من وراء قضبان سجون حفتر شهادات مروعة كتبت بلون الدم!
في غرف مطلية باللون الأسود تكاد من ضيقها أن لا تتسع للهواء، غرف لا تحتوي حتى على دورات مياه أجبر قاطنوها على قضاء حاجتهم داخل قارورات ماء، يقبع أطفال ورجال لأشهر ولسنوات طويلة، تحت وطأة التعذيب الجسدي والنفسي والجنسي من دون رحمة ومن دون حتى أن يحصلوا على أبسط حقوق المسجون المتمثلة في الماء والغذاء والمحاكمة العادلة ليواجهوا مصيرا مجهولا ارتبط بأهواء حفتر وأتباعه.
فمنذ أن حطت سحابة حفتر السوداء على المنطقة الشرقية من ليبيا، تصاعدت حالات الخطف والتغييب والسجن والتهجير القسري، بتهم المعارضة الفكرية وعدم الخضوع للأوامر العسكرية، وانتشرت السجون العسكرية المظلمة الخارجة عن القانون في بقاع متعددة، فليس من الغريب على نظام سيء السمعة كنظام حفتر أن يمارس أبشع أنواع القهر والتعذيب على من يخرج على كل إمرة «اللواء المبجل».
في تحقيقنا سنسرد خفايا سجون حفتر المرعبة مع تعدد مسمياتها ومواقعها الجغرافية من خلال شهادات لأناس عاشوا ظلما وقهرا وعذابا وراء قضبانها وشهدوا قصصا مروعة، وطرق تعذيب بشعة تكاد أن تكون قد اندثرت في كافة بلدان العالم.
في المنطقة الشرقية من ليبيا يتواجد عدد من السجون سيئة السمعة والصيت على رأسها قرنادة وبوهديمة وطارق بن زياد والكويفية، وحسب معلومات صادرة من مصادر موثوقة فيتواجد في قرنادة حسب آخر إحصائية أكثر من 1500 سجين معظمهم من سجناء الرأي، بينما يتواجد في سجن الكويفية حوالي 800 شخص، وفي طارق بن زياد 500 شخص، ويتواجد في سجن بوهديمة 300 شخص.
يعيش المسجونون وراء قضبان زنازين حفتر، في ظروف مأساوية وصعبة، فيتكدس المسجونون في غرف ضيقة جدا، وحسب شهادات عدد من المصادر فإن عددا كبيرا منهم هم من القصر الذين سجنوا لاختلافهم في الرأي مع حفتر أو مع أحد أبنائه أو لرفضهم تسليم أرزاقهم لجماعات حفتر العسكرية.
من سياسي إلى مسجون
«م . ب» هو مستشار سياسي كان يمارس عمله المقرب من مجلس النواب الليبي في طبرق بشكل اعتيادي حتى اصطدم بواقع مريب رفض السكوت عنه تمثل في دخول المخابرات المصرية بشكل مباشر داخل قاعات مجلس النواب، ومنذ أن استنكر ورفض التعدي على سيادة بلاده لم ير النور لسبع سنوات منتقلا من سجن بطرق تعذيب مروعة لسجن آخر بطرق تعذيب أشرس.
يروي «م . ب» قصته لـ«القدس العربي» قائلا: «تم القبض علي من قبل قوات عون الفرجاني مدير مكتب اللواء المتقاعد خليفة حفتر وقضيت 7 سنوات من حياتي متنقلا من سجل إلى آخر بدون محاكمة ولا تهم منطقية. قتل عدد كبير من رفاقي داخل السجن نتيجة للتعذيب، انضم لنا أطفال، وانتشرت أمراض الدرن والجرب في السجن نتيجة للإهمال وحرمنا حتى من الذهاب إلى دورات المياه، منعوا علينا الماء والغذاء وعذبنا من قبل البشر والكلاب الضالة أيضا».
