هل ستنتهي هيمنة الدولار الأمريكي؟
التطورات المتلاحقة التي يشهدها العالم أعادت إلى الواجهة سؤالاً يتردد بين الحين والآخر، ويتعلق بمستقبل الدولار الأمريكي كعملة عالمية مهيمنة، وما إذا كانت الولايات المتحدة ستظل المهيمن والمؤثر الأكبر على الاقتصاد العالمي؟ أم أن توازن القوى الاقتصادية سيتغير لصالح قوى منافسة للولايات المتحدة مثل الصين وروسيا.
واقع الحال أن جملة التحولات الكبرى التي شهدها العالم مؤخراً تشكل تهديداً استراتيجياً عميقاً للدولار الأمريكي، ولهيمنة الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي، على الرغم من أن الاقتصاد الأمريكي لا يزال يُشكل نحو ثلث الاقتصاد العالمي، أو أقل من ذلك بقليل، كما أن الولايات المتحدة ما زالت موطناً لثروات ضخمة ومتنوعة، لاسيما النفط، حيث تُعتبر اللاعب الأهم في سوقه العالمي بسبب إنتاجها واستهلاكها الضخم منه، على حد سواء.
من المهم الاعتراف بأن الهيمنة السياسية والعسكرية هي أحد الأسباب المهمة للهيمنة الاقتصادية، أو أنها مجالات مترابطة، إذ من يملك مفاتيح السياسة والقوة يملك مفاتيح الاقتصاد ويهيمن على الثروت تبعاً لذلك، وملخص ما شهده العالم خلال السنوات القليلة الماضية أن الحضور الأمريكي ينكفئ سياسياً وعسكرياً، خاصة في منطقة الشرق الأوسط وآسيا، وهو ما أغرى القوى الأخرى مثل روسيا والصين إلى التوسع على حساب هذا الانكفاء الأمريكي. والتوسع الروسي والصيني لم يظهر فقط في الحرب على أوكرانيا، وإنما كان واضحاً منذ سنوات عديدة ماضية، إذ انسحب الأمريكيون من العراق، وتركوا وراءهم الفرصة لخصمهم إيران حتى يملأ الفراغ هناك، وبينما كان تدخلهم في سوريا محدوداً ومتأخراً، فقد كانت روسيا حاضرة بقوة هناك، أما الصين ففاجأت العالم مؤخراً بأن لديها مشروع غزو فضائي سيجعلها تسبق وكالة «ناسا» الأمريكية بأكثر من أربع سنوات، إذ ستبني هناك أول مستعمرة بشرية وسيضع الصينيون أقدامهم هناك قبل أن يصل الأمريكيون. وبالعودة إلى الدولار الأمريكي وهيمنته على العالم، فمن المعروف أن نظام «البترودولار» الذي أرست قواعده الولايات المتحدة في سبعينيات القرن الماضي، كان السبب الرئيس في هيمنة العُملة الأمريكية وجعلها عملة عالمية قوية وصامدة، ولا يُمكن التخلي عنها. واستراتيجية «البترودولار» تقوم على أن الدول المنتجة للنفط تشترط أن تكون المدفوعات بالدولار الأمريكي عند بيع النفط، وهو السلعة الأساسية الأهم في العالم منذ القرن الماضي وحتى الآن، وعليه فإن أي مشترٍ للنفط لا يمكنه أن يحصل عليه من دون أن يكون لديه دولار أمريكي، وهذا يعني أنه ما دام الطلب على النفط مستمراً فإن الطلب على الدولار سيظل مستمراً بالضرورة، وفي الوقت ذاته فإن أسعار النفط ترتفع واستهلاك هذه السلعة يزداد، وهو ما يعني أن الطلب على الدولار الأمريكي في ازدياد أيضاً، ما يعني أن الدولار يزداد قوة وليس ضعفاً.
ما يحدث في العالم منذ سنوات هو أن نظام «البترودولار» يهتز نتيجة للتطورات السياسية والعسكرية المتلاحقة، كما أن الاقتصاد الأمريكي بالتوازي مع ذلك يشهد أزمات متلاحقة تؤدي إلى تراجع الثقة به، وهو ما رفع الطلب على الذهب وغيره من الملاذات الآمنة تحسباً للانزلاق نحو أزمة اقتصادية حادة وعميقة، خاصة في أعقاب وباء كورونا وحرب أوكرانيا وسياسة التيسير الكمي التي انتهجتها إدارة دونالد ترامب في السنوات الماضية. في أواخر العام الماضي 2022 قال الرئيس الصيني شي جين بينغ لقادة دول الخليج العربية خلال القمة التي انعقدت في العاصمة السعودية الرياض، إن «الصين ستعمل على شراء النفط والغاز باليوان»، وقد كان هذا التصريح مؤشرا مهما على تململ عالمي بشأن سياسة «البترودولار» ورغبة بالتحرر من هيمنة الدولار. أما التحرك العملي للتحرر من الدولار الأمريكي فكان في بداية شهر آذار/ مارس من العام الحالي عندما بدأت الهند فعلاً بشراء النفط من روسيا بالروبل الروسي، وهو ما يعني أن ثمة حراكا عمليا باتجاه التمرد على نظام «البترودولار» الذي توافقت عليه بالأساس واشنطن مع دول الخليج العربية المصدرة للنفط. ومن المهم الإشارة طبعاً إلى أن الهند تشكل اليوم ثالث أكبر مستورد للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة والصين، كما أنها تشتري 20% من النفط الروسي المباع في الأسواق، وهذا يعني أنها ليست دولة عابرة وإنما هي لاعب مهم في السوق العالمي، وسياستها تؤثر في الاتجاه العالمي العام.
والخلاصة أن العالم يشهد تحولات سياسية واقتصادية عميقة، بما فيها تبدل واضح في مراكز القوى، وهذا يُمكن أن يؤدي إلى انكفاء الدولار الأمريكي وانتهاء هيمنته المنفردة على العالم، ولذلك فانه – أي الدولار- سوف لن يظل الملاذ الآمن على الأغلب كما كان طيلة العقود الماضية.
وسوم: العدد 1030