدي علماء الأمة، ليأخذ كل منهم ما يتعلق باختصاصه، سواء في ذلك علماء الأصول أو الفقه أو التفسير أو السيرة.

أما علماء أصول الفقه فقد قصروا مفهوم السنة على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته مما يستفاد منه حكم شرعي.

وهنا يطرح السؤال: هل جميع أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله كانت بصفته نبيّاً، وعلى الأمة المسلمة الأخذ بها إلى يوم القيامة، أم أن بعضها كان بصفته، صلى الله عليه وسلم، قائداً سياسياً وعسكرياً وقاضياً ونحو ذلك؟!.

فهنا لا بد من تفصيل: فما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الإيمان بالغيب وأركان الإيمان كلها، وفي العبادات المحضة من صلاة وصيام ونذر ونحوها، ومن تشريعات في شؤون الأسرة وحقوق أفرادها وواجباتهم، وأحكام العقود والبيوع والحلال والحرام... فهذه كلها من الوحي، يقوله صلى الله عليه وسلم بصفته نبياً ورسولاً.

أما تصرفاته القولية والفعلية في شؤون تنزيل أحكام الله تعالى على الوقائع المستجدة من أمور الزراعة والصناعة وإدارة المعارك وفض الخصومات... فهنا لا ينشئ أحكاماً شرعية، وإنما يجتهد في تطبيق الأحكام الشرعية على ما يواجه من أمور.

والمتتبع لما جاء في كتاب الله تعالى وفي صحيح السنة النبوية (بل وحَسَنها وضعيفها) يجد مصداق ذلك. وهاكم بعض الأمثلة:

1- قال تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض. تريدون عَرَض الدنيا، والله يريد الآخرة. والله عزيز حكيم). {سورة الأنفال: 67 و68}.

نزلت الآيتان الكريمتان وما بعدهما في شأن أسرى المشركين في بدر، وقد قبِل النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلق سراحهم بمقابل فدية يتقوّى بها المؤمنون، وقدّر أن انتصاره على المشركين، وقد قَتَل سبعين من رجالهم، وفيهم أبو جهل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأسَر سبعين، هو إثخان فيهم. وجاءت الآيات لتقول: إنّ هذا دون الإثخان. وإذاً فهو اجتهاد في أن ما حدث هو إثخانٌ أو ليس إثخاناً. وهو اجتهاد في فهم الواقعة، وليس إنشاءً لحكم شرعي.

2- قال تعالى: (عفا الله عنك لمَ أذِنتَ لهم حتى يتبيّن لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين). {سورة التوبة: 43}.

لقد أذِنَ النبي صلى الله عليه وسلم، لبعض من استأذنه، في التخلف عن غزوة تبوك. ولا يمكن أن يكون إذنُه وحياً من الله ثم يُعاتَب عليه، وليس هذا الإذن تشريعاً عاماً إنما هو بممارسته صلى الله عليه وسلم حقّه، وهو قائد للجيش، في تحقيق مصلحة المسلمين، فهل يأذن لهؤلاء بالقعود، فمن كان منهم ذا عذر فهو يستحق أن يؤذَن له، ومن لم يكن ذا عذر فإن في خروجه خبالاً، وقعوده أقل شراً من خروجه؟. أم لا يأذن لهم فيتخلّف منهم من يتخلّف بغير عذر وينكشف أمرهم، ويكون ذلك سبباً في تنقية الصف من المنافقين وضِعاف الإيمان؟.

وقد رجّح النبي صلى الله عليه وسلم المصلحة الأولى، وكانت الثانية هي الأرجح في ميزان الله، وعوتب على ذلك.

3- روى البخاري وغيره عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ. ولعلّ بعضكم أن يكون ألحنَ بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع...". الحديث.

وهنا يبيّن النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه أنه عندما يمارس دوره قاضياً، يجتهد في تعرّف الحقيقة وتوخّي العدل، ويحكم وفق ما يظهر له من أدلّة، ولا يُصدر حكمه بوحي من الله.

4- في الحديث المتفق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم عن ضالة الإبل: "مالَكَ ومالَها. دعْها. فإن معها حذاءها وسقاءها. ترِدُ الماء، وتأكل الشجر، حتى يجدها ربّها".

وكان العمل على هذا الحديث إلى أن جاء عهد عثمان بن عفان، فقد أمر بتعريفها وبيعها، حتى إذا جاء ربها [صاحبها] أعطي ثمنَها (رواه مالك في الموطأ). وهذا يعني أن عثمان، رضي الله عنه، عدّ هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم توجيهاً يناسب ظروف العصر، أي قاله بموجب السياسة الشرعية التي يراها القائد، حتى إذا شعر خليفة المسلمين أن المصلحة في غيره غيّره.