تنقل «م . ب» بين سجن قرنادة الذي مكث فيه لأكثر من أربع سنوات والواقع على بعد مئتين وخمسين كيلومترا من مدينة بنغازي والشرطة العسكرية، وسجن طارق بن زياد التابع لقوات نجل حفتر، وقد عايش خلال هذه الفترة عددا من القصص المروعة قص لنا أبرزها قائلا «على تمام الساعة السادسة صباحا وفي الخامس من آب/أغسطس من عام 2016 استيقظنا مفزوعين على صوت عساكر حفتر الذين قاموا بجر عدد من زملائنا في الغرف قسرا وقتلهم بدون أن يذكروا أي سبب منطقي. لقد كان هذا اليوم من أسوأ أيام حياتي، ولم يتوقف العساكر عند هذا الحد بل هجموا على من لم يقوموا بقتلهم ونزعوا ملابسهم وكنت من ضمنهم وانهالوا علينا بالضرب والتعذيب من دون رحمة وبجميع طرق التعذيب التي اخترعها البشر. لقد استمر التعذيب منذ الساعة الثامنة والنصف صباحا وحتى التاسعة ليلا بدون توقف، لقد وصلت أساليب التعذيب إلى حد التعذيب بالكلاب المسعورة، وكان العساكر كلما تعبوا من التعذيب يبادرون لجلب أصدقاء لهم من الخارج ليكملوا ما بدأوا فيه».
يضيف «م . ب « عقب يوم كامل من التعذيب جلب العساكر لنا طعاما ساخنا ولم يكن لدى أي منا القوة والجهد لرفع يده للأكل، فما كان منهم إلا أن سكبوا الطعام الساخن الحارق على أجسادنا.
ويردف قائلا «كانت غرف سجون حفتر كلها مكتظة جدا، لم يكن طول الغرفة يتعدى الخمسة أو الأربعة أمتار وعرضها كذلك ومع ذلك كان يمكث فيها أكثر من خمسين شخصا لدرجة أن النوم صعب علينا وكنا ننام بشكل معاكس على الأرض متراصين لكي تكفينا هذه الغرف، أو نتكئ على بعضنا البعض».
حظر المياه
يستطرد «م . ب» قائلا «كان الماء من المحظورات داخل سجون حفتر، وكانت حصتنا منه لا تتعدى الساعتين يوميا، فكان العساكر يبادرون بفتح صنبور الماء فقط لهذه المدة يوميا وأما في باقي الساعات ومهما كانت الظروف فالحديث عن الماء هو حديث ممنوع ومحرم».
وحكى لنا متأثرا «عدم الاهتمام الصحي أوصلنا إلى حالة لا يرثى لها، لقد وصلت العديد من الأمراض المعدية إلى السجون، وعانينا من انتشار مرض الدرن والجرب» وأردف قائلا «شهدت انضمام عدد كبير من الشخصيات لهذه السجون لم أتمكن من نسيان معظمها، فالكل في سجون حفتر كان يحمل قصة أغرب من الآخر، فلم يدن أحد بجرم حقيقي».
ويتابع: انضم لنا إلى السجن مسن بعمر الثمانين، لم يحمل أي تهمة إلا كونه صاحب رزق متمثل في أرض زراعية وضع حفتر عليها عينه فرفض منحها له فسجن هو الآخر، ففي دولة وعالم حفتر يجب أن تكون أنت ومالك له وإلا ستقابل بأبشع أنواع الظلم والقهر.
يروي لنا «م .ب» متابعا «كان سكان مدينة درنة هم الضحايا الأبرز لهذه السجون السوداء، قد رافقنا زميل سوري الجنسية وراء قضبان السجن، كان يحمل اسم ربيع الكردي، وكان يعيش في ليبيا منذ عام 2012 وبين ليلة وضحاها وأثناء تواجده معنا في الغرفة تم أخذه من قبل شخص يسمى شريف البرعصي وقد وضع تحت وطأة تعذيب عنيف جدا باستخدام عمود من حديد حتى توفي، ونظرا لتواجدي ضمن من يقدمون الخدمات داخل السجن رأيته بأم عيني، وقمت بلفه في قطعة من القماش بأوامر من العساكر، وقاموا بجره ورميه أمام مدخل مدينة درنة وأضرموا في جثته النيران وعادوا ضاحكين».
الكلام ممنوع
شارك معنا «م . ب» قرار الإفراج عنه والذي وجه إلى جهاز المخابرات الليبية وحمل داخله إثباتا واعترافا صريحا بعدم عقد أي محاكمة للمتهم رغم سجنه لسبع سنوات متواصلة، وعلق «م . ب» على هذه الورقة قائلا «لقد قيل عني أنني سجين بتهم الإرهاب. كل سجناء الرأي كانوا في نظر حفتر مجرد إرهابيين، فقد اتخذها ذريعة كعادته لسجن وتعذيب أي شخص لا يسير على هواه».
وعن البيئة في السجون تابع قائلا «لقد منعنا من الكلام، لكم أن تتخيلوا كيف لشخص أن يمنع إنسانا خلقه الله من أبسط حقوقه، لقد منعنا كافة العساكر من الكلام حتى بصوت منخفض، وحتى في أسوأ الحالات كانوا يبادرون بتعذيب من في المهجع بشكل كامل إن انزعجوا من أصوات أحاديثنا».
وأضاف «في سجن الكويفية سجن حفتر عددا كبيرا جدا من النساء فقط لانهن قمن بالكتابة عنه، وقامت قواته بتصفية عدد كبير من الأشخاص من خلال حوادث سيارات مفتعلة وغيرها من الطرق فقط لأنهم تحدثوا عن حقيقته».
وروى «م . ب» مضيفا «رافقنا في السجن مريض كان يحتاج إلى إجراء غسيل للكلى بشكل دوري ولم تأبه قوات حفتر بذلك حتى توفي. كان كل العساكر يسعدون جدا بموت أحدنا داخل السجن وكأننا عبء عليهم، كانوا يسخرون لنا كل الطرق ليقتلوننا بشكل صريح».
وأشار إلى عدد من الشخصيات على رأسها شريف البرعصي، وحمد الصابري، ويونس معيتيق، وأسامة مرداس، ويوسف اللافي، قائلا «كانوا أسوأ شخصيات في السجن» وأكمل قائلا لقد «وصل القاطنون في سجن قرنادة العسكري إلى ألفي شخص، كان معظمهم من القاصرين والمقصود بالقاصر من لم يتجاوز عمر 18 عاما وكان لنا زميل بعمر 12سنة فقط ليست لديه أي تهمة، وقد تم الاعتداء عليه جنسيا من قبل عدد كبير من العساكر الليبيين، وكذلك المرتزقة غير الليبيين في آن واحد بدون رحمة، وقد كان هذا الاعتداء يمارس مع كل القاصرين».
وعند سؤالنا عن موقف وكلاء النيابة ورؤساء السجون من تواجد المسجونين بدون تهمة رد قائلا إن وكيل النيابة كان يوصي بضرورة تلفيق تهم للموجودين، ضمانا لأن لا يسعوا لمقاضاتهم بعد خروجهم بسبب السجن بدون تهمة ومحاكمة، وكانوا وبالفعل استنادا على بعض أحكام القانون يلفقون تهما غير منطقية كحمل سلاح بلا ترخيص والتعدي.