ثم جاء عهد علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فبنى للضوالّ مِرْبَداً...

5- في سيرة ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يصالح غطفان على ثلث ثمار المدينة، بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فذكر لهما ذلك، واستشارهما فيه، فقالا له: يا رسول الله، أمراً تُحِبّه فنصنعه، أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: "بل شيء أصنعه لكم. والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة...".

وفي الحادث دلالة واضحة على تفريق الصحابة بين ما يصنعه النبي صلى الله عليه وسلم باجتهاده وما يكون وحياً. والنبي يوافقهم على هذا التفريق.

وما ذكرناه من أمثلة كافٍ في بيان أن ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم في إدارة شؤون المجتمع، وفق شرع الله، يخضع لاجتهاده وتقديره، ويعني بالتالي أن للحاكم المسلم من بعده، سواء في إدارة المعارك أو شؤون القضاء أو التعليم... أن يجتهد في تعرّف حكم الله تعالى في كل واقعة، أو تعرّف ما هو أكثر تحقيقاً لمقاصد الشريعة، في كل واقعة، بعد النظر في سياقها وقرائنها.

وسنورد عما قليل، أقوال عدد من العلماء في فهم تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم، وسنجد أنهم اتفقوا على التمييز بين ما كان منها بمقتضى النبوة، فهو تشريع للأمة، وما كان بمقتضى القيادة والسياسة والقضاء... فهو اجتهاد في تطبيق الحكم الشرعي على الواقعة بمراعاة ظروفها وملابساتها. وإذاً فهم لا يكْتفون بدراسة ألفاظ الحديث والتحقق من صحته فحسب، بل ينظرون إلى السياق والمناسبة. ومع ذلك قد يختلفون في بعض الوقائع فيرى أحدهم أنها بمقتضى النبوة، ويرى غيره أنها بمقتضى السياسة الشرعية.

1- يقول الإمام الشافعي، رضي الله عنه، في كتاب "الرسالة" صفحة 214، بتحقيق أحمد محمد شاكر: "ويَسُنُّ صلى الله عليه وسلم في الشيء سنة، وفيما يخالفه [سنّة] أخرى، فلا يخلّص [أي يميّز] بعضُ السامعين بين اختلاف الحالين اللتين سنّ فيهما".

2- والإمام مالك يرى أن امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن التسعير، الذي ورد في قوله: "إنّ المسعّر هو الله"، والحديث رواه الترمذي وغيره، إنما هو من تصرفات القيادة، ومن السياسة الشرعية. لذلك قال (مالك): "إذا سعّر الإمام عليهم قدْرَ ما يرى من شرائهم فلا بأس". (المنتقى، شرح موطأ مالك لأبي الوليد الباجي).

3- وظهر الخلاف مبكّراً حول قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن قَتَل قتيلاً فله سَلَبُه". رواه مالك والبخاري والترمذي. فقد سُئل مالك عن العمل بهذا الحديث فقال: "لم يبلُغني أن ذلك كان إلا يوم حُنين. وإنما هذا إلى الإمام يجتهد فيه". (المدون الكبرى 2/29).

4- ومثل هذا الخلاف جاء حول العمل بالحديث الذي رواه البخاري وأحمد، وهو: "من أحيا أرضاً ميْتةً فهي له". فقد رأى أبو حنيفة أنها تكون له إذا أجازه الإمام. (كتاب الخراج لأبي يوسف).

5- روى الأئمة مسلم وأبو داود والترمذي عن عائشة قالت: "دَفَّ ناس من أهل البادية [أي حضروا إلى المدينة] حضرة الأضحى في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ادّخروا الثلث وتصدّقوا بما بقي... فلما كان بعد ذلك [في عام آخر] قال: إنما نهيتكم من أجل الدافّة التي دفّتْ عليكم، فكلوا وتصدقوا وادّخروا".

فواضحٌ أن تصرّفه الأول كان مراعاة لمصلحة عامة آنيّة. ولهذا ذهب أحمد محمد شاكر، في تحقيقه لكتاب الرسالة للإمام الشافعي، إلى أنه تصرُّف منه صلى الله عليه وسلم على سبيل تصرف الإمام والحاكم فيما ينظر فيه لمصلحة الناس، وليس على سبيل التشريع في الأمر العام.

ولا يتسع المجال لأمثلة أخرى، إنما نشير إلى بحث بعنوان: "تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة"، المنشور في مجلة: "إسلامية المعرفة"، العدد 24 سنة 2001م. وقد أفدنا منه كثيراً في كتابة هذه الصفحات.

وسوم: العدد 999