نساء وأطفالهن داخل السجون
يقول لنا ناصر الهواري المحامي ورئيس منظمة «ضحايا» لحقوق الإنسان أن أكثر الشكاوي تأتي بشكل مستمر من سجن قرنادة وهو سجن عسكري مشدد يتم فيه سجن كل من عليه شبهة أو قبض عليه خلال معارك حفتر. مضيفا «سجن قرنادة سيء السمعة والصيت تهتز جدرانه بشكل دوري من أصوات التعذيب، رصدنا عددا من حالات القتل داخل السجن لليبيين وسوريين وتشاديين ومصريين، قبض عليهم على خلفية حرب حفتر في درنة، وهناك أشخاص سجنوا لفترات طويلة من دون تحقيق وبدون عرض على النيابة، وأغلب التهم كانت كيدية بالاشتباه للانتماء لتنظيم داعش مثلا، والذي يقوم بتحديد التهم ليس وكيل النيابة ولكنه السجان والمشرف العام على السجن وهو مقرب من صدام حفتر ويدعى محمد التاجوري وبناء على هذا التصنيف يسجن الشخص لسنوات بدون حكم رسمي».
ويتابع أن العديد من الأشخاص سجنوا لسنوات بهذه الطريقة أبرزهم طلال الهنشير مدير شركة الخدمات العامة في مدينة درنة، وعمر السنكي وزير الداخلية السابق في حكومة الثني، والعديد من الذين تم القبض عليهم بتهم كيدية وسجنوا لسنوات وأطلق سراحهم من دون محاكمة.
وأضاف الهواري «في قرنادة يتواجد أكثر من 1200 سجين، بعضهم لم يتجاوز السن القانوني بعد، سجنوا قبل سنوات ومنذ عام 2016 ولم يخرجوا حتى الآن. كما أن هناك قسما خاصا في سجن قرنادة يخص كتيبة طارق بن زياد، وينعت المسجونين فيه بلقب بالغي الخطورة وهم من وقفوا ضد عملية الكرامة التي قادها حفتر في المنطقة الشرقية، وكثير منهم انقطعت أخبارهم وغير مسموح بزيارتهم، وقد أنشأ هذا القسم حديثا ويحتوي على عدد كبير من السجناء لم يتمكن أحد من معرفة هويتهم».
ويردف «السجن الآخر هو الكويفية في بنغازي وهو يتبع للشرطة العسكرية وبه قسم عسكري وقسم خاص بالأمن الداخلي وقسم خاص بالنساء وأبناء العسكريين والذين تم القبض عليهم على خلفية المواجهات أو على خلفية تهم المعارضة لحفتر. وقد رصد هذا السجن العديد من حالات التعذيب والقتل، وأسوأ حالات الاعتقال الموجودة في السجن للنساء هي لافتخار بوذراع المحتجزة إثر نشرها لمقاطع فيديو معارضة لحفتر وقد تم حرقها في السجن عمدا وظلت لشهر كامل في المستشفى، فضلا عن ايناس بن غزي التي اعتقلت هي الأخرى على خلفية مواجهات في مدينة سبها مع قوات تابعة للكرامة، وقد قتل زوجها وحملت مجروحة لبنغازي وهي مسجونة حتى الآن. كما يتواجد في سجن الكويفية بعض السجينات الأجنبيات مثل زوجة هشام عصماوي، وشهد العراقية، ومريم اسحاق ومعها ثلاثة أبناء، وصفاء السباعي ولديها بنات وأحفاد وكلهم متواجدون في السجن».
ويختم الهواري قائلا «تمتلك بعض الكتائب سجونا خاصة في المنطقة الشرقية، مثل سجن طارق بن زياد، وسجن مقر كتيبة الفضيل بن عمر وكان يتبع محمود الورفلي المطلوب لدى محكمة الجنايات الدولية، فضلا عن بعض السجون غير المعلومة».
في ما وراء قضبان سجون حفتر سطرت حكايات دموية مروعة، وارتكبت أفعال لا تمت للإنسانية بصلة، ويظل صانعو هذه السجون والأنظمة العسكرية أحرارا طلقاء بلا محاسبة ولا تقييد لنشاطهم لتستمر هذه السلسلة من الانتهاكات إلى أجل غير معلوم.
وسوم: العدد 1019